د. نعيمة عبد الجواد
كثيراً ما نقرأ عن منشورات تسترجع ذكريات الماضي، وترسم بلهفة صوراً تعبرعن الحنين لها. ومن ضمن تلك الذكريات المحببة ما يتعلق بالتلفاز وكيفية البث قديماً، حيث كان يقتصر البث على قناتين فقط، وكل واحدة منهما تبث محتواها وفق ساعات معدودة، ومحدودة في نفس الوقت. وفي كنف التطور المتسارع، امتدت ساعات البث من السابعة صباحاً حتى الواحدة صباحاً، وكان ذلك بمثابة طفرة تسببت في قفزة كبرى في مجال الإعلام المرئي. ومع نهاية التسعينات، انتشرت ما تسمى بالقنوات الفضائية، التي لا تعتمد على البث التليفزيوني المحلي، الذي يقدم من وجبات إعلامية تقليدية تعوزها رشاقة وجرأة البرامج المتواجدة على القنوات الفضائية. أضف إلى ذلك، أنها تعمل على مدار الساعة في جميع أيام الأسبوع، دون توقف أو تأخر. ولقد اعتبر المشاهد أن ما يحصل عليه من رفاهية من لمجرد امتلاك “صحن” لالتقاط القنوات هو أقصى أنواع التقدم، وكذلك بسعر زهيد في متناول الأيدي.
وكما هي العادة، دوام الحال من المحال. والقنوات التي كانت تبدو براقة بالأمس، صارت باهتة ومملة، ويعوز مادتها الإعلامية التجديد الشامل، بالرغم من زيادة عدد القنوات الفضائية بطريقة صادمة. ومع تضاءل دور المحطات التليفزيونية الوطنية، تم استخدام الكثير من القنوات الفضائية من قبل جهات سيادية حولت فيه المادة المقدمة بها لإعلام موجه يخدم أغراض سياسية، فصارت لا تتمتع بالمصداقية، وكذلك الحرية التي كانت مخولة لها في السابق.
لكن الإنسان مجبول على الحرية والتجريب، ويرفض جميع أنواع القيود، مما حتم استحداث متنفساً إعلامياً وترفيهياً آخر. ومن ثم، تحول عالم اليوتيوب الحديث العهد إلى ثورة كبرى تمكن المرء من رؤية ما يبتغيه. فمن ناحية، يقدم اليوتيوب محتوى أكثر حرية واستقلالية، من برامج ومسلسلات وأفلام بدون قطع أو إعلانات. أضف إلى هذا، هناك مجموعات من الشباب صارت تقدم برامج وأفلام مخصصة للعرض من خلال قنوات اليوتيوب، كنوع من الإعلام المستقل البعيد عن القيود. أضف إلى ذلك، عمل اليوتيوب على تشجيع المشاهدين على نبذ الاعتماد على صحن (الستالايت) لإلتقاط القنوات الفضائية؛ حيث يتوافر عليه بث مباشر لجميع القنوات الفضائية.
ومع تمكن اليوتيوب من عرض القنوات الفضائية ضمن باقة خدمات أخرى تتوافر بمجرد توافر اشتراك بالانترنت، تم القضاء على أسطورة حتمية رجوع المشاهد لشاشة التلفاز مرة أخرى؛ بحجة أن المحتوى الترفيهي الذي يقدمه اليوتيوب ليس كافياً، ولا تتوافر عليه المواد الترفيهية الحديثة التي يعرضها التليفزيون حصرياً ولأول مرة. وكذلك انتهت أسطورة أن البث التليفزيوني من قنوات محلية أو فضائية هما المصدر الذي يتوافر عليه إذاعة نشرات وبرامج إخبارية تقدم نظرة فاحصة على الأحداث اليومية والتطورات العالمية. لكن، مشكلة الهروب من مشاهدة كم هائل من الإعلانات التجارية حين انتظار متابعة أحداث جديدة من المسلسلات، واللقاءات، والأفلام، على شاشة التلفاز، كانت لا تزال قائمة.
أما الطفرة الكبرى فكانت ظهور منصات البث المباشر Online Streaming التي كانت تحتكرها شركة نتفليكس Netflix في بداية الأمر. فلقد بدأت شركة نتفيليكس التي تم إنشاؤها عام 1997 كشركة رائدة تسعى وراء بث أفكار جديدة لغزو سوق الترفيه. وكانت بدايتها مع التفكير في وسيلة جديدة لتأجير الأفلام، بدلاً من نوادي الفيديو التي كان الزحام عليها شديد، ومن الصعب كثيراً الحصول على أفلام عينها. ومن ثم، كانت شركة نتفليكس Netflix أول من فكر في تحويل المادة الترفيهية من شرائط الفيديو لأقراص الدي في دي DVD التي صارت تحتوي على الأفلام والمسلسلات والبرامج لقاء دفع إيجار بسيط لكل قرص دي في دي . ومع انتشار أجهزة عرض الدي في دي ورخص ثمنها حتى صار في متناول الجميع، ازدهرت استئجار أفلام الدي في دي، التي صار تأجيرها وإرجاعها بسهولة عن طريق البريد. بل أن مؤسس الشركة ريد هاستينجس Reed Hastings قرر أن يحدث طفرة أخرى عندما طرح فكرة عمل اشتراك شهري زهيد نظير استئجار عدد لا محدود من أقراص الدي في دي DVD. لكن مع انتشار الفكرة وتناقص الأرباح، قرر ريد هاستينجز أن يحول تأجير المواد الترفيهية من أقراص الدي في دي DVD إلى شبكة الانترنت. ومن ثم، أسس منصة البث المباشر المعروفة عالمياً تحت اسم نتفليكس Netflix، ووسع دائرتها لتجمع جميع دول العالم. وعلى غرار فكرته الأولى، صار من السهل التمتع بعدد لا نهائي من المواد الترفيهية من خلال دفع اشتراك شهري ميسور، وساعده في ذلك شراؤه لحقوق عرض المواد الترفيهية بمبلغ زهيد.
وعندما أتت الفكرة ثمارها، فكرت أيضاً الشركات المؤجرة لموادها الترفيهية لشركة نتفليكس Netflix في إنشاء منصات بث مباشر خاصة بها، مثل شركتي ديزني ومارفل. وتلى ذلك استحداث منصات عرض مباشر محلية مثل واتش إت Watch It وشاهد Shahid في العالم العربي. ومؤخراً قامت شركات الموبايل سواء العالمية أو المحلية منها بعمل منصات بث مباشر خاصة بها.
وفي غضون تلك الأحداث، صار امتلاك شاشة تلفاز غالباً لا يعني مشاهدة قنوات فضائية. ويلاحظ أن الفئة العمرية من سن 12-35 سنة صارت لا تميل لمشاهدة التلفاز. فمثلاً، في الصين، صارت مشاهدة التلفاز تقتصر على من هم أكبر من 45 عاماً، بل أن الكثير من البيوت تقتني تلفاز دون تشغيله.
فلقد صارت منصات البث المباشرعبارة عن عالم جديد موازي من القنوات الفضائية. فشركة نتفلكس Netflix أصبحت منتجاً لبرامج ومسلسلات وأفلام خاصة بها، بل وأنها تجتذب أسماء كبرى من نجوم هوليوود – سواء أكانوا مخرجين أوممثلين – إلى ما تنتجه من أعمال. أما شركات الانتاج العملاقة مثل ديزني ومارفل، فأفلامها ذات الانتاج الضخم تعج بكوكبة من ألمع نجوم هوليوود. وأضف إلى كل هذا وذاك، صارت تلك المنصات تعرض الأفلام الحديثة بعد ثلاثة شهور من عرضها في دور العرض، وبعد جائحة فايروس كورونا تم دراسة العرض بعد شهر واحد فقط، علماً بأن بعض من أفلام الانتاج الضخم قد تم بالفعل عرضها لأول مرة على تلك المنصات.
التحول الضخم لمشاهدة منصات العرض المباشر هو بمثابة ناقوس خطر يهدد القنوات الفضائية ويضعها في مرتبة تماثل ما حدث مع قنوات التليفزيون الوطني، وأشرطة الفيديو. من الواضح أنه يجب على القنوات الفضائية أن تفكر سريعاً في خطة جديدة لتضمن بقاءها كعنصر جاذب ضمن خارطة بث المواد الترفيهية في الفترة القادمة، وإلا لسوف يكون مصيرها صفحات الحنين لذكريات الماضي.