كان شهريار ابن الاستاذ حسن كيميا، شابا عابثا في الخامسة والعشرين، ورث عن أبيه الأناقة التي كان يعتبرها مفتاح الخيروالشر، وعن أمه قمر إرثها الكبير عن والدها تاجر التبغ عباس النجفي الذي مات وهو يتعاطى التنباك مع جماعة من أصحابه في أصفهان. و رث عن خاله الذي يسمونه ابن بطوطة شغفه بالنساء والحكايات الغريبة العجيبة التي لم يسمع أحد شبيها لها من قبل، وكان خاله هذا بحارا، قضى حياته على سفن تجارية تجوب البحار وترسو كل أسبوع في ميناء، و له في كل مدينة قصة عشق ومغامرات، ثم مات في أحضان امرأة اسمها نيريت من كولومبيا، غمره العشق فترك السفينة وعاش معها في بيت متواضع على أطراف المدينة، وكانت تلك المرأة في الحقيقة، لا تحمل أيَّ قدر من الجمال، لكنه رآها أجمل من ملاك، وأرقّ من جنح فراشة وأعذب من شراب بارد في نهار صيف. وكان شهريار مثله تماما، ينتقل من حضن أنثى الى غيرها كما ينتقل من حكاية لأخرى حتى لقّبه رفاقه السيد زير.
ثم حدث في يوم من أيام شهر حزيران، أن مرّ شهريار في زقاق، وكان فارغا كما يحدث في كل ظهيرة من فصل الصيف، انفتحت باب وخرجت بنت، فوقعت عيناه عليها، كان اسم البنت شهرزاد، أمها خياطة يسمونها نجمة بنت البصري، مات زوجها في الحرب ولم تتزوج بعده، ولقد أوقفت وجودها كله لتربية البنت. ثم أقبل شهريار عليها وكلّمها. كانت البنت في نية الخروج لقضاء حاجة ما، قالت له: اذهب من هنا يا ولد، اذهب الى العاهرات يا بن حسن كيميا، ولا تقترب من بنات الناس. أفردت أصابع كفها أمام عينيه ففهم الحكمة من هذه الحركة. وحين سمع أبوه حسن كيميا بهذه الواقعة الإستثنائية، قال: هذه والله اخبار ممتازة، وفكرة الزواج لابدّ منها، لكي يتخلص هذا الفاسد من فساده، ويستعين على حياته بعقله، ويعيش عيشة الأسوياء من العباد، فذهبت أمه وخطبتها من أمها، ابتهجت نجمة بنت البصري، هلهلت فسمعها الجيران وباركوا لها، لكن شهرزاد رفضت، وكان هذا الموقف الحادّ يشبه الصفعة، وجهتها البنت لأم شهريار قمر ولأمها نجمة، قالت لهما إنه ولد عابث وحسب، لايصلح لبيت ولا لعيال، لا يعرف المودة ولا الرحمة، وكانت هذه الخلاصة شاملة لكل المعاني التي أظهرت التناقض المفجع بينهما.
ثم عاد شهريار وكلّف آخرين لخطبتها، س الوفود للمرة الثالثة ثم الرابعة حتى شعر بأن اندفاعه يفقد الكثير من الحماسة، لكنه أيضا وجد نفسه أمام رهان لا ينفع معه سوى الصبر. وأثناء ذلك تبدل حاله، ساءت صحته ولم يعد يهتم بتقديم عروض الأناقة التي كانت واحدة من شروط حياته، وكان في الحقيقة مثلَ ممثِّلٍ وحيدٍ على خشبة مسرح في قاعة فارغة، حدث ذلك بعد أن تسلل له ذلك الشيء الذي لم يعرفه في حياته، استقر في قلبه ولم يعد تنفع معه عقاقير الأطباء ولا حجاب ولا سفر، ثم أصبح كل مافي العالم عديم الجدوى في عينيه، لكن قلبه في الوقت ذاته كان مشرقا، فقالت أمه قمر: لابد أن نذهب لكبير المدينة، هو رجل مهاب ومحبوب وابن خير ولايُردّ له كلامٌ. ثم وافقت شهرزاد أو أجبرت، على كل حال، ألبسوها ثوب الزفاف في مشهد قالت عنه صاحبتها خديجة بنت الحلاق انه يعبرعن الهزيمة في المعنى، رغم المظهر الوفي للمراسيم المبهجة.
ارتدى شهريار في تلك الليلة السعيدة بذلة سوداء اشتراها من أفضل محل في المدينة، أخفى ألمه، لكنه استعد في الوقت ذاته للصبر، اعتبر الأمر نزالا صعبا، لكنه سوف يحصل على قبضة التثبيت، تلك الحركة التتويجية التي يقوم بها المصارعون لأنهاء النزال بالنصر، أو أن صبره هو الجمرة التي يقبض عليها المؤمن للحفاظ على إيمانه حتى النهاية. وفي غرفة الزوجية ظهر العرض كله ملفقا ويخلو من أيّ انفعال إيجابي، فقد رفضت العروس أن تجلس على سرير أو تغير ثوبًا، رفضت أن يقبلها العريس أو يمسها أو حتى يقترب منها، قالت إنها لاتريده، لكنهم أجبروها، وقالت ليس بينها وبينه سوى القول أمام العالمين أنهما زوج وزوجته، ثم صمتت كما لو أنها فقدت كل شهية في القول.
وفي الواقع، إن شهريار لم يستسلم لهذه البداية السيئة، حاول أن يستعين بمهارته في الحكي، سرد لها قصة وثانية وثالثة، ظل يحكي حتى صاح ديك جارهم أبو شكرية، وجارهم هذا، هو رجل من أهل الريف، له حقول وبساتين وخيول وحلال، اشترى بيتا كبيرا في الحي وكان من أكثر المتحمسين لزواج ابن حسن كيميا من محبوبته، حتى أنه بعد أن شعر شهريار باليأس من موافقة شهزاد، قال له: يا بن أخي، هذه بنتي جورية خذها زوجة لك، فهي جميلة مثل زهرة في شهر نيسان.
وعلى أية حال، نامت شهرزاد ليلتها وذهب شهريار الى حجرة أخرى، وفي الليلة الثانية حدث مثلما حدث في الأولى، وكان العاشق قد قرر أن يتمسك بالحبل المتين للمحبة، وأن يستمر بالسحب دون تراخٍ أو غفلة، ثم صاح ديك أبو شكرية قبل بزوغ الصباح، نامت شهرزاد فسكت شهريار عن السرد، ومرت الليالي العشر والعشرون والمائة والمائتان، وكان شهريار يحكي قصصا من العالم كله، حكايات غريبة كان قد سمعها من خاله الملقب ابن بطوطة، لكن شهرزاد لا يرق لها قلب ولا تسمح له بلمسها. ثم مر عام وعامان، وكان شهريار بعد نفاد خزائن حكاياته، بدأ يشتري الحكايات من الناس، اشترى من الجنود الذين شاركوا في الحروب، من المعتقلين السياسيين الذين خرجوا من الزنازين بعفو رئاسي، من المعارضين المهاجرين الذين عادوا أخيرا للبلاد، من الفقراء عن أيام الحصار، ومن الأغنياء كذلك، من المغنين والموسيقيين، من العاهرات والراقصات، من البدو والفلاحين واللصوص، من الملائكة والشياطين، وكان يحكي كل ليلة، يأتي الصباح، تنام شهرزاد، فيخرج ليغفو ساعة او ساعتين، ثم يخرج ليشتري الحكايات، وهذه المرة بحث في أمهات الكتب ليقرأ في النهار ويحكي في الليل، قرأ ملحمة جلجامس وصاحبه أنكيدو، قرأ إلياذة هوميروس، والكافاسومترا كتاب الحب عند الهنود وقصة الحضارة لوول ديورانت، قرأ الكامل في التاريح لابن الأثير والسيرة النبوية لابن هشام، قرأ القصص التي في كتب الأديان كلها: القرآن والعهد القديم والجديد، صحف إبراهيم، أفستا، كتاب الزرادشتية، والكتابالمقدس للهنود ،الباجافادجيتا، وكتب المندائيين: الانياني المبارك، الدراشا والكنز العظيم كنزاريا، قرأ رسائل الحكمة للدروز، وكتاب التاو وتعاليم كونفشيوس وبوذا، قرأ جبران خليل جبران، هيرمان هسه، ماركيز والكثير من كتّاب أمريكا الجنوبية، قرأ غائب طعمة فرمان، نجيب محفوظ، حنّا مينا دوستوفسكي، وتاريخ العراق الحديث لعلي الوردي باجزائه الخمسة، ثم جاءت الليلة الألف، وكانت الحكايات قد نفدت، سرد شيئا عن عاشق لم يعد لديه من السبل كي يواصل طريق الصبر، وكان مهموما على غير عادته، وقد استقرت في وجدانه حقيقة أنها الليلة الأخيرة، نامت شهرزاد ولم ينم هو، بحث من أول النهار في كل المدينة عن حكاية واحدة ولم يجد، ثم هبط الليل، جلس أمام شهرزاد صامتا، قالت: لماذا لا تحكي يا شهريار؟، قال لها: لقد نفدت الحكايات يا شهرزاد، لم أحصل حتى على واحدة، لا من الناس ولا من الكتب، فقامت من وقتها شهرزاد، قالت: ساحكي أنا هذه الليلة. وحكت عن العاشق الذي استعان بالصبر على المحبوب، وفصلت قصته تفصيلا، ثم عانقته قبل الفجر، قبلته وقبلها، عرته وعراها، ثم فعلا مايفعله أيُّ زوجين محبين، وكانت تلك الليلة الاولى بعد الألف، انقطع فيها السرد، وأغمض كلّ منهما عينيه، ولم يسمعا في ذلك الفجر ديك الصباح.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من مجموعة “رومانتيكا” الصادرة مؤخرًا عن دار سطور