“شجرة العابد”.. سحر السّرد المتناغم بين التخييلي والعجائبي

شجرة العابد
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

فرج مجاهد عبد الوهاب

-1-

لئن اعتبر القرطاجني في “منهاج البلغاء وسراج الأدباء” أن من شروط التخييل ، اقتراب الشيء المحاكي من الشيء المحاكى، فإنه لا يوجد تخييل يدخل من باب الممتنع العجيب الذي يمتع النفوس، “وكلما اقترنت الغرابة والتعجب بالتخييل كان أبدع، ومن هذا المنطلق فإن – عبد الظاهر الجرجاني – يعتبر التخييل أظهر أمراً في البعد عن الحقيقة وأكشف وجهاً في أنه خداع للعقل وضرْب من التزويق (الجرجاني في أسرار البلاغة)وَدفعاً لما ألصق بالتخييل من صفات كالكذب نفي القرطاجني  أن يخضع الشعر بما هو ضرب من التخييل للصدق والكذب، وألحّ على ما يترتب على التخييل من نزوع إلى استجلاب المنافع واستدفاع المضار ببسطه النفوس إلى ما يراد ذلك، وقبضها عما يراه بما يخيل لها من خير أو شر “”جابر عصفور”

فما وضع من حدود للخيال وما اشتق منه من مصطلحات يتفق في أن المخيل من الأشياء في الكلام يقتضي الإبهام بما كما يقتضي التفنن في تقديمها وإبداعها إبداعاً قد يخرج بالمخيل من نطاق المحتمل إلى نطاق الممتنع المخادع للعقل. وليس التخييل في العصور الحديثة ببعيد عما حدّ له قديماً من حدود وإن ، تسع مفهومه لدى بعض المنظرين، فأصبح يشمل الفنون كلها ، ومما هو جارٍ من معانيٍ لمصطلح تخييل كما ذكرته  “دوريت كون”

التخييل بما هو في القصة المبتدعة (رواية وأقصوصة)

التخييل معرّفاً بكونه الوجه المقابل للواقع والمضاد له

 ولكن استعمال مصطلح – تخييل – تمحض في الدراسات النظرية المتأخرة للدلالة على السمة القصصية، ومن هذه الناحية يصبح التخييل رديفاً للقصص، وفي نطاق حبكة قصصية دقيقة متخيلة أحداثاً توهم بأنها من الواقع، وقد ذهبت “هامبوغر” إلى أن ما يقوم في النص السردي المتخيل من أحداث تحاكي الواقع مخالف لما هو في عالم الناس، ولذلك كانت أولى خصائص التخييل الأدبي مفارقته للواقع وإن حاكاه  (انظر: معجم السرديات ص74 )

وبالمقابل فإن العجيب هو ما يرد في نص قصصي من أحداث أو ظواهر حارقة لا يمكن تفسيرها عقلياً والعجيب أصناف أربعة:

  • العجيب المبالغ فيه وسمته الرئيسية تجاوز الظواهر أبعادها المألوفة في الطبيعة.
  • العجيب المجلوب أو الإغرابي، ويتصل في العادة بما يثير الانتباه من ظواهر غير مألوفة لدى الأمم الأخرى.
  • العجيب الأدوي، وسمته وصف أدوات لا تسمح تكنولوجياً العصر بإنتاجها لكنها رغم ذلك ممكنة من قبيل بساط الريح.
  • العجيب العلمي أو ما يسمي الخيال العلمي، وهو الذي يفسر الخارج تفسيراً عقلياً اعتماداً على قوانين يقرها العلم المعاصر (معجم السرديات 286)

من الواضح أن قواسم مشتركة عديدة يتقاسمها التخييل والعجيب والسؤال إذا حاول الروائي المبدع، وبما يملكه من خيال واسع، وأدوات إبداعية، وقدرات فنية خاصة وحاول استغلال المصطلحين في عمل روائي واحد فما مآل النص الروائي وإلآم ينتمي؟

-إلى التخييل أم إلى العجائبي، أم أن السرد وتماهي المصطلحين في فضاء النزوع إلى التجديد، فهل سينتهي النص الروائي إحالة إلى الواقعية السحرية، أم إحالة إلى الفانتازيا؟

-2-

هذا الاهتمام وذلك التماهي المفرد في فضاء كل من التخييل والعجائبي كان من أهم ما عمل عليه الروائي المبدع “عمار علي حسن” في روايته الإشكالية “شجرة العابد” الصادرة عن دار الشروق عام 2012.

و”شجرة العابد” في مسرود الرواية إنما تشكل نقطة مركزها ومرتكزها، من تصور الحالات والإحالات وإليها تعود لتتوزع على سياقات كل من:

  • الشخصيات سواء الأنسية أو الجنية.
  • الأحداث الموافقة للواقع أو المفارقة له.
  • الإيحاءات الروحية والصوفية وهي تبحث عن مصير الإنسان وحالات الوجود وسحر الشوق

وهذا ما يحوّل الشجرة – اللغز والرمز – الحالة والإحالة- التصديق والتكذيب.. التخييل والواقع، أفق تبئير يحاول المبدع من خلال ذلك الأفق أن ينتقي للمعلومة السردية أداته بؤرة واقعة في مكان ما لا يسمح لا بمرور المعلومة التي يحوّلها المقام السردي الذي يدور حول مركزه وتمركزه.

و”شجرة العابد” ولدت في أحضان أمواج الحصى المدببة التي انغرست في سنابك وخيول ونعال جنود سرية شاردة من جيش الفرنجة، ويخرج ثمري من رحم زهرة بنفسجية رائعة لونها، لها عشرة أجنحة عملاقة تتجاور فتبدو للغريب سرباً من نسور فتية، زهرة وقورة كأيام الحداد، مبهجة كساعات الفرح ناعمة كالحرير، متينة مثل الكتان راسخة كأنها طود أشم لا يهزها ريح، ولا تهب رحيقها إلا لملكات النحل، تغازل النور، وتعانق شمس الضحى والعصر البرتقالية ، تمتص من أشعتها الضياء ، فلما يجن الليل تنير كالقناديل المباركة فتهدي السائرين ليلاً (ص13)

أوراقي معروفة انسيابية، بعضها مستدير وبعضها بيضاوي وكثير منها مخروطي الشكل.

جذري مغروس في أعماق سحيقة، ربما يخترق سبع طبقات من هذه الأرض، حتى ينفتح على البحار المائية التي تجري في بطنها في البعيد (ص14)

يتشاءم الناس من البوم لكني أحبه، ويروق لي بصره الحاد يذكر ببصر اليمامة التي التقطتني يوماً وأنا على شفا الموت حرقاً لأني كرهت الجرذان بعد أن أكلت سنابل القمح في الحقل البعيد.

هنا تحت قدمي العملاقة يقف الناس مشدوهين، تملأهم أسئلة لا نهاية لها عن منشئي ومسيرتي.

هذه الشجرة اللغز والرّمز كانت شغل بطل الرواية عاكف الذي كان وحده الذي يسمعها وتحكي كأنها تخاطب الناس أجمعيْن.

هكذا بدا العابد حين رآني أول مرة، وكان يصلني كل ما يدور برأسه فأبتسم راضية، كنت أعرف أنه يعرفني بعد أن أحاطه رسولي خبراً بأنني هنا منذ مئات السنين.

وتأمره بأن يغمض عينيه فيفعل لتتفتح أمامه سماء وأرض تطوي بين دفتيها بستاناً يانعاً. وبان وسطه رجل قوي البنيان كانت نسائم الفجر تقطر بالندى أمام ناظريه، يأمره بطعام وشراب فيأتيه  “تركت لك أرضاً يرمح فيها الخيل وعليك إن لم تضف إليها ألا تضيع منها سحتوتاً واحداً، هكذا أوصاني جدك وفعلت بالوصية وها أنا أوصيك فالتزم (ص19)

وتتكرر حوادث سرقة الفاكهة فيأمر البيه بقطع أشجار الشط وليبنوا حائطاً قصيراً من الطوب واللبن وفي اليوم التالي امتدت الفؤوس والمناشير إلى الأشجار فأردتها قتلي وجاءوا إليها وراح أحدهم يضرب أسفل ساقها بعنف إلا أنه لم يترك سوى خدوش بسيطة أحضروا منشاراً وعندما وصل إلى اللحاء انبجس دم فبرقش وجوههم فتراجعوا فزعين، راحوا يراقبونها حتى هوت صريعة (ص23)

كم من الوقت يمر على نبتة كي تصبح شجرة، نظر هناك فوجد الجبل راسخاً كالزمن ثم نظر عن يمينه ويساره فاهتز فرعان متدليان على رأسه فعاد يقول: مجنون من يترك الشجرة العظيمة وناديت الرجل

-الزم دارك أيها العابد فدخل المغارة مسبحاً لرب الملكوت.

-أنا العابد .. صباح الخير أيتها الشجرة المباركة ، غريب أنا على هذه الدنيا والنهر يعرف غربتي فطوبي للغرباء، كنت ذات يوم عاشقاً يكابد وجع الفراق ولهفة اللقاء العابر والكلمات العاجزة طلت على أيامي الجرداء فتفتحت أزاهير الأمل (ص35)

وجاءني هاتف من بعيد أو من داخلي لا أدري

-أيها العاشق اتبعها إلى حيث تكون، واختليت بنفسي ورحت أسترجع التفاصيل الدقيقة لطلتها السريعة، وقلت في نفسي

-حب عفيف، وقال هاتف من بعيد: شيء جديد عليك، ونظرات خلفي كانت تسبقها البسمة المعالم الجسدية نفسها، الطول وشكل الرأس المخفي تحت الطرحة السوداء التي ذابت في أجنحة العتمة ولما قالت لي وهي تبتسم: جئت إليك بدلاً من جريك ورائي تيقنت منها، وسألتها بصوت مرتعش:

– هل أنت موجودة معي في الغرفة؟

-أنا نفسي.

-كيف دخلت؟

-من الباب.

-الباب كان مغلقاً من الداخل بترباس كبير ومتين، فالتفت إلى الباب ثم إلى النافذة وضحكت قائلة:

-من النافذة.

-مغلقة هي الأخرى من الداخل.

وتنظر إلى السقف فتجد كوة وتقول: من السقف، ويحتج بأن جدران بيته عالية ورنت ضحكة عالية ثم خفت وتركتني فريسة للحيرة ولم أتبين إن كنت جالست معشوقتي أم زارتني في المنام ووجدت نفسي مستريحاً لما جرى حلماً كان أم حقيقة (ص41)

ويسمع نداءً جلياً يقول له: انزل هناك على الأرض مستقرك ويسمع صوتاً هامساً في أذنه

– لا مهرب مني، طريقة واحدة تنجيك .. تتزوجني.

ولم أعد أدري ما أقول وأفعل .. هل أقبلها مجذوباً بالعشق الجارف أم أرفضها خوفاً من المجهول ولاذ بالمسجد الذي ما إن توجه إلى قبلته حتى سمع صوتاً يناديه من كل مكان.

-لا تتعب نفسك وتواصل الهروب.

-تطارديني حتى في المسجد!

-المساجد ليست لكم وحدكم.

-وراح الناس ينظرون إلىّ وأنا أكلم الفراغ

ضربتني بلطف على كتفي وقالت:

-نحن نَرى ولا نُرى.. ونغيب في الثرى ولا يموت كهلنا حتى يعود شاباً

-نحن مأمورون ألا نقترب منكم

-بلقيس ملكة سبأ تزوجت نبي الله سليمان مع أن أمها كانت جنية

-هو نبي أما أنا فعبد هناك.

-ربّ أشعث أغبر لو أقسم على الله لأبره.

ويسأل إمام المسجد عنهم فيقول له: هم أقوام مثلنا يدينون بكل الأديان

-هل يجوز الزواج منهم.

-الإنس جسم كثيف والجن روح لطيف لا يجتمعان.

-فإن كان الإنسان مجبراً.

-مناكحة الجن مكروهة، ثم يروي له حكايته وينصحه بالزواج من دينه فيخطب سميحة وما إن تمت الخطبة حتى بدأت سميحة تعاني من حالة غريبة زارها أحد الدراويش وقال: ليست مجنونة بل مسهًّا جن، وذات ليلة انشق عنها حائط بيته وقالت بغضب

– لن أتركها حتى تتركها، ويترك سميحة وتعود إلى حالتها الطبيعة وتظل الجنية – نمارا – تلاحق عاكف حتى نزل عند رغباتها لتبدأ مرحلة أخري من التخييل العجائبي وأخذته إلى عالمها ومدنها العجيبة وزار معها المدينة وقالت له: الآن بوسعك أن ترى ما تريد (ص57)

وتنظر إليه في استنكار وسألتني:

-ألا تعرف هذه؟

-لا

-شجرة.

-كل هذه شجرة واحدة ولقد ظننت أنها غابة كاملة.

-ألم تر مثلها من قبل؟

-لا

-كيف ذلك ولديكم على الأرض واحدة مثلها.

-على الأرض، وأين نحن إذن؟

-نحن خارج كوكبكم البائس.

-على القمر، أم على المريخ؟

-بل في مكان قصي على طرف المجرة.

-أتوجد شجرة كبيرة مثلما على الأرض.

-نعم.

-في أي مكان.

– هناك بين أحضان الصخر، وعلى حواف ماء عذب يتدفق منذ آلاف السنين.

ويسألها إن كان الجن قد زرعها.

-الجن لم يزرعها لكنه ساعد كثيراً على أن تثبت على هيئتها وتحاول أن تغريه في البقاء في أرضها لأن أيامه ستكون أجمل ويسمع أصوات موسيقى عذبة جعلته يميل على نمار وقلت: هذه أعذب موسيقا أسمعها ، فقالت: مجرد وتر من أوتار الجنة.

ويعود يطلب العودة إلى الأرض فتجيبه “يعتقد المتجبرون في أرضكم أنهم وحدهم سكان هذا العالم منذ آلاف السنين.. كم من دول سادت على أرضكم منذ بادت، لم يفكر الذين خاضوا الحروب وسفكوا الدماء، وأقاموا الإمبراطوريات أن أرضهم صغيرة جداً ودولهم على عمرها المديد ليست سوى طرفة عين في الزمن اللانهائي. (ص71)

-رديني إلى عالمي الأول كي أفهم ما تقولين، لكنها تجاهلت طلبي وقالت: يحارب البشر الشياطين الذين يقرءون عنها في الكتب المقدسة وينسون الشياطين التي تجري في دمائهم.

-أنا أريد أن أعود إلى الأرض.

-هذا مستحيل

-مستحيل أن أقضي حياتي هنا

-كل يوم أتأكد من أن الأرض أعظم من فضائكم والإنسان أعجز مخلوقات الله.

وبعد إلحاح يعودان إلى الأرض، جلست بجانبي، وقالت:

-هنا كان بيتك فقد مر ثلاثون عاماً تغيرت فيها الأحوال وتبدلت ويروي حكاية الحاج حسين التي تذكرها، ويأخذه عبد الكريم إلى بيته وطلب من زوجته تحضير الطعام للضيف الذي لم يكن سوى جبن وباذنجان مشوي وشرائح البصل قال عبد الكريم الموجود على ما قسم، وهمست نمار في أذني: رجل طيب كريم وبعد برهة أحضرت نمار خواناً فيه لحم محمر وشرائح لحم وفاكهة فدعا عبد الكريم زوجته وأطفاله ليتمتعوا بهذا الطعام اللذيذ.

ونشرت زوجة عبد الكريم بأن عاطف العابد أنزل مائدة من السماء ويموت الحاج حسين وهو ساجد على الأرض، واختلف الناس في تفسير ما جرى ، كان بعضهم يشيرون إلى قطعة الحبل الجاثم فوق ضفة النهر ويقولون: الكنز هناك، ذهبت وماس وما خفي أعظم (ص105)

ويصرخ إمام المسجد أن الحاج حسين قد كشف الله عنه الحجاب لأنه ولي له، رأي قبل موته موقعه في الجنة فهام به حباً.

ويشتاق إلى نمار وتدعوه لأن يطفئ ناره في إحدى الزراعات يأخذ متسعاً من نوم فيأتيه الحاج حسين وراح يمسح بيده اليمني على شعره ويقول:

-أنت من ستكمل الطريق، كررها ثلاث مرات ثم أعطاني البيرق الأخضر، وأمر إحدي الحمامات أن تحط على رأسي، ثم دس في يدي ورقة صغيرة يلفها فراع كامل إلا من عند المنتصف، توجد عدة حروف بلغة لا أعرفها، ثم قال لي: حين تستيقظ توضأ واسجد طويلاً، ثم اعصر رأسك وافحص بعينيك كوخي البسيط ولا تذهب حتى يتحقق لك المراد وتسأله نمار: ألديك تفسير لما جرى؟

-طريقان تلتقيان، إنه لغز

-أي لغز

-الحروف المبهمة، والأوامر الجلية والشيخ ذو الرداء الأبيض والحمام الأخضر. ولقد رأيت ما علمت به لابد أن هناك أمراً جللاً ينتظرنا (ص119)

ويقبل الناس عليه بعد أن شاع خبر المائدة يعرضون عليه الأراضي وبناء القصور فيلتقي بكوخ الشيخ حسن مقاماً له وسكناً.

ويحضر له الزهيري وأبو غلاب طعاماً، لقمة على ما قسم يا مولانا، نعرف أن بوسعك أن تنزل علينا مائدة من السماء أفضل من هذه بكثير لكن هذا ما يوسع أمثالنا أن يقدموه ويتشاركون الطعام وشرب الشاي ليختلي بعدها بنمار ويطلب منها أن تأخذه معها إلي القمر فضحكن وقالت:

-ليس الآن، ستذهب ذات ليلة، وأجعلك تدور في جنباته وتعود وفي يدك أحجار من صخوره، ويناديه هاتف من أعماقه: خلّ الدنيا وراء ظهرك، وهذبْ شهواتك ولا تصرفها إلا في حلال ولا تحزن على شيء يفوتك، فالأجمل ينتظرك دوماً إن أخلصت (ص148)

وجاء صوت يسألني: أتريد أن تراني؟ فأجبت بلهفة: نعم

فعاد إلى الضحك، وقال: اغمض عينيك واصمت، لا تكلم أحدًا حتى نفسك وعندها ستراني، ففعلت وقلت: لم أر شيئاً، فجاء الصوت ضاحكاً مرة أخري وقال: إذاً لا تزال أعمى (ص152)

ويطلب من نمار رحلة طويلة إلى المحروسة وتنص على مسامعه ما جرى

-سأحكي لك الأعاجيب، وروت له ما جعله يتقافز من هول ما روت (ص155) ويقال: إنه عند رجل في المحروسة طاعن في السن حضن الشجرة ضد السرقة والفناء، ولا يستطيع أحد أن يطلع عليها مهما كان إلا بإذنه وهو لا يأذن لأحد لا إنس ولا جان، هكذا يقال، لكن لا أحد لديه الحقيقية كاملة.

ويمضي إلى قصر الحاكم في المحروسة وفي الطريق يتذكر الشيح القناوي وسجنه وظلمه وأنهم حرموا الآلاف من أن يستفيدوا من علم الرجل.

أتدري ما طلبه السلطان من القناوي بعد خروجه من السجن؟

– أن يلزم داره

– بل يساعد السحرة والمتصوفة الذين كانوا منهمكين في تحديد مكان الشجرة المباركة، لكن القناوي رفض (ص178)

وجاء السلطان راكباً النهر ونزل في المكان المحدد وقال له:  ما وصلنا عن كرامتك يا مولانا يجعلني مطمئناً إلى ما أقول

وجاء صوت نمار: لا تسخر من الأساطير التي أحيتك من عدم.

وفي اليوم التالي يستقبله الحاكم في قصره ويتناول الطعام معه ثم أشار إلى الطابق العلوي وقال: ترقد هناك مريضة لا تبرح مكانها يصعد إليها يعالجها ثم يتم شفاؤها: يأتي المرض بغتة ويذهب رويدًا ويقول: دواء مريضكم في المحروسة، ورقة مدفونة تحت جدار أحد الأمراء فيها سطور قليلة نضعها على سطور في ورقة لدي، الحرف فوق الحرف والكلمة فوق الكلمة فإن تطابقتا، فتح الله علينا بما يبحث الجميع عنه

-إذن عدنا إلى الشجرة.

-ليس غيرها

-أي أمير تقصد؟ فقالت لي نمار: قصره مكتوب لي كتاب لدى ملوك الجان وقالت: قصر الأمير شهاب الدين وليشتري والي منفلوط قصر الأمير بأي ثمن يريده (ص190)

ويعود إلى السلطان وهاتف داخله يقول له: لو كان أمسك بكفك قبل ثلاثين عاماً لقطعها، أو وضع الأغلال فيها وساقك إلى السجن.

وقلت له: سنجلس سوياً خلال فترة إقامتي في المحروسة وأرى لك ما تريد والنجوم تقول إن الأمير شهاب لن يمانع وقال له: لا يمكنني أن أسترد هدية إلا إذا أهديتك أفضل منها ويهبه القصر الأخضر بدلاً من القصر الذي تحت سوره الورقة ويصف الراوي القصر من الداخل والخارج

 ويبدأ الحفر حتى أطلت جرة كبيرة أخذوها وقدموها لعاطف ويطلب منهم الصمت وعدم إفشاء السر فيعترض أحدهم ويقول:

-أي سر ّ في جرّة؟ لو كان ذهباً أو ياقوتاً أو مرجاناً فلدى مولانا أكثر من ذلك وينهال الرجل البدين عليه بالسوط يتأمله عابد ويعرفه.

-أمسك عليك لسانك يا صفوان ولنا لقاء غداً بعد العشاء في الأزهر وينكس الجرة وتسقط منها صرة كبيرة فكها فوجد فيها صخرة سوداء طويلة مفرطحة على جانبها حروف غريبة، قالت: نمار إنها الهيروغليفية وفي الجامع الأزهر يلتقي بصفوان ويأخذه سراً إلى بيته ويعرفه على زوجته ويروي كثيرة عن فترة هروبه عند برسوم (ص227)، وكيف قابل زوجته حفصة ويطلب منها أن تتزوجه فتقول له:

-أتتزوج عاهرة.

فابتسم وقال: بل اسألها هي: كيف تزوجتْ قعيداً وبفضل رعايتها ودوائها تعافى ويطلب منه أن يرى القناوي فيجيبه بأن القناوي مات قبل أيام وأنه زاره قبره ليلة أمس .. لقد مات في السجن ويلاحظ السلطان حيرته فيطلب منه أن يرتاح وموعد المقابلة منتصف الشهر ويهرب من الضاميْن ويزور قبر شيخه القناوي.

في قصر السلطان يقول له: جئت لتساعدنا في نيْل خيرات الشجرة المباركة فوجدت ما هو أولى، انتظرنا الجواهر فجاءت ذات الصواري (ص246)

وواصل: أنت تؤمن بالعوام وتثق بهم ظلوا يتهامسون سنين طويلة عن سعي وراء الشجرة الكنز حتى أن أحدهم جهر بالقول في الناس بصحن الأزهر ولم يخف، وهذه بداية خروج الناس علي

-أتقصد الرجل المخبول صفوان.

-دليل آخر على كراماتك يا شيخنا ينتهز الفرصة ويطلق بناء على الهاتف الذي ظنه السلطان ويطلب منه أن يطلق سراح صفوان فيرفض السلطان فيقول له: لو قتل صفوان ستتغير الأحوال فقد لا ينتصر الجيش وينقطع الخيط الذي نسلكه وراء الشجرة المباركة.

-كل هذا من أجل ذلك الجربوع؟

-ليس من أجله، لكن اعتراضاً من القوة الخفية التي نستحضرها ونسترضيها على سفك الدماء والهاتف أمرني أن أسدي لك نصحاً.

ويأمر السلطان: لا تقتلوا صفوان حتى أقضي فيه من جديد

– هاتفي أمرني بما نصحتك فيه ثم له ذرية وزوجة فيأمر السلطان بإحضارهم وجاءت زوجته حفصة مكبلة في الأغلال وما إن رفعت البرقع أعجبت السلطان ثم جي بصفوان وقال له السلطان

-عفونا عنك أما زوجتك فستبقي لدينا حتى تعود من الحرب.

-لك السمع والطاعة يا مولانا.

وضم حفصة إلى حريمه ويزحف الجيش الجديد إلى عرض البحر وبمرور الوقت اكتشف أن تفكيره في نمار لا يتعدى الاحتياج إليها كطريق لمعرفة بعض ما وراء عقلي وهذا ما ينتظره السلطان مني وفي حوار معها يقول لها: تتحدثين عن الحب كثيراً يا نمار، وتتناسين أنك تسخرينني من أجل أن يصل ملك الجان إلى شجرتنا الأرضية.

لكن.. شجرتكم لم تعد تلزمنا ، مات ملكنا الكبير وأدرك أن نمار لم تعد معنية بالشجرة المباركة ، نظرت إلي بغضب وقالت:

– لا تطلب مني شيئاً بعد اليوم فما كان يربطنا انقطع ورحلتنا سوياً أشرفت على النهاية فأنا لا أستطيع أن تفكر في غيري أنا عنيدة وناري لا تبرد أبداً (ص264)

 وتذهب نمار دون رجعة وتسأله حفصة عن زوجها صفوان وتشكو له وجودها في القصر.

ويشعر أن حفصة ملأت روحه عشقاً ويهربها من القصر بعد أن جاءهم خبر موت صفوان، ويقول لحفصة ما كان يدور بخلده فقالت:

-اتق الله يا عاطف، ويأخذها إلى الكنيسة وينادي: برسوم فجاء رجل وقال له: أنا عاطف تلميذ القناوي صديقك يا برسوم ويقول له: هذه حفصة أرملة صفوان وهي أمانة لديك حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً ويتركها مع الراهبات

وفي الحمام يتبادل ثيابه الفخمة مع ثياب فران مهترئة ومرقعة  ويذهب إلى الدير ليلتقي بحفصة.

-كيف مالك يا صاحب الخرقة؟

-تنكرت حتى أتمكن من زيارتك، هاج قلبي لوعة.

-تبدو من أهل الطريق.

– ما أبعدني عني.

-بل ما أقربك يا عاكف.

-كنت أظن هكذا أيام القناوي

-نمار التي أخذتك إلى الفضاء البعيد.

-هذه حكاية لا يعلمها إنس سوى أنا.

-فوق كل ذي علم عليم.

-أنت جاهل على علمك، ناقص على سعيك إلي الاكتمال، ضائع رغم أنك تفتقد أن السلطنة كلها معلقة في ذيل جلبابك ضيعت عمرك في دَرْبَيْن غريبيْن عليك وآن لك أن تسلك ما خلقت من أجله.

-كلامك غريب هذه المرة.

-الأغرب قادم (ص324-227)

خرج من عندها قاصداً الأزهر فصلى العصر وراء الشيخ بسام الدين وبعد الصلاة سأله عن الطريق إلى ذي النون كما أوصته حفصة  ويدعوه الشيخ إلى بيته ويخرج ثلاثة صناديق ضخمة مملوءة بالكتب فتح كتاباً فوجده يصف ذا النون، ويشرح كيف أن الخليقة المتوكل أمر بقتل ذي النون (ص329)، ويعود إلى حفصة ويقول لها:

– لم يكن الطريق بعيداً عني أبداً في رحلتي الطويلة، كنت أراه يتهاوى أمامي أحياناً فأضع عليه قدمي، لكن تأخذني منعرجات لا تنتهي.

– لا تتعجل يا عاكف، درب السالكين طويل.

ويعرف أنها بنت الحاج حسين الذي وصل إلى سر الشجرة المباركة وأنه علمها أكثر مما يعلم الأزهر طلابه ويعود إلي صناديق كتب الشيخ بسام وفي الطريق يسمع منادياً يزعق: يا أهل مصر المحروسة اختفت سيدة تدعى حفصة سرقت جوهرة تخص زوجة السلطان واختفي رجل اسمه عاكف سرق أموالاً طائلة من بيت المال..(ص336)

ويرمي نفسه في حلقة الذاكرين يسأل بعد أن انتهت الشيخ عابد الطوخي: أين أجد حزب الوقاية لمن أراد الولاية؟

هو لشيخنا محي الدين بن عربي وأعطاه كتاباً وقال له: اقرأ وتدبر ويفتش في الكتاب حتى وجد غايته ويقرأ صامتاً (ص339-343)

ويعود إلى برسوم ويخبره بأن والد حفصة كان عبداً صالحاً ويسأله طريقاً آمناً للهروب ويقترح عليه دير القديس أنطونيوس على سفح جبل الجلالة القبلي بالصحراء الشرقية وينطلق إليه.

ونظر إلى جانبه كان البعير يهز حفصة تتمتم بكلمات لا يسمعها. (ص354)

وفي صحن الصحراء وجدا الشيخ يوسف العليقات في انتظارهما

-يا أهلاً بالأجاويد، وأكلوا، ويسأله الشيخ عن حكاية الشجرة المباركة.

ويخرج ورقة بالية ويتابع الرسم ويقرأ على جانبيه من سور القرآن

-أفهمني أبي أن هذا الرسم يصف هيئة القرآن كله وطوله على قدر آيات السورة تأخذ حفصة الورقة نظرت إليها وقالت:

– ما أضيق الدنيا، ما أقرب الأمس إلى اليوم والبعيد إلى القريب

أبي كان يقول شيئاً مثل هذا.. وينصبون لهما خيمة ويسأل حفصة:

-أخائفة؟

-ممّ؟

-من هؤلاء العربان

-لهم عندك حاجة.

-أتقصدين الشجرة.

– يرونها كنزا ثميناً لن يتركوك حتى تدلهم عليه.

ويسألها حلاله منها فتقول له: لا تفسد ما بيننا من أخوة صادقة وكن ونساً لصديقتك.

– صديقي مات فأحيا عشقك في دمي (ص368)

وتتوالي الأيام عصيبة والناس يتوافدون إليه لرقيهم وتلاحظ حفصة شروده فقالت: عدت إلى الغياب وأنا أريد الهروب إلى الدير.

-رجال الشيخ يوسف يصلون إلى هناك.

-لكنهم لا يدخلون الدير.

-يبدو أني سأدفن قريباً إلى جانب العراق المغربي

-شجرتك أنت هناك ليست على باب مغارة إنما تحت سفح جبل مريد

-الشجرة التي مات من أجلها الشيخ حسين.

-هو مات حين عبر إليها دون أن يقبض على الحقيقة كاملة، مات ساجداً وهو يسأل الله أن يلهمه كل شيء (ص377)

-آه يا حفصة أيتها الساكنة في أعماقي إلى الأبد..

تمسك يده وتطلب منه أن يردد وراءها ورداً وبعد أن انتهي قالت:

-اللهم إني استخرت الله وأحببت أخي هذا وقبلته أخاً في الله تعالى ثم أغمضت عيناها وفي الصباح دفناها في مغارة العراق المغربي وبعد أسبوع رأينا نبعة عقبة ترفع على رأسها على باب مغارة حفصة وفي اليوم التالي جاءنا خبر موت السلطان الجائر (ص382)

راح السلطان الجائر وجاء ابنه وبقي الحال على ما هو عليه، العدل قليل في كل زمان ومكان ولكنه مستعصي على الفناء وإلا ما كنا نطلبه الآن.

يعود إلى الدير وصاح على الراهب حنين بن اسحاق وبعد أسبوع طلب من الراهب أن يساعده في بناء زاوية إلى جانب الدير.

وتم له ذلك وغرس البرعم الحي من شجرة حفصة التي كانت تكبر أمامه ويأتي الزائرون إلى الدير ويطلب منه بعضهم شربة ماء أو كسرة خبز حتى سمع صوتاً واهناً يقول يا شيخ عاكف مكان الراهب برسوم ويخبره بأن السلطان الجديد استقدم عرافاً مغربياً وبدأ رحلة البحث عن الشجرة المباركة ويزور شجرة حفصة ويقول له: أنت صنعت غارك

-الغار والمغارة هناك حيث حفصة، أنا هنا جسد حبيس بين جدران الزاوية أو عين طليقة في المدى وروح تحلق بعيداً في الأقاصي (ص597)

في المساء التقي برسوم وبيده رقعته من جلد وقال إن فيها ذكراً للشجرة ويقرر الرحيل، قدري أن أموت تحت أقدام الشجرة المباركة، هكذا قالت لي حفصة وهي لم تكذب عليّ (ص402)

 ويأتيه رجل اسمه البادوق الذي لا أحد يعرفه سوى الشجرة المباركة ويسأله: أليست مبتغاك وأنا جئت لأخذك إليها وسينشق الصخر حتى تصل إلى الشجرة وخرج وراءه يمشي حتى وصل إلى أول الجبل وخرجا عند قبر حفصة ، حيث كانت الشجرة صارت دوحة كاملة ، ابتسم البادوق وقال: ودعها فلن ترى هذا المكان  أبداً بعد اليوم وسينكشف لك كل شيء فاصبر ثم استدار واختفي في بطن الجبل، استلقيت على ظهري وتاه بصري في الأغصان والأوراق والثمار ونسيت كل ما جري ورائي من عاديات الأيام: حلوّها ومرّها لم يبق في ذاكرتي سوى وجه حفصة ويبرق الحاج حسين وعكاز الشيخ القناوي ومشاهد متناثرة من أيامي الغابرة في قريتي العزلاء المنسيّة (ص410)

-3-

أربعمائة وعشر صفحات من السرد الذي لم يخل من الإفاضة في الحكي الذي يمكن إزاحة كثير منهم، ليضعنا المبدع –كعادته- أمام اشكالية روائية أخذت من التخييل مساحات سردية واسعة وضعتنا أمام حب الجنية – نمار- له وملاحقته حتى استجاب لإغوائها وتزوجها ومن العجيب مساحات أكبر أخذتنا إلى ما تحت الأرض وما رآه من عجائب وغرائب وكل ذلك كان يدور حول دائرة واحدة هي معرفة سر الشجرة المباركة والشجرة بحد ذاتها معرفة وحقيقة أخذتنا إلى فضاءات الصوفية والشيخ القناوي وابن عربي والحاج حسين وغيرهما من المشايخ الذين حفل بهم مسرود الرواية التي قدمت عالماً روائياً له سمته الخاص ومذاقه المميز مما يشير إلى الجهد المضاعف الذي يختفي وراءها وهي تتناوب سحر كل من التخييل والعجائبي اللذين أديا بشكل أو بآخر إلى فانتازيا تخترق قوانين العلم بظهور الجن والزواج منهن في محفل سردي له علاقة في مقولة الصوت الذي يترابط فيه أعوان السرد: المؤلف ← القاري ← الراوي – وما يجمع بينهم من علاقته تضمن احتواء هذه العلاقة التي حاول المؤلف أن يحافظ عليها ويعمل على نضجها داخل نبض سرده لهذه الرواية التي نهلت من كل ما هو غريب ودفعه لأن يقتحم فضاء الصوفية باحثاً ،ومن خلال الشجرة،  المركز والمرتكز عن مصير الإنسان وحالات الوجود في مباحث فلسفية معرفية مكنت النص ودفعت به إلى فضاءات النجاح والتألق ولكن بعيداً عن الواقعية السحرية التي لم تجانب النص إلا في محطات كان الألم الفردي التواق إلى السفر والارتحال من أجل كشف سر الشجرة واكتساب المعرفة معتمداً على أسلوب تناولي دقيق وموظف خاصة عندما مزج غير الحقيقي بالحقيقي الواقعي، ولغة شعرية حفلت بكثير من القيم الفنية إلى جانب القيم الإنسانية الخالدة، وهذا ما يجعل من “شجرة العابد” رواية خاصة بأسلوبها ومضمونها تثبت أن وراءها مبدعاً متجاوزاً يملك قدرة هائلة على خلق عوالم متوازية وموازية في فضاء سردي طويل حافل بالمفاجآت الغرائبية التي تشد قارئها قانعاً ومقتنعاً بقدرات روائي بارع مسكون بحب الحكي الذي يفصح ويجلي الحقائق ويبرز العوالم وهي منحازة دائماً لذلك الفن الروائي المميز بعوالمه السحرية ومفاجأته المعرفية وقدراته على كتابة نص روائي لا يمكن للقارئ أن ينساه بسهولة.

 

 

مقالات من نفس القسم