سعيد بوخليط
صارت هذه المدينة؛ ذاكرة بلا ذكرى. تهذي على امتداد دروب؛ هذا الدهر الجشع و الموحش. يمتطيها جنون بلا هوية للجنون. تنتج لانهائيا حمقا؛ يطوي مختلف استدلالات الحمق.فقد اضمحلت معايير التقابلات، واندثرت ممكنات ثوابت القياس. يحتاج الأخير إلى فيصل فاصل، ومثال يُهتدى به وإليه، تتفرع على جنباته باقي تجليات البشر والشجر والحجر.
ما معنى أن المدينة قد ألفت العدم؛ واستأنست باستبطانه! وتسير بغير هدى نحو اللاعودة.لايعني المفهوم الأخير، بالتأكيد، القطع الإيجابي من أجل إعادة التأسيس، بل حسب سياقنا المعلوم: التيه. متاهة على قدر سعة الكون. صارت المدينة، تعمق جرحا هائلا لا يكف عن التقيح.
يغادر الناس كل يوم تلك الجحور، يطوون المدينة جيئة وذهابا، يراكمون الآلام، ثم يعودون من حيث غادروا إلى ذات الحفر والسراديب القابعة خلف الشمس، وقد أفقدتهم وهمية حروب اليومي الضروس وماكينة التفاهة؛ مزيدا من حمولة ذخيرة سؤال المعنى، مع اتساع في المقابل لتصدعات اللامعنى : كيف يحدث مايحدث؟ ولما يحدث على هذا النحو؟.
يكبر سؤال المدينة، لكن حال واقعها بدون جواب يماثل أفق السؤال.تتناسل الأسئلة سرطانيا، لدى أطياف المدينة والأخيرة بلا حياة.اختفت تلك المدينة.آخذة في التلاشي. ماتت.ربما كان الوضع على هذا التصور. لكن حقيقة من لاحياة له، لا موت له. الحياة مغامرة، والموت مجازفة بكيفية غير هوية الحياة. هل أرست المدينة سلفا، أرضا للحياة؟ فكيف يجدر بها التطلع صوب الاطمئنان لعنوان يخبر الجميع على أنها ماتت جراء إدمانها عشق الحياة. المدينة تحيا كي لا تموت، ثم تموت وهي تحيا.
يهمس الجميع إلى لجميع شكواه نظرا لما آل له مآل المدينة.يرثي أهل المدينة تنكّر المدينة؛ بأقنعة مزيفة.ماض بلا حاضر، والمستقبل في كف عفريت. تكون المدينة أو لا تكون؟.
فما الذي يمنح مدائن الكون، معانيها؟ وكيف لها أن تتملك موقعا تحت نور الشمس؟ تبسط الأخيرة أسارير أشعتها على المدينة التي تبغي لنفسها حقا نورا يضيء روحها. إنها المدينة/النور حيث فقط لاحيز سوى للإنسان، الجمال، العلم، الحرية، المساواة، الاستحقاق، المثابرة، الابداع، التعدد، الاختلاف، الذكاء، ولامرجعية غير تثمين الأفق الخلاق.
كبرياء الشمس، من إباء المدينة. إنها المدينة الزاخرة حبا ورحمة وإيثارا، تتهذب على معاني الشمس.ومثلما تبزغ الأخيرة كل يوم من رحم ولادة جديدة.فإن المدينة تنام لمّا تتوسد حقا حلم الانبعاث المختلف، كالشمس تماما.
المدينة تئن. تتعمق الانكسارات. تتغول الأوجاع. لايكترث الزمان حتى زمان آخر غيره.هي مدينة بلا فؤاد و لارأس ولاجسد ولا حواس ولا خيال ولا عواطف ولاحنين ولا حنان و لاشغف ولارغبة ولا تطلع.المدينة/الحجر : صماء، بكماء، عمياء. مجرد نزيف.. ثم يتواصل الاستنزاف.