نقطة على الحرف؛ “باب الليل” للروائي المصري وحيد الطويلة (طبعة ثانية، دار ضفاف ومنشورات الاختلاف والأمان) 2014.
الرواية التي تواضع واتفق عليها النقاد، حين كانت قراءاتهم متناسلة من بعضها البعض على الرغم من اختلاف مشاربهم وتفاوت ثقافاتهم وأعمارهم، وعبر أكثر من خمس وخمسين قراءة ومقالة، استطعت حصرها في الشبكة العنكبوتية، شاب روحي انتعاش منقطع النشوة، وربما صرخت هاجساً ملء حنجرتي: فعلها وحيد الطويلة، في كناية إلى الوحدة العربية، من باب الذي خربته السياسة أعاد بناءه الجنس. لكن السؤال الملحاح الذي بقي يلكزني دون هوادة، بعد هذا الفرش من القراءات الكثيرة لنقاد كبار وأسماء صحفية معروفة، لماذا لم تتلمس “باب الليل” طريق الجوائز، ما الحكاية “باب الليل يطرق عامه الثالث ولم يغلق بعد”؟.
المروية الإشكالية التي ولدت من رحم القهر والحرمان، والمؤدلجة لمرجعيات شخوصها، حاك نسيجها درزي ماهر، يعرف من أين تؤكل الكتف، ويعلم علم اليقين إلى أي مآل ستؤول، من خلال شغله على تقانات النص -الإسقاطات والاستعارات والاستدعاء التاريخي- عبر جمالية سردية شائقة، قاربها بواقع الحياة بكل أوزارها، حين رش “القنبس” لطائره الشغوف –القارئ أو المتلقي- تاركاً للأخير باب الفخ موارباً، ليتلمس مفاتيح النص وشيفراته، والوصول إلى ترميزات أكواده المخاتلة، تارة بإشراكه في اللعبة من خلال منولوجات هامسة بينه وبين شريكه الافتراضي، وتارة عبر حواريات داخل النص، “هل رأيت امرأة تسيل الرغبات على جدرانها، مثل حبات صغيرة مكتنزة تنفرط على انحناءة هنا وبروز هنا أيضاً، وتتوقف إن توقفت في المكان الذي اشتهت أو استهواها، تسيل متباطئة على منحدر، تتريث عند زاوية، وقد ترتاح فوق قبة أو تغطس في سرة أو مآوى”؟. وحين يخاطب بطله من الداخل: “قف يا أبو شندي أنت لست من هنا”، مسهباً: “البندقية مثل المرأة، تشبهها، الجزء الخلفي اللامع المصقول بعناية، المنتفخ بحساب لتضمه لصدرك جيداً، ليركن ويرتاح”، وأيضاً: فتيات الهوى، كسروال العسكري، يخلعه جندي مجهول لا تعرفه، ليلبسه جندي آخر مجهول لا تعرفه
أليس العتبة العريضة للرواية –العنوان- “باب الليل” هو إشارة لحياتين متضادتين، الداخل والخارج، عندما اتخذ من المقهى متنفساً للمكبوتين، الباب المشرع للهروب من واقعهم وانكساراتهم على كل الصعد، عاطفياً وسياسياً واقتصادياً، في المقهى وحده يحققون ذاتهم، يفرغون غلهم، كلعبهم الورق يومياً، أليست هي اللعبة الوحيدة التي ينتصرون بها غالباً، وإيلاجهم باب الجسد، لأن “الجسد سيد اللعبة، واللون الخمري بوابته، والعجيزات بطاقته”، المقهى الذي تغزوه “قبيلة النهود، اللواتي يبخرن المقهى بحضورهن، “ترسانة أسلحة نافرة من لحم وملابس وماكياج وعطور، ثم ينتقلن إلى مقهى آخر لاستكمال الفتوحات”.
“صدر الفتح المبين، النهود المترجرجة تحت نار الشبق”. لعب الكاتب من خلال مخيال ثرّ منفتح، عندما فتح باب العسل، وهو أحد أبواب الرواية، كصنبور ماء معطوب، ضاخاً متلقيه،” بمفردات حسية تنير هواجس لغة متشظية تتحول إلى لغات عامية وفصيحة.. ترك لباب حمام المقهى، المشاركة بالمؤامرة، حين كان ينفتح وينغلق سريعاً، دون صرير وبلزوجة.
لعب الكاتب على وتر متلقيه، بعد أن جزأ عمله إلى خمسة عشر باباً، باب العسل، البحر، الريح، النار، الرجال، النساء، اللا درة، ولجها من باب الجنس الذي تخر تحت أقدامه الجبابرة، حلق بقارئه عالياً حد تحسس أعضائه، لغاية باب الريح الحادي عشر، ليسقطه أرضاً دون رادع، مما يشي لي بأنه أسقط الرواية، ليعاود كرّة التحليق نحو مدى أبعد، بباب النار والذي أدعي بأن الرواية انتهت هنا، وأن باب النساء والرجال التاليين، ليسا إلا إعادة للتعريف بهوية شخوص الرواية، نحو باب اللا درة الأخير حيث النهاية الكلاسيكية “فيلم هندي أو مكسيكي”، وهذا يدلي بأنه أراد تحميل عمله فنياً، على حساب ما قدمه من مادة عالية الدسم، ليصار إلى توافد الأجوبة عما سلف من أسئلة، بأن وحيد الطويلة وعبر اقترافه كتابة “باب الليل” أوقع النقاد الذين لم يحابوه، في شرك فحولتهم الحاضرة والمستعادة، تاركاً لهم باب الهروب أماماً.