أفين حمو
هل جرّبت يومًا أن تستيقظ في شارعٍ بلا اسم، تحت سماء لا تشير إلى جهة، وأمام بيتٍ لا تعرف هل هو لك أم للذكرى؟ هكذا تبدأ رواية “تفاصيل ضئيلة من حياة الرائي” لوحيد أبو الجول، لا بجملة افتتاحية صاخبة، بل بخطوةٍ على أسفلت الذاكرة المبتورة. كأن الكاتب لا يريد أن يحكي قصة، بل أن يُعيد تركيب إنسان.
الرواية لا تقدّم لنا بطلاً بمعناه التقليدي، بل تفتح الباب لشخص تائه، لا يعرف اسمه، لا يتذكّر من أين أتى، يسير حتى يجد نفسه أمام بيت سارة، المرأة التي تمسك بخيوط حياته كما يمسك طفل بخيط طائرة في يومٍ غائم. في ذلك البيت، لا مرايا، لأن الماضي مُحذوف، أو لأن الوجوه لا حاجة لها إن كانت الأرواح عارية.
أن تقرأ رواية “تفاصيل ضئيلة من حياة الرائي” إذا عليك أن تمشي داخل ذاكرة مصابة بالارتباك، ذاكرة لا تثق بما ترى، ولا تصدق ما تتذكّر. رواية وحيد أبو الجول ليست حكاية بالمعنى التقليدي، بل هي مسار داخليّ، شعوريّ، يتنقل بين هوية ضائعة، وامرأة تظهر من قلب الحلم، ووجود يتلمّس نفسه بين الخلق والانمحاء. لا شيء واضح، لا أسماء يقينية، ولا أمكنة ثابتة، ولا زمن يمكن الإمساك به. كل شيء يبدو كأنّه يحدث في مكان مبلل بالحلم، مائل بالحنين.
في هذه الرواية، لا نعرف يقينًا من هو البطل. في البداية يدعى “زياد”، لكنه مع الوقت، يشكّ حتى في هذا الاسم، فيطلب من سارة أن تسميه من جديد، فتقول له: “سأسميك آدم”. وليس عبثًا أن يحمل الاسم هذا الثقل الرمزيّ. فآدم هو الإنسان الأول، بداية التكوين، والخلية الأولى في الوعي البشري. أن يبدأ من جديد، أن يُعاد خلقه. وهذا ما تحاوله الرواية الخلق من الحطام، لا من العدم.
سارة، المرأة التي يلتقي بها تعيش في بيت لا مرآة فيه، عادة ورثتها من أمها، وكأنها ترفض أن ترى نفسها أو ترى غيرها. وعندما يسألها زياد عن ذلك، تخبره بعفوية المرآة تفسد الخيال. لكنها، في لحظة خاصة، تسمح له بأن يرى نفسه للمرة الأولى
“تفاجأت بوجود مرآة داخل في غرفتي أحببت ملامح وجهي، وكانت كما تخيلتها تمامًا”.
هذا الكشف، وإن بدا بسيطًا، هو لحظة ولادة داخل الرواية. ولادة الذات الجديدة، آدم. الوجه ليس وجه زياد، بل وجه من تخيّله، من تهيّأ له عبر بوح سارة الطويل، عبر ليالٍ من الوجود المُعلق بين الحلم واليقظة.
سارة المرأة الكردية من دهوك لا تكتب القصص فقط، بل تكتبها وتحرقها، كما لو أن كل محاولة للبوح محكوم عليها بالانطفاء، وكأنها تعرف أن الحكاية عندما تُقال تفقد سحرها، فلا بد أن تموت فور ولادتها لتظل في حيّز الأسطورة. امرأة تعيش خارج الزمان، تُخبره عن حبها القديم لجوتكار، الشاب الذي لم تتزوجه، وتبوح له باعترافاتها عن طفولة مشوشة، عن طقوسها الغريبة.
“كنت في الليل أخلع ملابسي وأطوف حول البيت عارية لم أكن أعلم لماذا، فقط كنت أشعر أنني حرّة”.
أكثر المشاهد إيلامًا وجمالًا بالنسبة لي في الرواية، حين تحكي سارة عن رؤياها وهي طفلة.
“بينما كنت أبكي رأيت فجأة رجلًا جميلًا، ضخمًا وطويلًا، له جناحان كبيران بقي واقفًا ومبتسمًا، إلى أن توقف بكائي، وعاد الفرح إلى قلبي. ثم اختفى قلت لنفسي إنه الرب”.
هذا الكائن الغامض، الذي يشبه الملائكة، والذي يُعتقد أنه الرب، سيظهر لاحقًا للرجل نفسه، في رؤيا تشبه رؤيا سارة، وكأن وجود هذا الكائن جزء من بحث داخليّ عن الله، عن الطمأنينة، عن إجابة لا يحملها العقل بل الوجدان. تقول الرواية على لسان الرائي:
“هل من الممكن العيش داخل الحلم إلى انتهاء الزمن؟”وتُجيبه سارة : “لا أظن. لكنك تستطيع الدخول إليه من حين لآخر دون تردّد، بروح يدفعها الحب لا الرغبة”.
هنا تتجلى نغمة الرواية الحلم ليس مهربًا من الواقع، بل جزءٌ من البحث عنه. والرغبة ليست حسيّة، بل روحانية. العلاقة بين سارة وآدم ليست قصة حب، بل لحظة خلاص متبادل كل منهما يرمم الآخر دون أن يزاحمه على ماضيه.
سؤال يهمس في ذهن القارئ كلما توغّل في النص. هل سارة موجودة؟ أم أنها اختراع ذهنيّ صنعه آدم كي لا يجنّ؟ كأنها صورة مكمّلة للنقص، أو مخرج فنيّ للهروب من الوحدة. البيت نفسه لا يحمل ملامح حقيقية. لا شارع له، لا مرآة، لا جيران. حتى اسم المدينة—بغداد—يُذكر عرضًا دون أن يظهر حقًا. كل شيء يوحي بأن هذا المكان غير موجود إلا في ذهن الراوي، وأن سارة قد تكون صوته الداخلي الذي يأخذ هيئة امرأة.
في أحد أجمل المشاهد، حين تتكثف الرؤية ويبلغ الحلم ذروته، يقول:
“كنت سعيدًا بالعد، وكذلك بالنظر، إلى أن شعرت بجسدي صار أشبه بزغب جناح طائر صغير طافياً تحت سقف الغرفة ثم بعدها بثوانٍ قليلة أو لا وقت، صار كل شيء ماء داخل كرة زجاجية شفافة، وأنا واحد من ضمن هذه الأشياء التي صارت ماء. لا صوت يخرج من فمي، فقط هما عيناي كانتا تريان، ثم انطفأ ما كنت أراه”.
هذا ليس موتًا، ولا حياة إنها لحظة اندماج، ذوبان، حالة من الانفصال الكامل عن الجسد المادي والدخول في المطلق. لحظة لا ينقصها إلا أن يقول لنا“لقد وجدت الله”. لكنه لا يقول. فقط يسكت، كأن السكون هو ما يُشبه الله أكثر.
اللغة هنا ليست فخمة ولا متكلفة، لكنها تختزن ألمًا شفيفًا وشهقة خافتة. يُخبرنا الراوي “أحيانًا أحسد من يفقدون ذاكرتهم كليًا أو جزءًا منها، وأحيانًا أحزن لأجلهم، وأقول لنفسي: كيف يعيش الإنسان بدون ذكريات؟“
كل جملة تقريبًا تقول شيئًا لا عن الحدث، بل عن الإنسان. لذلك لا تسير الرواية على خطٍ زمني واضح، بل على إيقاع الحيرة. هناك دومًا ما يذكّرنا أننا في حلم ،رجلٌ بأجنحة، ملاك، ربما هو الله، ربما هو نحن عندما نصل. نحن أمام لغة تتكئ على الحلم أكثر من الواقع، وتستعير من الشعر إيقاعه، ومن التصوف انخطافه، ومن الفقد حنينه. جمل قصيرة أحيانًا، وأخرى طويلة ، لا تنتهي إلا حين يبلغ الألم مداه.
“أنا تائه ولست مريضًا.” جملة واحدة، لكنها تختصر سؤال الرواية كلّه هل هو مريض؟ أم أنه فقط في بحث أبدي عن معنى، عن وجه، عن اسم؟ ولعلّ أكثر ما يلفت في لغة الرواية هو استسلامها الكامل للغموض. لا تصرّ على توضيح ما يحدث، بل تحب أن تدور حوله، كما تدور سارة في الليل حول البيت عارية، ليس بدافع الجنون، بل بدافع الحرية. فحتى الجنون هنا، يُكتب بلغة رقيقة، محمولة على أجنحة ملاك.
“تفاصيل ضئيلة من حياة الرائي” ليست رواية تقليدية تُروى من ألف إلى ياء بل هي تجربة وجدانية تحتاج أن تُقرأ من الداخل. هي ليست فقط عن فقدان الذاكرة، بل عن الرغبة في نسيان ماضٍ لم يعد محتملًا. عن إعادة خلق الذات، عن الله الذي يبتسم للأطفال، وعن مرآة لا تُظهر الوجه، بل تُعيد تشكيله.
إنها الرواية التي تسأل هل نخلق ذواتنا أم تخلقنا الحكاية؟ وإن خلقنا سارة، فهل نملك القدرة على جعلها تحبّنا؟ أم أننا نحيا داخل حكاية كتبناها لأنفسنا ثم صدّقناها؟!