موسيقانا لجودار: مأساة الفلسطينيين وهلاك اليهود

موسيقانا لجودار: مأساة الفلسطينيين وهلاك اليهود
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام
صلاح هاشم من أهم وأبرز الأفلام التي خرجت للعرض حديث في فرنسا فيلم "موسيقانا" للمخرج والمفكر السينمائي الكبير جان لوك جودار( من مواليد 1930)، وكان الفيلم ،عرض خارج المسابقة الرسمية في مهرجان "كان" السينمائي الدولي 57 ، بمناسبة" تكريم" مخرجه، الذي أخذ شكل عرض مشهد بارز من أحد أفلامه، وذلك قبل عرض الفيلم المشارك في مسابقة المهرجان عام 2004

يحكي جودار في ” موسيقانا” عن مأساة فلسطين من خلال حكايته عن مدينة سراييفو ومأساة الحرب، اذ يعود في فيلمه الي المدينة التي كان زارها قبل و اثناء الحرب، يعود اليهامن جديد، لكي يتفقد أعمال البناء والعمران، ونهوض المدينة من كبوتها، وهي تتطهر من أدران الدمار والخراب الذي لحق بها ،بعد انتهاء الحرب الاهلية الدموية ، و قد قامت كي تعيد تشييد ذلك الجسر فوق نهر موستارالذي كان يربط بين ضفتين وعالمين متنازعين، وكان الجسر كما هو معروف، رمزا قبل نشوب الحرب، لقيم التسامح والتآلف، والسلام والمحبة مابين البشرعلي اختلاف عقائدهم ودياناتهم من أهل المدينة، ويكشف لنا جودار في فيلمه عن تضافر الجهود في عملية ترميم جسر موستارMOSTAR، بمشاركة عالمية، تطلبت خبرات و مجهودات فائقة في جمع أحجار الجسر، وانتشالها من قاع النهر ، ثم ترتيبها وترقيمها قبل ترميمها، واستخدامها ذات الاحجار مرة اخري في تشييده من جديد في سراييفو الحزينة..

غير ان ترميم الجسر كما يشرح لنا جودار في فيلمه، اذا كان ينفع مع الحجر، لاينفع مع البشر، فلا يمكن ترميم ضحايا الحروب، الذين رحلوا عن عالمنا، وأعادتهم الي الحياة من جديد، بعدما صارت الحروب آفة عالمنا في كل مكان، في سراييفو والعراق وفلسطين، ولذلك يكرس جودار فيلمه لكي يكون درسا سينمائيا بليغا، في تحليل وتشريح عالمنا المعاصر، بأزماته ومشكلاته وتناقضاته وحروبه، ويقسم فيلمه الي ثلاثة اجزاء أو ممالك، يطلق عليها تباعا” الجحيم” ثم ” المطهر” ثم ” الفردوس”، علي نسق قصيدة ” الكوميديا الالهية ” للشاعر الايطالي العظيم دانتي اليجيري.

يقصفنا جودار في ” الجحيم” –الجزء الاول-ويستغرق عرضه بين7و8 دقائق، يقصفنا بصور الحروب المرعبة، ومن دون ان تخضع هذه الصور لاي ترتيب زمني او تاريخي، فنشاهد طائرات ودبابات وسفن تقصف وتدمر، ونروح نتأمل في المنظر الطبيعي الذي تحول الي أرض خراب بفعل الدمار ومشاهد تنفيذ احكام الاعدام في البشر ، وخروج السكان والحشود البشرية وهروبها من النيران، ويمزج جودار في هذا الجزء بين الصور بالابيض والاسود والصور الملونة الوثائقية المأخوذة من أرشيف الحروب وكوارثها، وتصاحب الصور 4 جمل مكتوبة علي الشاشة، واربع قطع موسيقية علي البيانو في الخلفية، وتظهر لنا في ذلك الجزء صورة هذا ” الوحش” الرهيب الذي يسكن داخلنا..

في حين يحكي جودار في ” المطهر” –الجزء الثاني- ويستغرق عرضه حوالي الساعة، يحكي عن مدينة سراييفو في الوقت الحاضر، بمناسبة دعوته للمشاركة في لقاء من لقاءات الكتاب الاوروبي كان عقد في المدينة، وكان موضوع اللقاء يدور حول ” ضرورة الشعر”، فينتهز جودار فرصة اللقاء ويدعو الشاعر الفلسطيني محمود درويش، للظهور والتمثيل في الفيلم، لكي يناقش من خلال حوار صحفية اسرائيلية معه ، حضرت لتغطية اللقاء، يناقش معها في اطار الحديث عن ” ضرورة الشعر” ضرورة وجود الانا و” الآخر” ، ضرورة وجود الصورة ونقيضها، ضرورة وجود اسرائيل وضرورة وجود فلسطين ايضا، وحقها المشروع في الوجود والحياة، ويلخص لنا جودار في الفيلم قضية فلسطين بضربة معلم في صورتين، اذ يرينا اليهود في صورة وهم يعبرون البحر الي الشاطيئ الفلسطيني، الا ان هذه الصورة وحدها هكذا في المطلق لاتقول شيئا، لابد من الصورة ونقيضها، ثم يرينا جودار صورة اخري للفلسطينيين وهم يخوضون في مياه ذات البحر، هربامن بطش اليهود ويغرقون فيه، ويقول جودار عن الصورتين في محاضرة له مع الطلاب الذين يدرسون السينما في ” اكاديمية الفنون” بالمدينة، معلقاعليهما، ان الباب الذي دخل منه اليهود الي فلسطين ،هو ذات الباب الذي شهد خروج ونزوح الفلسطينيين الكبيرعن بلادهم ووطنهم، و يضيف جودار معلقا: هكذا عبر اليهود البحر ودخلوا السينما الروائية، بينما عبرالفلسطينيون البحر ودلفوا الي السينما الوثائقية ” كاشفا بذلك عمن يكون الجلاد في القضية، ومن يكون الضحية، جامعا بين مشاعرالاحساس بالذنبCULPABILITE ومشاعر الغفرانPARDON، في لقطة واحدة من فيلمه، ..لقطة واحدة ينهي بها جودار الجدل القائم، معلنا عن موقفه من قضية الشعب الفلسطيني، وانحيازه الي حقوقه الشرعية في الوجود والحياة، ويقول جودار انه عثر علي صورة الفلسطينيين المذكورة في كتاب ” فلسطينيون ” PALESTINIENS للكاتب الفلسطيني الياس صنبر، الذي يحتوي علي مجموعة كبيرة من الصور التاريخية للحياة في فلسطين قبل ” النكبة” وبعد اخراجهم بالقوة من بلادهم ووطنهم..

ويظهرفي الفيلم الكاتب الروائي الاسباني الكبير خوان جويتسلو، لكي يردد مقاطع من كتابه ” حالة حصار” الذي كتبه اثناء تواجده في حصار سراييفو، ويحضر ايضا “هنود امريكا” في الجزء الثاني من الفيلم ، كمعادل موضوعي، لمأساة الفلسطينيين، وغربتهم في وطنهم تحت الاحتلال، وتهبط جملة علي الشاشة – حين يظهر الهنود الحمر في سراييفو، هكذا فجأة بملابسهم التقليدية- تقول ” سوف ندفن أيامنا في رماد الاساطير “..

وينهي جودار فيلمه في الجزء الثالث بعنوان ” الفردوس”، ويستغرق عرضه حوالي 10دقائق، ينهيه بفتاة تتجول داخل الفردوس أو ” جنة ” جوادر، وكما يتمثلها، علي شكل حديقة غناء بجوار شاطيء بحيرة من نوع البحيرات التي تظهر في الصور االتي تمجد الطبيعة، ” جنة” نروح نتمشي فيها علي مهل، مثل تلك الفتاة، بين الزهور، واشعة الشمس الذهبية تتخلل اوراق وفروع الشجر، ونحن نستشعر سعادة لاندرك كنهها، ثم اذا بنا فجأة، نعثر علي جندي مشاة أمريكي من قوات المارينز يجلس هناك، اللعنة!، ولاتسل يامؤمن ماذا يفعل هنا، فهو حتما كما يقول لنا جودار سوف يكون هناك لحراسة ” جنة ” جودارفي المستقبل وشوارعها، اجل امريكا ” شرطي” العالم سوف تكون ايضا هناك، في ” جنة” جودار، وربما ايضا في ” جنتنا” ، واذا كان لابد من شرطي لحراسة شوارعها، فسوف يكون بالقطع امريكيا، ويقول جودار ان البعض قالوا ، حين اظهر صورة ليهودي في معسكر اعتقال، وكتب تحتها” يهودي”، ثم اظهر صورة اخري لجثة بجوار اسلاك المعسكر ، وكتب تحتها ” مسلم ” في الفيلم، وكان جودار كشف عن الصورتين، ليوضح ان السينما لايمكن ان تقوم وتكتمل، الا من خلال عرض الصورتين معا والكشف عن التناقض بينهما، وذلك في نطاق شرحه لمعني ” المجال” اي حدود الصورة أو الصورة CHAMPوعكسها او الصورة المناقضة لهاCONTRE-CHAMP والمقصود به في السينما،..

قالوا ياله من شيء مقرف حقا، لأن تاريخ فلسطين ليس تاريخ “هولوكوست” اليهود وهلاكهم ، وتساءلوا، كيف يجرؤ جودار علي وصف ماوقع للفلسطينيين علي يد لليهود، بذلك الهلاك ( الهولوكوست) الذي وقع لليهود علي يد النازي، ولاسبيل في رأيهم للمقارنة. لكن جودار كما يضيف، رد علي هؤلاء بقوله :” لقد كتبت كلمة ” مسلم ” تحت جثة اليهودي، لأن حراس المعسكر النازي، كانوا يهينون اليهود، ويطلقون عليهم وينادونهم باسم ” يامسلم ” آنذاك ، ثم ماذا يريد اليهود، أو لم تكن هوليوود تدعي “مكة” السينما في العالم؟..

فيلم جودار الذي لايسرد علينا قصة ولايوجع دماغه في تلخيص احداثها، ينتمي الي النوع السينمائي الخالص المصفي، مثل قصيدة من قصائد الزن التي تنطق بالحكمة، ومن دون ” تصريحات” فجة او” هتافات” مزعجة، قصيدة فلسفية تأملية عميقة، تطرح عدة تساؤلات، ثم تمضي في سلام، مثل قارب، وتتركنا مأخوذين ومدهوشين بفنها وسحرها، وهي تدلف الي مياه بحر السينما الكبير، وتمتزج بدمنا..

تحية الي جودار وفيلمه الشجاع الفلسفي العميق المحفز للتفكير والجدل، الذي يضع قضية فلسطين تحت المجهر، أمام ضمير العالم، ويستحق المشاهدة- أكثر من مرة- عن جدارة.

مقالات من نفس القسم