جبل المجازات.. عندما تقوم القيامة على واقع سحري

جبل المجازات
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

ياسمين إمام (شغف)

البداية النهاية: على باب القيامة

في روايته الثانية “جبل المجازات” يقدم الروائي أحمد كامل بدايته المفضلة: مشهدا قياميا بتفاصيل شديدة العنف والرعب وقد قامت قيامة جزء من العالم الذي يقدمه وهو لم يبدأه لنا بعد.

في روايته الأولى “العهد القديم: 48 ساعة من حياة المدهش” يرى بطل الرواية تفاصيل كونية عامة تضرب مواعيد للفزع، حيث تنعكس دورة العالم، فيُمتص البشر إلى أرحام أمهاتهم التي ترتفع، ثم تخبو، ثم يعود المنى في خيوط طويلة من الأرحام إلى الرجال، الذين يعودون بدورهم كخيوط من المنى إلى أرحام الأمهات.. والأرض تندمل على الزرع، ثم تبصق بذورا ودما وقتلى .. النمور تتقيأ غزلانا، والنحل يمتص العسل ويتبرز الزهور.. إلخ

العهد القديم

وفي “جبل المجازات” يقوم جيش كبير من النخلات..مئات الآلاف منهم.. بتدمير بلد كامل داهسة أجساد البشر والحيوانات، أعمدة الإنارة، المزروعات، أشجار الكازورينا، البيوت، نقطة الأمن، الكُتاب، الوحدة الصحية، مركز البريد، الجامع، أشجار الموالح، مخلفة عجينا ودما وفوضى  خاصة في السوق الذي اختلط فيه اللحم بالدم بالجلد بالخزف بالخضروات والفاكهة بالجبن بالمعدن بالأقمشة بالفخار والمباني التي تحولت إلى أكوام من الحجارة المفتتة.

لم يستطع المقاومة الفئوس ولا البنادق ولا النيران ولا أي شيء .. لم يستطع الوقوف بوجه النخلات المدمرة شيء أو أحد .. فلا مهرب ولا مخبأ. فالنخلات تركض وراء الفارين إلى الصحراء لتدكهم..

لتكون صيحات الهلاك هي آخر ما يتبقى من بلدتي الغزالة وآل جبل يسمعها “الضئيل” الذي يأمر النخلات بالهجوم وتنفيذ انتقامه بجيشه العجائبي.

جيش الأشجار

يحكي أبو الفرج الأصفهاني في كتابه “الأغاني” عن “زرقاء اليمامة” التي اشتهرت بحدة البصر وكانت تحذر قومها من الجيوش القادمين على مسافات بعيدة ليأخذوا حذرهم.. وأن أعداء لهم عندما رغبوا في غزوهم وخشوا أن تكتشف الزرقاء أمرهم، اقتلعوا الشجر لتستر كل شجرة منها الفارس إذا حملها. وعندما رأتهم الزرقاء قالت لقومها: أرى شجرا يسير! فكذبوها، واستهانوا بقولها. فلما أصبحوا أغار عليهم الأعداء وقتلوا منهم الكثير، وقلعوا عيني الزرقاء فماتت بعد أيام.

أما الساحرات الثلاثة فتخبرن “ماكبث” في مسرحية “شكسبير” المشهورة أنه لن يستطيع أحد قتله حتى تتحرك أشجار غابة “بيرنام” إلى قلعته. يشعر ماكبث بالحصانة والاطمئنان، إلا أن اطمئنانه يتهاوى مع إخبار أحد جنوده له في ذعر أنه شاهد أشجار غابة بيرنام تتحرك وتزحف اتجاههم.. لم تكن الأشجار المتحركة سوى جنود جيش مالكولم الذين أمرهم ملكهم بقطع الأشجار والتمويه بحملها فوق رؤوسهم.

ومن علامات يوم القيامة ونهاية العالم عند المسلمين أنهم سيقاتلون اليهود، ويقتلونهم حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر، “فيقول الحجر أو الشجر: يا مسلم، هذا يهودي خلفي، فتعال فاقتله. . إلا الغرقد، فإنه من شجر اليهود”

مس كامل ذلك الخيط في الأدب والتراث المستعير حركة الأشجار المجازية أو كلامهم كنبوءة للنهاية بعصا سحرية ليتحول واقعا ملموسا حقيقيا داخل عالمه، وقد علا على القديم درجة، فمنح النخلات حركة ذاتية، ونقلها من خانة “المفعول به” أو “المتواطئ” إلى خانة “الفاعل” “المدمر”.  ورسم مشهد قيامي ممتازا ينافس بجدارة الرعب الذي ترسمه الأدبيات الدينية الخاصة بهذه التفاصيل .. وينافس الأفلام التي رسمت مشهد النهاية مثل فيلم 2012 حيث تنفجر البراكين وينقض العالم منهارا على من فيه.

لكن تبدو الطبيعة في تلك الحالات قدرا .. يتجلى الأمل في الهرب ولو كان أملا سرابيا.. فالطبيعة .. البحار التي سُجرت والسماء التي تقذف بالحجارة المشتعلة والبراكين والزلازل والبيوت التي يتم خسفها… تبدو بشكل أو بآخر حيادية.. مجرد جزء من الطبيعة التي تثور والتي نجح الإنسان سابقا في ترويضها بقدر ما لكنها تعود لعنفوانها مثبتة قوتها وجبروتها وسيادتها.. مثبتة وجودها ومكسرة الأغلال التي حاول فرضها الإنسان عليها.

كان مشهد دمار العالم جميلا في فيلم 2012 عند رؤيته من منظور الطبيعة التي قامت كعملاق مقيد بالمباني والأسلاك والإسفلت بعد أن تم خصيه وقطع أشجاره ونباتاته. وتبدو المشاهد القيامية في الوصف الديني على قدر من الذاتية الحيادية المجردة.

لكن في “جبل المجازات” فمشهد البداية القيامي مشهد انتقام .. رُسم بحرفية عالية فتجاوز رعبه ورعب ملاحقة النخلة الجبارة المصرة على دك العظم وخلطه باللحم العاجنة البشر والحيوانات والنباتات والحجر معا رعب ما سبق من المشاهد في المخيلة الدينية والفنية معا، مستدعين إياهم في الوقت ذاته.

مشهد الفارين من جيش النخلات وهم يشاهدون صغارهم وزوجاتهم والنخل يدهسهم ولا يسعهم سوى الفرار بأنفسهم.. تاركين ذويهم يأكلهم النخل يعيد إلى الأذهان بمهارة الآية القرآنية:

” يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ، وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ، وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ، لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ”

ومحاولات بلدة المناجاة إيجاد حل للهروب من مصير غزالة.. حيث ينتظرهم انتقام “فوزي” وجيشه من النخلات هم أيضا.

الواقع السحري

في قرية مصرية عادية في زمن قديم.. في عصر محمد علي وما بعده بقليل حيث الضرائب الباهظة التي أجبرت الناس على ترك أراضيهم وبيوتهم متسحبين إلى الجبل، ثم منشئين قرية أخرى جديدة، يزيل الانتقام الكبير في صورته القيامية مزلاج باب الذكريات لتنساب غرائبية مشهدية أكبر من مشهد البداية ذلك.. ولنرى أسرار القرية التي اختلط فيها القدرات الماورائية بالأحداث العجائبية بالغصات النفسية وعقد ومركبات النقص عند الشخصيات.

تنفتح التفاصيل على واقع سحري.. يتبدل فيه الرجال إلى بهائم وتربطهم النساء من أعناقهم بالحبال محاولات الحفاظ عليهم من الأفعال الحيوانية..لتنقذهم لاحقا “بصقة’ في أفواههم معيدة إياهم إلى حالتهم البشرية.. ويسحر صوت “عبده الأخرس” النساء فتتهافتن عليه عاريات في وضح النهار وسط البلد ويحاول رجالهم دفعهن عنه دون فائدة… رجل يحيض وآخر يعاشر النخيل.. وتسحر امرأة بلدة كاملة ببولها الذي تبوله في ترعتهم ليصبحوا عبيدا لها ولقومها.. جيش من النخل يدمر البلاد ويطارد العباد حتى يسحقهم .. فتاة صغيرة عندما تجوع يكون طعامها الرمل تأكله بتلذذ وتتغذى عليه .. نخل القرى الأخرى “الجاسوس” الذي بإمكانه نقل الأخبار إلى الجيش النخلات الذي تحررت جذوره من الأرض ويستطيع التحرر من قيد الجاذبية ليطير ويقفز ويتدحرج.. أم تتمنى الإنجاب وتدفن سقط حملها المتكرر في حوائط البيت، وعندما تنجح أخيرا في الإنجاب تخاف على أبنائها من الدنيا وشرها فتغرقهم في الترعة وتحتضن القطار السريع عارية.. وبيت كامل من القطن.. أرضه ودرجات سلالمه..

“إخوان القطيفة”: شيوخ يطيرون بأجنحة بيضاء وقد صارت إحدى العينين شمسا والأخرى قمرا جالبين الدواء يداوون المرضى ويبذرون رحمة الله على مخلوقاته في الأرض “ملطفين من النوائب والأوجاع” مخففين البلاء عن العالم….واحة القطيفة وقوس المدائح وطبلة وربابة يحلقان في الهواء ويعزفان وحدهما..الجبل الأسود الذي يجب على “المأذون” عبوره وتخطي مغرياته ومهلكاته كي يتحول إلى “مجاز” بجناحين ينضم إلى المجازات الآخرين.. حيث يبزغ شعاع فجره في حين ينطفئ شعاع مجاز آخر..

تمر التفاصيل الغرائبية المدهشة كالغروب والشروق.. فهي جزء طبيعي جدا في ذاك العالم الذي يشيده الروائي.

تثير بعض الأحداث الفضول عند الإشارة العابرة إليها في البداية وتخلق التخمينات والتكهنات المعتادة في مثل تلك المواقف مثل فاطمة المغمى عليها ليلة دخلتها لتعود في هودجها ويتم طلاقها.. والحديث عن “فضيحة” ما… وتتكشف التفاصيل لاحقا فاتحة أبواب عالما آخر عجائبيا له قوانينه وأسبابه وتفاصيله التي لا علاقة لها بوقائع عالمنا.

تبدو الحكاية في بدايتها حكاية قرية مصرية قديمة عادية وشخصياتها الفقير منهم والغني.. الأنفار المزارعين وصاحب الأرض.. وتنفلت الحكاية داخل حكاية داخل حكاية مثل حكايات ألف ليلة وليلة.

بصرية المشاعر

يبرع كامل في إيجاد معادل بصري مشهدي للمشاعر النفسية التي يمر بها أبطال روايته، فالشخصية لا تشعر بالسعادة أو الحزن أو الفقد .. إلخ، بل تعبر عن مشاعرها من خلال تذكرها لمشهد مر بها في حياتها، أو صورة مقحمة لخيالها.. خاصة فيما يتعلق بالعلاقة المعقدة بين الآباء والأبناء، بين ميراث العيوب من الآباء وخوف توارث اللعنة ونقلها إلى الأبناء.. والأكثر: افتضاح العيب على يد عيونهم ، فأن ينجب سيد الحجر يعني أن يحضر إلى العالم من يكشف عيوبه ويضعها في غيط مكشوف أمام الشمس .. متخيلا نفسه محبوسا في رأس ذلك الابن، والابن ينسل الحذاء فوق رأس الأب في غيظ، معاقبا إياه على أخطاء لا يملك أن يرد عليها في دماغ مقفل.

فهو نفسه يرى أخطاء أبيه معلقة على حبل معلق بين رقبتيهما، كلما كبر وجد الأخطاء التي طالما لام نفسه عليها تنزلق إلى جهة أبيه، وعندما تأتي مشاعر أخرى تضرب ركبته فينحني لتعود الأخطاء متكومة أمام وجهه.

و”علوان” يخيط تصرفات ابنه البكري الذي تمدحه الناس بردها إلى عائلته، ويمشي بإبرته في نسيج معيوب لتجميل قماش أجداده الغابرين.

ويستحضر “سيد الحجر” مشهد التلاسن والسخرية الذين حدثا في السوق بين القرداتي وبائعة الجبن ذوي الندبات بتطوراته، معبرا عن شعوره بالندبات في روحه وروح زوجته.  

النهاية:

بالإضافة إلى النهاية المفاجئة … المؤلف يرى أن الخلاص سيكون في يد امرأة…هي المجاز الأخير.. الجمالية المخففة الأوجاع المطيبة الجراح الواقفة أمام الهلاك.. وهي من تستحق في النهاية الجناحان.

وإن كانت الأجنحة موضع النزاع والحسد والغيرة والتنافس لم تكن الحل في النهاية… كان الحل من داخل بئر الذنب والغرابة أنفسهم.. وتحقق على يد طفلة.

   

مقالات من نفس القسم