أشرف البولاقي: شعرية السؤال

نصوص من كتاب الأصدقاء
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

د. مصطفى الضبع

تجربة شعرية لا تقف جدارتها عند إدراك مكامن خصوبتها استكشافا للتفاصيل المنتجة جمالها، ولا تقف عند قدرتها على تغيير كيميائك عبر خطابها الشعري المتميز، ولا تقف عند حدود قدرتها على المقاومة، مقاومة الأشكال القديمة للشعر متجاوزتها إلى شكلها الخاص الذي يمكنك أن تستنيم إلى كونها تجمع بين نظامين أساسيين للقصيدة يتبلوران في شكليها الأبرز: العمودي والتفعيلي، محطما الحدود بينهما ومنتجا سبيكته الشعرية الخاصة. 

إنها تجربة الشاعر الجنوبي حارس النار وقد تبلورت حتى الآن في خمسة دواوين:

  • جسدي وأشياء تقلقني كثيرا – الهيئة المصرية العامة للكتاب – القاهرة 2003.
  • سلوى ورد الغواية – الهيئة المصرية العامة للكتاب – القاهرة 2003.
  • واحد يمشي بلا أسطورة – الهيئة المصرية العامة للكتاب – القاهرة 2003.
  • والتين والزيتونة الكبرى وهند – الهيئة المصرية العامة للكتاب – القاهرة 2013.
  • نصوص من كتاب الأصدقاء – الهيئة العامة لقصور الثقافة – القاهرة 2017.

وله أربعة إصدارات أخرى:

  • رسائل ما قبل الآخرة (أدب ساخر) – هيباتيا للنشر – القاهرة 2013.
  • رسائل ماقبل الآخرة (أدب ساخر) – دار بردية للنشر – القاهرة 2017.
  • مبدعون وجوائز (أدباء قنا) – دار وعد للنشر – القاهرة 2017.
  • العلمانية وهموم المجتمع، قراءات ثقافية – دار ابن رشد – القاهرة 2018.
  • خدش حياء (مجموعة قصصية)-دار الأدهم – القاهرة 2018.

في ديوانه الأخير يأتي الإهداء نصفه حقيقة ونصفه مجاز أو هو إهداء حقيقي يفضي إلى المجاز: “إلى أصدقائي الذين مَنحوني شرفَ الكتابةِ عنهم“، يظل الإهداء محتفظا بنظام المعنى في جانبه الحقيقي و المتلقي يساير الجملة من بدايتها إلى نهايتها متوقعا أن نهاية الجملة تعني انغلاق الدلالة المستهدفة، غير أن شبه الجملة في النهاية يعمل على فتح الدلالة خلافا للتوقع، فالشاعر لم يكتب عنهم فقط وإنما هو كتب بهم وعنهم وعنه وعن عالمهم وعن لحظتهم التاريخية المعيشة راصدا في الخلفية هناك حيث المستوى الأعمق للدلالة راصدا طبقات الواقع في صوره المتسربلة في النص / النصوص.

بوعي الناقد ورؤية الشاعر يدرك أشرف البولاقي عالمه عبر مجموعة الأصدقاء / النصوص / العلامات حيث كل منهم علامة على زاوية وطريق إلى دلالة ما، وحيث كل منهم مفتاح لما يمكن للمتلقي التوصل إليه من تفاصيل العالم، وقد كان لترتيب حضور الأصدقاء مجالا لاكتشاف العالم،نصر حامد أبو زيد، في البدء كانت الكلمة، الكلمة التي دفع نصر حامد حياته تحقيقا لها والقصيدة كلمة الشاعر التي يلقيها لقارئ عليه أن يعيش التجربة ليدرك مجموعة العلامات التي تشكل كل منها قراءة تمثل بدورها طبقة من طبقات النص عبر الربط بين العلامات، فالصديق علامة والنص علامة وكلاهما يضم عددا من العلامات المتواشجة لتشكل صورة أكبر، ففي النص علامات تحيل إلى الشخصية ومن ورائها العالم حين تكون الشخصية تمثيلا للعالم في النص و يكون النص تمثيلا لرؤية الشاعر في العالم وهو ما يعني أن رؤية العالم ممررة بوعي الشاعر وقدرته على الجمع بين العلامات التي أتقن توظيفها بعنايته، ففي القصيدة الأبوزيدية أو الحامدية(نسبة إلى نصر حامد أبو زيد ) يمكنك الوقوف على علامة شديدة الدلالة على صاحبها (التأويل ) بوصفها الكلمة التي كانت مدار عمل نصر أبوزيد والشاعر يتدرج في طرحه للمجال الحيوي للشخصية الاستعارية، إذ يقيم من الشخصية استعارته المزدوجة المتسلسلة، منتجا في كل مرة سيمفونية رباعية:

  1. نصر حامد أبوزيد وغيره من الأشخاص / الأصدقاء.
  2. يوسف عليه السلام وغيره من الشخصيات التي تكون بمثابة القناع.
  3. أنا الشاعر الشاهد على الوقائع بوصفه مستوى من مستويات التلقي.
  4. أنا المتلقي، بوصفه ينازع الشاعر موقعه، والشاعر يفسح له المجال لمشاركته الوعي بالعالم.

وفي سلسلة من الأسئلة يستهل الشاعر خطابه لأصدقائه:

“كَيْفَ لي أَنْ تَصْعَدَني مَآذِنُكُم؟

كَيْفَ لي أَنْ أُصَلِّي صَلاتَكُم؟

وَأنَا طيِّبٌ… طيِّبٌ

مِثلَ وَرْدَةٍ في حَدِيقَةٍ مُعْتِمه…؟!”

للوهلة الأولى تبدو الصورة في بساطتها تحيل إلى مقطع ما قبل مجازي (يقترب من المجاز وفق قراءتنا له واستكشافنا لمساحة المجاز المؤسسة على مستويات تلقيه والقدرة على التعمق في هذه المستويات)، تقوم المجازية فيه على مجموعة العلامات في إحالتها لمناطق الاشتعال الدلالي:

  • الذئب – القميص بوصفهما من رموز قصة يوسف عليه السلام، التي تحيلنا بدورها إلى الماضي الذي يتخلق في الحاضر بوصفه تراثا يفرض سطوته على الذهنية العربية بشكل عام وعلى النص الشعري بشكل خاص (وجدت رموز قصة يوسف عليه السلام صداها في كثير من نصوص الشعر العربي الحديث وتكاد القصة ورموزها تكون الأكثر دورانا في الشعر الحديث لكون أحداثها أقرب للطبيعة الإنسانية)
  • البلاد – الحلم – الخيانة الحاضر / الواقع:
  • الماضي يحتضن علامات الفواعل ممتدة الأثر، والحاضر يحتضن الأفعال نفسها، فالفعلان الوحيدان في الصورة مسندان للحاضر حاملين أثر الماضي، والعلامة في امتدادها عابرة من مساحة الوجود والتأسيس (الماضي) إلى مساحة التحقق والفعل (الحاضر) تعبر محملة بكل ماضيها لتجد مساحة تكون بمثابة البيئة الصالحة للعمل، في الماضي الذئب والقميص علامتان على واقعة محددة، واحدة، يختزل الذهن الاثنين معا في سياق قصة يوسف عليه السلام، لكنهما في الحاضر يجدان تحققهما في مساحة منفتحة، مساحة تمنحهما قدرا أكبر من التحقق (ليس أدل على ذلك من أن قصة يوسف أكثر قصة متداولة شعريا وفي كل العصور وخاصة في الحديث، وفي الوقت الذي كادت فيه الصورة الشعرية للرسول محمد عليه الصلاة والسلام تجد جانبا كبيرا منها في المديح النبوي، تجد شخصية يوسف تمتد في جانبها الدرامي أو في خيطها الدرامي الذي يجد أرضا صالحة للتحقق في كل العصور، وحيث مفردات القصة تفرض نفسها بقوة على كل زمان ومكان ( الحقد – الخيانة – الصراع بين الأبناء والأجيال – وغيرها من مفردات النسق ).
  • ثم الرمز الأخير ( الصاحب) بوصفه مرادفا للصديق ذلك العلامة الشعرية التي يقوم عليها الديوان بكامله، العلامة التي تحيلنا إلى شعرية الصداقة بوصفها نظاما شعريا يبدأ من موضوع يفرض نفسه ومعجمه ولغته وأسلوبه على ديوان بكامله، والشاعر في حركته من القديم للحديث يطور مفهومه للصداقة عما كان عليه الأمر في النظام القديم القائم على ارتكان الصداقة في شعريتها إلى الحكمة وغلبة الإحالة إلى شعر الحكمة ( في الشعر العربي القديم تتكرر مفردة الصداقة بمشتقاتها قرابة ألف وأربعمئة مرة وأكثر الشعراء تكرارا للمفردة لديهم ابن الرومي والبحتري (قرابة خمسين مرة لكل منهما ) بفارق كبير عن بقية شعراء العربية) مما يجعل من الشعرية القديمة نظاما قرينا أو قريبا من الشعرية العربية في عصورها المختلفة وخاصة عصورها الأزهى، غير أنها تظل طوال هذه العصور رهينة خطاب يفرض نفسه وقت الشدائد أو وقت المشاركة في الأتراح أو الأفراح أو يتخذ من الصديق علامة على تقلب الدهر وتغير الإنسان.

شعرية الصداقة

في ديوان شاعرنا يتجاوز الأمر مجرد حلول العلامة الشعرية صراحة، فالشاعر لا يكتب عن الأصدقاء وإنما يكتب بهم تحقيقا لأمرين أساسيين:

  • سردية الذات التي تعبر عن نفسها وتحكي عن نفسها وزمنها بواسطة الآخرين مما يجعل من القصيدة بمثابة السيرة الذاتية للشاعر، فالذين يكتب بهم ليسوا شخوصا من صنع خياله أو هم يمثلون شخصيات ينفرد بمعرفتهم دون غيره، وإنما هم مجموعة من الأشخاص المعروفين لدى قطاع عريض من المتلقين، وهو ما يعني توظيفه هذه العلامات لسرد جانبا من سيرته ولطرح جانبا من رؤاه.
  • أن الشاعر في تحققه عبر القصائد هو شريك الرؤية، الذي يضع الأصدقاء في ثلاثة مواقع:
  • (المروي بهم) حين يؤسس الرؤية بهم.
  • (المروي عنهم) حين يخبر القراء عنهم.
  • (المروي لهم) حين يخاطب أصدقاءه.

يتشكل الديوان من أربع عشرة قصيدة يأتي الخطاب في أولاها مفتوحا، منفتحا على الأصدقاء في جملتهم تتبعها ثلاثة عشر نصا هي ثلاثة عشر وجها للحياة عبر ثلاثة عشر صديقا أو ثلاث عشرة رؤية شعرية لشاعر يقرأ كتاب أصدقائه بصوت عال، وكأنه يقيم تفصيلا بعد إجمال تتسربل النصوص اللاحقة متصدرة بعنوانين يكونان سبيكة نصية تجمع بين عنصريين شعريين (عنوان القصيدة + الصديق المهدى إليه) ليكون أحدهما تفسيرا للآخر ويكون نص القصيدة نفسه كشفا وتأويلا لهما معا، خلافا للشاعر القديم حين كان خطابه للصديق يأخذ منحى الوقوف على الزمن وعبراته ومواعظه أو الاستناد عليه في لحظات الشجن ومجابهة صروف الزمن.

إزاء الأصدقاء يضع الشاعر متلقيه بين منزلتين : منزلة المعرفة وعدمها، فأنت إما تعرف الصديق أو تكون القصيدة بداية معرفتك به أو حافزا لمعرفته في مستوى أول ليس مقصودا تماما وليس هو الغاية من وجود الصديق، فالأمر أبعد بكثير من مجرد حضور الصديق في منطقة وسطى بين العنوان والنص، علامة في الطريق، ولكنها علامة ليست لتتجاوزها في عبورك بين العتبة والنص، وإنما لتأخذها معك، لتصحبها حين الدخول بوصفها مفتاحا لقراءة النص، والأصدقاء منهم الراحلون ومنهم دون ذلك، منهم المشهورون ومنهم البين بين لكنك في كل الأحوال لا يليق بك أن تعبر الواحد منهم دون الاشتباك مع ما يطرحه وجوده الذي ستكتشف بعد قليل إنه وجودك أنت وعالمك أنت، وكما استعار الشاعر هؤلاء من عالمه/ عالمنا يكون على المتلقي أن يستعير الشخصية للقيام بالوظيفة نفسها، وظيفة المكاشفة، مكاشفة وجه من وجوه الحياة، والشاعر يحشد من التفاصيل ما يجعل من الاستعارة عالما مكتمل الدلالة، عبر وجوه تنحصر في ثلاثة عشر وجها تتكشف عبر ثلاثة عناصر أساسية : العنوان + الشخصية + النص، قد تتكشف العلاقة بدرجة ما فور الانتقال من العنوان إلى حارس النص أو  المساعد على فك شفرته، وقد يتطلب الأمر نوعا من التروي حتى تكتمل الأركان الثلاثية في الوجوه التي تأتي على ترتيبها الدال :

  1. سأموتُ بعد دقيقةٍ إلى (نصر حامد أبو زيد).
  2. لي نشوتانِ…. وربما أكثر إلى (الضوي محمد الضوي)
  3. متواطئان…! إلى (عبيد عباس).
  4. يسقط الزيتون…يسقط إلى (هبة دربالة).
  5. من سيرة الورد والشجر، إلى (أحمد الجعفري).
  6. أنا أشبه الماء، إلى (إبراهيم المصري).
  7. عندما..، إلى (مأمون الحجاجي).
  8. احضر فورا للأهمية، إلى (فتحي سعد).
  9. وردة من عناق، إلى (هاجر الجمال).
  10. المَقَامَة البولاقية فِي ذِكْر فَتَى الشَّعاَنِيَّة، إلى (علي عبد الحميد الشعيني).
  11. هكذا…دون أن يعتذر..!، إلى (جمال الشيمي).
  12. هكذا يكون الموت، إلى (عمرو الشيخ).
  13. اغفري للبحر، إلى (هدى سعيد).

لا يتطلب الأمر جهدا كبيرا لتدرك العلاقة بين مجموعة العناصر النصية في القصيدة الأولى التي تأخذ وضعية القصيدة النموذج في سياق الديوان أو القصيدة المعيارية إن صح التعبير، بحيث يمكن القياس عليها في قراءة الديوان المعتمد النظام نفسه في كل القصائد:

  • عنوان القصيدة “سأموت بعد دقيقة ” + نصر حامد أبوزيد + القصيدة بما تتضمن من علامات تحيل إلى قصة يوسف عليه السلام

تأتي الشخصية بمثابة المرجعية النصية التي يصورها الشاعر مكتنزة من الدلالات ما لا يمكن تنحيتها في إجراء عملية التأويل واستيعاب ما تقوله شفرات النص، فلا يمكنك أن تتجاوز نصر حامد أبوزيد مالم تربط بينه وبين يوسف عليه السلام وإخوته هؤلاء الذين يمثلون عصب الحكاية ومجال صناعة أحداثها، وهناك في عمق النص يتكشف الرابط الأكثر قوة، رابط معنوي لا يضعه النص بين يديك بسهولة إذ يكون عليك أولا معرفة من يكونه الصديق لتدرك الرابط المقصود : التأويل الذي كان الجسر الذي عبر عليه يوسف إلى المجد (تأويل رؤيا الملك ) مما يعني قدراته على المكاشفة وعلى سبر أغوار الوجود وعلى إدراك مالا يدركه غيره، وفي المقابل أو في منطقة الامتداد الزمني من تأويل يوسف الأمس إلى تأويل نصر حامد أبوزيد اليوم مساحة لم يتغير فيها طعم الخيانة وفعل الذئب وإشارية القميص :

الذئبُ ذئبٌ

والقميصُ هو القميصُ

وليس من كذبٍ

سوى هذى البلادِ

يبقى الذئب في حضوره الفاعل الدال على الدهاء والخيانة ويبقى القميص في إشارته لكشف الحقيقة واستعادة الأمور إلى نصابها، إنها حقائق باقية يؤكدها توحد مسرح الأحداث (القصة السابقة واللاحقة دارت أحداثهما في مصر) وهو ما يقرب الأمر من تكرار الحدوث وإن كان العنصر البشري وما يكمن فيه من نوازع الخير والشر والخيانة والغدر والصراع باقية جميعها لا ترتبط بزمان أو مكان وصدق القائل: ما أشبه الليلة بالبارحة أو كما قال عنترة بن شداد: هل غادر الشعراء من متردم ؟.

عبر شخصية نصر حامد أبوزيد يستحضر الشاعر قصة يوسف بوصفها نموذجا للخيانة موسعا من دائرة الخيانة عبر الآخرين، فالقوة المضادة قديما كانت في جماعة الإخوة وفي الحديث ليست محددة وليسوا إخوة بالمعنى القديم، والمدعون بحق الخيانة يعبر عنهم الفعل الدال على الجماعة:

فقالوا :

إننى والبحرُ – عندَ أبى –

               أحبُّ إليه من هذى البلادِ ؟!

رأيتَنى أعدو فقلتَ بشارةٌ !

وذهبتَ فى جزعى إلى التأويلِ

أوّلتَ الذى هو واحدٌ :

– قلبى..

– ورائحةَ الدماءِ..

– وآكلِى “.

وما بين القلب/الذات، وآكلي الآخر المضاد تتحرك الصورة منتجة جمالها عبر التأويل لعناصرها المختلفة، طرحا لأسئلتها الخاصة.

شعرية السؤال

ليس مبالغة أن الشعر يثير أسئلة أكثر مما يجيب، يتساءل ويحرك في متلقيه ملكات الأسئلة، مثير لكل ما من شأنه البحث عن الإجابات لأسئلة كونية، ومن منطقة الذات إلى منطقة الكون تتحرك أسئلة الشعر، محفزا الذات لاكتشاف نفسها ممررة بالكون، ولاكتشاف الكون في ذات الوعي الشعري.

منذ بدء الخليقة والإنسان يصوغ أسئلته فلسفة له صبغة الشعر وشعرا له عمق الفلسفة معتمدا طريقتين لا ثالث لهما:

  • السؤال المباشر.
  • السؤال غير المباشر.

يعتمد الشاعر الطريقة المباشرة المعتمدة على واحدة من أدوات الاستفهام المعروفة، على سبيل المثال في ديوانه الخامس ” نصوص من كتاب الأصدقاء ” :

  • كيف، تتكرر سبعا وثلاثين مرة (وتتكرر ثلاث عشرة مرة في الديوان الرابع).
  • هل تتكرر قرابة ثلاثين مرة.
  • أين عشر مرات.
  • متى خمس مرات.
  • لماذا: تتكرر عشر مرات.
  • بالطبع لا يتسع المقام هنا لمقاربة دلالة هذه الصيغ و جمالياتها و نكتفي بالأرقام تدليلا على مساحة السؤال وانتشاره على مساحة التجربة فمجموع صيغ الاستفهام المباشر تسع وثمانون مرة في ديوان الشاعر الخامس، يمكننا أن نستدل عليها من تكرار علامة الاستفهام (؟) مما يعني أن الديوان يضم هذا العدد من الاستفهام المباشر تتنوع دلالتها متجاوزة النظام المجازي للاستفهام بصيغته البلاغية المعروفة، فلم يعد الشاعر الحديث معنيا بطرح الاستفهام على الطريقة الإنشائية القديمة (الاستفهام بوصفه أسلوبا إنشائيا متعدد الأغراض)فليس الرهان على الاستفهام من زاوية الأداة وإنما الرهان من زاوية المستفهم عنه، هناك في عمق الصيغة الاستفهامية يضع الشاعر غايته، ويضمن نصه هذا الجين المستمد من وعيه بالعالم وما يدور فيه، وهو ما يمكن مكاشفته عبر مقاربة بعض الصيغ الاستفهامية التي يتفنن الشاعر في طرحها.

ويمكن إحصاء الصيغة في دواوين الشاعر خروجا بنتائج دلالية كاشفة عن طبيعة الصيغة وعمق طرحها تدليلا على جمالية السؤال عبر مجموع صيغه وخلاصات ما يفضي إليه من دلائل لها قيمتها في سياق قراءة تجربة الشاعر بكاملها.

ويستهل الشاعر ديوانه الخامس ” والتين والزيتونة الكبرى وهند ” بقوله:” لماذا يحملُ الصوفيُّ في حلبٍ بنادقَه ويبكي؟ ” حيث يتأسس الاستفهام على مفردة البنادق المسندة للصوفي، والمفردة في جوهرها أساس التعبير بكامله فبدونها لا يكون للصورة مالها من العمق، ووجودها في البنية العميقة للأسلوب تجعلها علامة لغوية تستقطب كل العلامات اللغوية المكونة للتعبير، مرتبطة بها من زوايا نصية متعددة:

  • ترتبط بالفعل (يحمل) والفاعل (الصوفي) بكونها مفعولا به للاثنين.
  • ترتبط بشبه الجملة (في حلب) بكونها تحدد مكانها ومكان الصوفي ومن ثم تمنحها فاعليتها في كونها تقيم مع الصوفي مفارقة (فالصوفي لا يحمل البندقية وليست من لوازمه السلاح أصلا)، ثم يكون لموقع المفردة المتأخر دلالتها في إحكام التعبير بإنتاج الدائرية (لكونها الكلمة السادسة المرتبطة ارتباطا وثيقا بالمفردة الثانية “الفعل ” وفاعله )، ثم يأتي فعل البكاء مشيرا إلى دلالة قريبة تتمثل في أن حمل السلاح سبب للبكاء اعتمادا على المفارقة المشار إليها سابقا إذ يكون لحمل الصوفي سلاحا نوعا من الإجبار والاضطرار يفضي للبكاء وينتهي إلى طرح المتلقي أسئلته مسايرة للسؤال أولا، وبحثا عما وراء البكاء من مستويات المعنى وطرائق التعبير،   وهو ما يجعل أداة الاستفهام تحيل بالأساس إلى المستوى الأعمق من الدلالة.
  • من زاوية أخرى (دالة) يتكرر تعبير البنادق ست مرات أولها مع الصوفي في حلب (التعبير يتكرر مرتين) وأربع منها مضافة للفظ عشرة مما يمنح المفردة قدرتها على طرح سؤالها/ أسئلتها: هل هي العشرة التي ظهرت سابقا مع الصوفي في حلب، وهل أعارها للآخرين؟ أم أن للآخرين بنادقهم / كلماتهم، وأن التكرار يوسع من مساحة حضور البنادق ذلك الحضور الذي يتولى طرح أسئلته الخاصة عن سببية الحضور ومسوغاته ورمزيته وجمالياته أيضا.

فيما يأخذ السؤال بصيغته غير المباشرة مساحة الديوان كاملة، فالشاعر بشكل عام يقيم جدارا من الأسئلة تتبلور متدرجة من سؤال لماذا (يقول ) إلى سؤال كيف (يقول)  وصولا  إلى ماذا (يريد أن يقول) سواء على مستوى طرح السؤال أو إثارته أو اختياره  مجموعة من العلامات دون غيرها منتجا بلاغته الخاصة ( البلاغة في أحد معانيها القدرة على الاختيار، حيث تقل درجة البلاغة كلما ضاقت مساحة الاختيار، وعندما تنفتح اللغة للشاعر يكون لديه القدرة على الاختيار من ركام المفردات، وكلما ضاقت اللغة في حصيلتها ضعفت بلاغة الشاعر وضاقت بالضرورة قدرته على البلاغة ) وهو ما ينطبق على شاعر من طراز أشرف البولاقي في علاقته باللغة (يكاد أشرف البولاقي يكون لغويا يخدم الشعر وشاعرا متمكنا من اللغة، مطوعا إياها لإنتاج بلاغة نصه بصورة تليق بشاعر من طراز خاص ممتلكا أدواته حسب التعبير المتداول بين الدارسين).

إن القضية بالنسبة للشاعر ليس في طرح السؤال فما أكثر الأسئلة التي يمكن لكل منا أن يطرحها، وإنما القضية في صيغة السؤال ودلالته، وفيما ينبت وراء السؤال من أشجار للدلالات الأكثر سطوة في نفس المتلقي، وفيما يفرضه النص في كليته من وعي يليق بنص يشتبك مع الحياة ويطرح أسبابا لرؤية الوجود.

من منطقة الجهل يبدأ السؤال غير أن سؤال الشاعر يبدأ من منطقة الوعي والمعرفة، وليس أدل على ذلك من أن الشاعر يستعير أصدقاءه (أو من يفترض أن يكونوا كذلك) ولا يفوتنا أن معظمهم بالفعل على صلة بالشاعر عبر المكان وجميعهم متصلون عبر الزمان الواحد فالشاعر لم يغرق في الافتراضية بالعودة إلى أشخاص من أزمنة سابقة فالتاريخ منفتح أمامه على مصراعيه للاختيار  غير أنه يعتمد الصداقة بمعناها الحقيقي وليس الافتراضي ) وهو ما يؤكد الانطلاق من منطقة المعرفة لا منطقة الجهل محفزا متلقيه لطرح أسئلته الخاصة تطبيقا على مفردات أخرى في الوجود، يسائلها على طريقة الشاعر مقيما حواره مع الوجود من حولها مهتديا بما بثه الشاعر من مساحات الوعي، ذلك الوعي الناتج عن قراءة الشاعر للمشهد، تلك القراءة المغايرة للقضية أو لوجه منها  مفسرا مناطق الغموض أو مناطق الاشتباه، فنصر حامد أبو زيد كان يوسف الذي تعرض للخيانة، وهو ما يأخذنا إلى الحالات المماثلة فنصر حامد بمفهوم الحياة وطبيعة الثقافة السائدة مجرد نموذج / مثال لهؤلاء الذين يواجهون أصحاب العقول الراكدة، هو ناشط عقلي (إن صحت التسمية ) في مقابل الناشطين فسادا فكريا، والدور نفسه يقوم به الشاعر أو يتمثله الشاعر في تصويره هذه النماذج أولا مستهدفا رسم لوحة للواقع لاتقف عند النصوص حين نقرأها بوصفها نصا واحدا وإنما عبر تشكيله ديوانا كاملا يقوم على قصيدة واحدة، جدارية شعرية جامعة.

من قصيدة واحدة يتشكل الديوان الرابع للشاعر، قصيدة تأخذ شكل الجدارية الشعرية ( نظام شعري جيناته في المعلقة الشعرية العربية المعروفة تاريخيا )، تتعدد أشكال الجدارية وألوانها وأصواتها وأنظمة الشعرية فيها بقدر يجعل منها نظاما شعريا قائما بذاته على مستوى القصيدة الواحدة / الديوان الواحد، وعلى مستوى تجربة الشاعر  المفرودة على مدار نصوصه الشعرية عامة، حيث تتحول القصيدة الواحدة (الجدارية ) إلى مساحة استقطاب، أو بؤرة كاشفة إذ تحتوي مجموعة من المفاتيح النصية، يكتشفها المتلقي عبر معجم الشاعر وصوره وأساليبه وعلاماته الشعرية، ومنظومة السرد التي تتحكم في القصيدة جامعة أزمنة وأمكنة وأشخاصا وأحداثا في جديلة شعرية موزعة على مساحة النص من بدايته إلى نهايته بقدر جمالي يجعل منها صورة واحدة متعددة الألوان ثرية التفاصيل، متنوعة الإيقاعات عبر أنظمة الشعر التي يتبناها الشاعر، تأكيدا لتجربة جديرة بالوعي أن يكتنزها.

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized
ترقينات نقدية
د. مصطفى الضبع

تناغم (22)