جبل الزمرد .. تبعث غرائبية الحكي من جديد

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 82
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

"أرى أن الاستمرار في الكتابة الإبداعية حالياً هو فعل مقاومة في حد ذاته."

بهذه الكلمات تتحدث الكاتبة منصورة عزالدين في تعليق لها على أحدث أعمالها رواية جبل الزمرد. والتي حصلت مؤخرا على جائزة أفضل كتاب من معرض الشارقة بدولة الإمارات.

بداية، يمكننا ملاحظة اتجاه الكثير من الأدباء في الوقت الحالي لكتابة الرواية الواقعية والبعد عن الأسطورة أو الخيال أو الغرائبية. ربما كان كسلا ذهنيا من البعض، وعجلة في إنجاز العمل من البعض الآخر. وفي كلا الاحتمالين لن يكون ملائما لهما الشروع في كتابة رواية غرائبية تحتاج إلى ذهن يقظ ومتقد من الكاتب والقارئ. هنا نجد منصورة لا تميل للكسل الذهني أو العجلة في الإنجاز. فتختار الطريق الشائك، وتعمل في روايتها الجديدة على استعادة غرائبية الحكي، والتي هي السمة الأساسية لمدرسة الواقعية السحرية. لتجعلها حاضرة في قالب روائي نابض بالحيوية.

ليس غريبا أن نجد عملا روائيا يشتبك بشكل أو آخر مع حكايات “ألف ليلة وليلة” ويستلهم منها ما ينفخ فيه الكاتب من روح إبداعه ليعطيه هيئة جديد ومختلفة عن الأصل المستلهم منه.  ولكن منصورة عزالدين وباتباع أسلوب رواية الرواية وبوصفها المدهش لكل تفاصيل التشابكات في الزمان والمكان والشخصيات، تجعلنا نحتاج لصبر وتأمل لتفاصيل الحكي الذي تتصارع فيه الأسطورة والخيال من جهة، مع التتابع الزمني لحكايتين تتراكبا كموجتين إحداهما تغلب الأخرى من جهة أخرى. وهو ما يجعلك تشعر أنك أمام عمل يحتاج لصبر ويقظة من القارئ مثلما احتاج من الكاتب.

من ناحية السرد، فإن أول ما يحتاجه الكاتب هو القدرة على كتابة لغة فصيحة. وكلما زادت مساحة السرد في العمل الروائي كلما كان من السهل اختبار قدرة الكاتب على استخدام مفردات اللغة ومعرفة إن كان لديه غزارة لغوية وخيال لينسجها أم لا. ومن اليسير وضع الكاتبة في صف من أجادوا الحكي، ربما كان هناك نوع من الإسهاب: ستجد في بعض الأحيان تكرار لوصف نفس الشئ بأكثر من طريقة على هيئة ترادفات متتابعة متكاملة. ولكن حتى هذا الشكل من الإسهاب كان ينضح بلغة راقية بعيدا عن الابتذال. هذه اللغة هي ما ساعدت الكاتبة على غرس فلسفتها بين ثنايا العمل بشكل غير مباشر، ووضع إشارات وعلامات تحتاج لأن يمر عليها القارئ أكثر من مرة كي تستقر في أعماقه.

ربما هذا أضفى نوع من الصعوبة على العمل، ومع الخيالات المتشابكة والإطار الزمني الذي تجد فيه قفزات بين الماضي والحاضر، والمحادثات التي تطغى عليها الأصوات الداخلية للشخصيات على الصوت الخارجي، نجد أن تأمل الرواية يحتاج لقارئ صبور. ولا أعني هذا أن العمل موجه إلى شريحة ذات مستوى ثقافي مرتفع من مجتمع القراء، لأن الاعتقاد بهذا يؤدي برأيي إلى تقزيم العمل وجعله مخصصا لفئة بعينها. ما أريده هو أن نجعل القارئ من خلال عرض هذا العمل ذو المستويات المتنوعة والغير معتادة من الحكي سواء في السرد أو الوصف يعلم أن ليس كل الأعمال الأدبية يمكن تجرعها في ليلة أو ليلتين. وأن هناك أشكال من الكتابة تحتاج إلى أن ترتشف على مهل. تحتاج إلى أن تكون طقس يومي، ربما هكذا يمكننا الانغماس في أفكارها والتشبع بها

ونلاحظ أن بنية الزمن في الرواية تتشكل من خطين متوازيين يتناولا فترات تزلزل، سواء في القاهرة 2011 وثورة يناير أو في جبل قاف ووقت انهيار المدينة وتدميرها. ففي الوقت الذي تتزلزل فيه القاهرة تدير “هدير” ظهرها لكل ما يحدث وتحاول أن تساعد “بستان البحر” –بطلة العمل- على إيجاد المخطوطات التي تحتاجها لتفك شفرتها وتحاول استعادة الأميرة زمردة-أميرة جبل قاف- بعدما تتخلص من كل التحريف الذي وقع لحكايتها. هنا يُطرح موروث الشفاهية والتدوين من جديد للنقاش، ولكنه في قالب مختلف. فالحكاية المكتوبة قد تم تحريفها مرات ومرات. حتى قالت الكاتبة في إحدى الفصول: الكتابة انغلاق الدائرة، خيانة المعنى لذاته. وهي كلمات مقتضبة، تحتاج للكثير من التأمل وتحتمل التأويل على أكثر من وجه.

وفي مثل هذه المواضع وغيرها خصوصا في الكلمات التي تتصدر كل فصل، مثل: لم تكن الكتابة يوماً قنطرة وصل، بل خنجر قطع، غير أن رومنسيتنا هي ما أوهمتنا بالعكس، أو: الكتابة ليست جسراً نعبره، بل حفرة نقع فيه. تجعلنا نستشعر العناء والجهد المبذول في العمل. وخصوصا عندما نتوغل بالنظر فيما وراء الكلمات محاولين إيجاد تسلسل زمني متسق مع بعضه البعض للعمل، نجد أن بنية السرد زمنيا أقرب في بعض أوجهها إلى بيدرو بارامو لـ خوان رولفو حيث التنقل بين المحادثات والأماكن والشخوص في أكثر من موضع وبشكل مفاجئ. وهو شئ مرهق في بعض الأحيان، يجعل القارئ يشعر بدوار وشئ من الخدر الممتع.

ومع شخصيات جميعهم منذورين لشئ غامض وغير مفهوم بالنسبة لهم، وفي سبعة عشر فصلاً، جعلتنا الكاتبة نعيش حكاية غرائبية في مجملها، واقعية في بعض جوانبها. فمن أكثر الأسئلة التي حيرتني عند قراءة العمل: هل كان يجب على سكان جبل قاف الرضا بالحياة الآمنة المنعزلة أم كسر هذا القدر حتى لو كان سيؤدي ذلك إلى تدمير المدينة! ونفس الشئ نستطيع أن نسقطه على القاهرة 2011، هل سترضى المدينة بالعيش حياة شبه آمنة حتى لو كانت في كنف شرطة مبارك واستبداده وظلمه، أم ستنفجر رافضة الركود حتى لو كان ثمن ذلك الخوف من المجهول. وكما جنحت القاهرة إلى الخيار الثاني، جنح سكان جبل قاف إلى الخيار الثاني أيضا، أو هكذا جعلتهم منصورة عزالدين برجوعها إلى الماضي قادرين على اختيار قدرهم. ربما هكذا أرادت الكاتبة أن تؤكد حقيقتنا البشرية التي تتشبث في أحد أركانها بحرية الإرادة، ومواجهة المجهول، مهما كانت النتائج.

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم