فصل من رواية الجدار … لـ نورا ناجي

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

نورا ناجي

القاهرة 2010

أرسل لخالد رسالة على فيسبوك الذي حذفني منه، اسأله باختصار..ما رأيك في الـBonus Date؟

انتظر دقيقتين قبل أن يرد..الـBonus ماذا؟

البونس ديت، ألا تعرف أن لكل ثنائي افترقا الحق في اللقاء مرة أخيرة، إضافية، بعد تركهما لبعضها البعض؟

-من قال ذلك؟

-هذه هي القاعدة..

-أعتقد أنك أنت من وضع هذه القاعدة التخيلية..





كنت سأكتب لا وإنما رأيتها في مسلسل تلفزيوني شهير، لكني لم أجرؤ على كتابة ذلك، اكتفيت بتأكيد أن هذه قاعدة معروفة ومعمول بها في العالم..

صمت للحظات..بعدها أرسل لي كلمة واحدة..موافق..

كنت أفتقده للغاية، لم أحدثه منذ أن طلب مني التوقف عن ذلك، لكنه كان يحتل تفكيري كله، أشعر بالاحتراق في حدقتي عيناي، وكأنهما متلهفتان لرؤيته، عظامي تؤلمني، قلبي يؤلمني، أصابع يداي تؤلمني..

أخبرني أنه سيمر علي كالعادة اليوم في السابعة، نهضت لأرتدي ملابسي، لأضع عطري الذي يحبه، كنت أحاول نسيان حقيقة أن زفافه لم يتبق عليه سوى شهور، مع بداية العام المقبل، قررت نسيان كل شيء، نسيان معاملته الجافة، نسيان محوه لي من على الفيسبوك، نسيان توقفه عن الكلام، اختفاؤه الكامل، رفضه حتى لقاء أحمد حتى لا يجدني مع ريم كما كنت أذهب أحياناً..

أقفز على درجات السلالم لأنتظره في المدخل، أسترجع رسائل أمي التي لم أتوقف عن قراءتها، ولم تتوقف هي عن تحديثها المستمر، لا تزال تكتب إليه وكأنه على قيد الحياة، الحقيقة أن لا شيء اختلف، سواء كان حياً أم ميتاً، أمي تكتب هذه الرسائل لنفسها وأنا أفهمها تماماً، كانت تزداد نحولاً وذبولاً، تزداد تعلقاً ببرامج الواقع السخيفة، تزداد صمتاً وجلوساً في الفراش وحدها في الظلام..

كانت تحكي لحسن عن أمنياتها برؤيته ولو لمرة واحدة قبل أن تموت، لكنها لم تفعل سوى رؤية عزاؤه، سوى مصافحتها لزوجته وشقيقته، لم تحظ أمي من حسن بعد كل هذه الأعوام سوى بدخول بيته للمرة الأولى، برؤية مقعده المفضل، صوره على الحائط، ملامحه في وجوه أولاده الذين يماثلونني في العمر أو أصغر.

كنت قد فهمت وقتها أنني سأصبح صورة من أمي، سأتزوج رجلاً لا أحبه لأتطلق بعد عامين أو ثلاث، وسينجب خالد أطفالاً كثيرين من زوجته، ولن نرى بعضنا البعض ثانية حتى الموت..

يقف بسيارته أمامي، فأقفز فيها بسرعة، دون تفكير، أنحني على وجهه لأقبل وجنته، ينظر لي بدهشة قائلاً ماذا تفعلين؟

-أقبلك..

-هل هذا من شروط “البونس ديت” أيضاً؟

-نعم..قررت الاستمتاع باليوم دون أي تحسبات، قررت أن أعلن عن حبي لك على الملأ..اليوم فقط ستنسى كل شيء، وأنسى كل شيء، ونظل معاً وكأننا سنظل معاً إلى الآبد..

ابتسم لي أخيراً، كانت ابتسامته هذه المرة ابتسامه اشتياق، مد يده ليحتضن يدي طيلة الطريق، كان يحرك ذراع السيارة وهو يمسكها، يسحبها معه نحو المقود، يضغط بها على البوق، يضعها على ساقه، يمرر أصابعه فوقها، في باطنها، يداعب كف يدي وكأنه يداعب جسمي كله، كنت أشعر أنني اليوم قد أتركه يفعل ما يشاء، قررت أنني سأسير الطريق لآخره، سأستمتع بحبه في الفترة الصغيرة التي سمح لي بها، ربما أشفى منه بعدها، ربما لا يبقى طيفه يؤرقني كما حدث لأمي، ربما سأشعر بالامتلاء منه، ربما سأملّ، ربما سأستسلم، ربما أنساه..

كنت حمقاء تماماً يا آدم، كنت أسير نحو نفس الطريق الذي ينتظرني منذ البداية بثقة مراهقة غبية صغيرة..هو أيضاً لم يكن يشعر بشيء، كان قد قرر للمرة الأولى أن يتخلص من عبء التفكير، العرض المغري ليوم إضافي بلا مشاكل، بلا مسئوليات، بلا جدال، بلا قلق، قد منحه الفرصة لإطلاق مشاعره الحبيسة، للتعبير عن عشقه الذي يظهر فقط في عينيه، لصب كلمات الغزل على أذني، للجلوس بجواري في المقهى وضمي إليه بذراعه دون خجل، لإمساك يدي في الشارع، ونحن نعبر الطريق..في القول للمرة الأولى والأخيرة..أحبك..

كان الوقت بات متأخراً.الساعة اقتربت من الثانية عشر، كان مصراً على تركي في منتصف الليل تماماً، حتى لا يخرق قاعدة البونس ديت التخيلية التي وضعتها أنا..

يقف بالسيارة أمام مدخل بيتي، الشارع المظلم تماماً سمح له بالإقتراب، من جذبي إليه وتقبيلي..قبلتنا الأولى..أذكرها تماماً، سريعة، خجلة، قلقة..شعرت بالكهرباء تسير من شفتاي إلى أصابع قدماي، ابتعدت بوجهي عنه فنظر لي بتساؤل..قلت لا أستطيع..فأومأ برأسه بهدوء، ضغط على كف يدي وقال أحبك يا حياة..أنت تعلمين ذلك..

-لكنها مختلفة تماماً عندما تقولها..

-هل شككت لحظة؟

-لا..لكني كنت أتمنى سماعك..قلها مرة أخرى..قلها مرتين..قلها ثلاث..قلها عشرات المرات حتى أكتفي.. ولن أفعل..

نظر إلى ساعة يده لحظة ثم قال..لا أستطيع..الساعة الآن الثانية عشر..

نظرت له بعدم تصديق..انفرجت شفتاي بحثاُ عن كلمة مناسبة ولم أجد..شعرت بالدوار..ثم قررت أن أصمت تماماً..

-أليست هذه قواعد اليوم؟

-نعم طبعاً..وأنت تلتزم جيداً بالقواعد..

-حياة..

-لا داعي لقول أي شيء، سأغادر السيارة الآن..

أغلق الباب خلفي وأنظر له من النافذة..

-لكني لن أعود يا خالد..سأسافر..

استدرت لأصعد الدرج بسرعة، كنت أبكي، لأول مرة في قصتنا كلها أبكي، أنهنه، أفتح الباب وأهرع إلى أمي الجالسة أمام برنامجها الواقعي السخيف، أريد أن ألقي نفسي في أحضانها لكني لا أجرؤ، أجلس بجوارها، أنظر إليها، وتنظر لي بتعجب

-لماذا تبكين؟

-خالد..تركني.

تهز رأسها بأسى..لا تعلق..تربت على كتفي وتمسح على شعري..في النهاية تقول..

-لا تبكي..أرجوك.

لا أعرف ماذا أقول..لم أشاركها مشاعري من قبل، كنت أعتقد أنها ستفهمني الآن بعدما عرفت قصتها التي لم تخبرني بها قط، لكنها نهضت متجهة إلى المطبخ،.

-سأعد لك العشاء والنسكافيه..

 تتوقف فجأة، ثم تقول دون أن تنظر لي..

-أعدك ستكونين بخير..

كيف تقول أمي ذلك وهي التي لم تصبح أبداً بخير؟ هل تشكك أمي في صدق عاطفتي نحوه، ربما لم تشعر أنه حب عمري مثلما تصف هي حسن في خطاباتها الكثيرة، ربما لا تدرك أنني أعيد قصتها من جديد، وأنني حتماً سأتزوج رجلاً لا أحبه، لأنفصل بعد أعوام حاملة طفلتي على كتفي، وأعود لأجلس بجوارها نشاهد برامج الواقع ونعقد صداقات وهمية مع المشتركين.

نهضت ببطء، اتجهت إلى المطبخ ووقفت على بابه..

-ماما..سأسافر دبي الأسبوع القادم، اتفقت مع بابا على قضاء شهر ديسمبر هناك..الطقس الآن جيد وسيتيح لي فرصة التعرف على البلد..لم أفعل أبداً في الصيف..لم أجرؤ حتى على الخروج من المنزل..

نظرت لي أمي طويلاً، انفرجت شفتاها حتى ظننت أنها ستقول لا ابقي معي، كنت أنتظر أن تقولها لأوافق فوراً، كنت أشعر أنني أتخلى عنها الآن وهي في حالة سيئة، ربما أسوأ مني..

-على راحتك..اذهبي واستمتعي بوقتك، ربما يكون هذا في صالحك..

لم تقل أمي شيئاً، لم تحاول حتى أن تدعوني للبقاء..

لم أفهمها أبداً، طيلة عمري وأنا أعتقد أنها المذنبة في الانفصال، كنت أسألها فتقول نصيب، كنت أسأل والدي فيتهمها بالرعونة وعدم المسؤولية.

لم تتحمل مسؤولية الزواج، طلبت الانفصال بعد أعوام، ماذا كان في يدي لأفعله؟ أجبرها على البقاء معي؟

الآن أنظر لها بنظرة أخرى، مسكينة، منكسرة، خذلتها الحياة وخذلها الحب، كنت أقرأ المزيد من رسائلها كل يوم، أحبته عشر سنوات، وأحبها عشراً، ثم وقف صامتاً يراقبها وهي تتزوج شخصاً آخر لا تعرفه، هكذا بكل بساطة..ينتهي كل شيء بقرار أشخاص ليس لديهم الحق، في تحديد حياة أشخاص آخرين..

ينفث آدم دخان سيجارته ويسأل..

-لماذا برأيك لم ترسل والدتك الرسائل إلى حسن؟

-لا أعرف..ربما لم تستطع ذلك..الرجل متزوج ولديه أبناء..هل تعلم، أحياناً أشعر أنه نسيها تماماً، ظلت هي مسجونة في حبه أما هو فاستمر في حياته غير عابيء، لم يحاول حتى معرفة مكانها، أو التواصل معها

-من أخبرك بذلك؟ ربما كان يفعل دون أن يشعر به أحد

-ربما..

-ما رأيك لو تكتبين إلى خالد رسائل لا تُرسل أبداً..كما كانت تفعل والدتك..

-لم؟ لم أفعل ذلك؟ هذا هو الشيء الأكثر إثارة للشفقة في العالم، لا أزال أشعر بالحزن على أمي –رحمها الله- كلما نظرت إلى هذه الرسائل أو إلى صورتهما معاً، ينظر إليها بحزن، وتنظر هي إلى العدسة بقلة حيلة

-هل آخذت رسائل والدتك معك إلى هنا؟

-نعم..

-لماذا؟ ما الذي دفعك لأن تحمليها معك ؟

-لا أعرف..رفضت تركها، في الواقع هذه الرسائل هي أمي، هي كل ما تمثله أمي، أمي التي ماتت دون أن أعرفها جيداً..

-أنا أعتقد أنها إشارة، علامة، هل تؤمنين بالعلامات؟

-لا

-حسناً، أنا أفعل، وأنت وعدتيني أن تستمعي لي..

كان آدم مصراً على بدء كتابتي للخطابات اللعينة، المشكلة أنني أملك بالفعل رسالة واحدة أحفظها دوماً في الdrafts  على بريدي الإليكتروني، رسالة عمرها الآن عامين، لم أرسلها له قط، رسالة كلما قرأتها تزداد مرارة الغصة الدائمة في حلقي، لماذا يجب أن أكرر ذلك؟

-آدم..وماذا لو أرسلتها إليه؟

لا أعتقد أن هذا هو الوقت المناسب، هذه الرسائل من أجلك، من أجل أن تقصي على نفسك أولاً كل ما حدث، اكتبي كل ما تريدين قوله، وبعد الانتهاء، بعد أن تفرغي روحك كاملةً، إن شئت أرسليها له، ستكتشفي وقتها ما الذي ترغبين حقاً في فعله..

وعدته أنني سأفكر في الأمر، لكني لست مضطرة لقراءتها له..

-كما تشائين، في الواقع أنا لا أريد قراءتها، أريدك أن تحكي لنفسك، تخبريها كل شيء، كل ما تعجزين عن فهمه، عن التخلص منه، اكتبيه، ربما استطعت أخيراً التخفف من هذا العبء الذي لا تشاركينه مع أحد..

 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 روائية مصرية

 الرواية صادرة مؤخرًا عن دار الرواق 


مقالات من نفس القسم

تشكيل
تراب الحكايات
موقع الكتابة

قلب

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون