وحكت العصفورة..

عرب لطفي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

آمال فلاح

جاءت العصفورة من القاهرة لتحكي- ضمن فعاليات مهرجان سينما فلسطين في دورته الثامنة بباريس ومارسيليا- تفاصيل قصة بدأت في الاضمحلال في ذاكرة الغرب.

اسمها لوحده يختصر قضية عانقتها منذ البدء، الاعتزاز بالعروبة، انتماء وجداني له امتداد جغرافي.. “عرب”.. ولقبها يختصر بدوره دماثة أخلاقها وبساطتها..”لطفي”. أما لهجتها، فمزيج من لبناني، مصري وشامي..

تتشابك الذاكرة عند المخرجة عرب لطفي مع التاريخ ومع الهوية. هاجسها الأول منذ الطفولة كان ذاك العدو المتواجد على حدود مدينتها، صيدا، وكلام الأم الذي رسخ في ذاكرتها: “لو تحررت فلسطين سوف يكون بإمكاننا أن نذهب إليها بالسيارة”. تعقب عرب أن المسافة بين غزة والقاهرة ثلاث ساعات فقط. منطقة جزأتها الأنظمة التي ترسخ فكرة العزلة في منطقة ممتدة لا حواجز طبيعية تفرقها بعد أن قسمها  الاستعمار.

وجاء التفاؤل من مدينة عربية أخرى، من ثورة تحرير الجزائر، ليخبر الطفلة المولودة في مناخ المظاهرات والاحتجاجات ضد الاستعمار أن فلسطين سوف ترجع حتما. ثم كانت ثورة ظفار، تلك الثورة المنسية… مرحلة كاملة حملت فكرة الانبعاث والأمل في التغيير، بشخصياتها الثورية ومفكريها ومناضليها. مرحلة تداخلت فيها هموم كل البلدان العربية، مرحلة تقول عنها عرب: “منحتني إحساسا بأن كل البلاد العربية أنا”، قبل أن تضيف: “كنت محاطة بأشخاص يحملون هم التغيير ويشتغلون بقضايا الناس وبمعاناتهم اليومية، مما زاد وعيي وشكل أفكاري”.

الذاكرة والهوية

كانت صيدا أول صفارة إنذار أيقظت الرغبة بضرورة الحفاظ على الذاكرة الجماعية.

 داهم الجنود الإسرائيليون المنازل غداة احتلال صيدا عام 1982، صادروا الأرشيف واستولوا على الأسلحة ودمروا كل شيء. تذكر عرب أن شقيقتها الكبرى، مها، أحرقت وثائق مهمة وأنها فقدت الكثير من مراسلاتها الخاصة ومذكراتها وأشياءها الحميمة كما فقدت أعز أصدقائها”مرحلة مليئة بالفقدان”.

عملت إسرائيل على تدمير ذاكرة المدينة وحرقها، فلصوص المقابر لم يتركوا للمؤرخ شيئا يعمل عليه. في زمن الاجتياح، كانت عرب متواجدة بالقاهرة ووصلها خبر تدمير بيتها بصيدا:”حلمت حلما سرياليا غريبا. في الحلم كنت أحضن البيت وأحاول حمايته. كنت أعيش بهاجس فقدان الأشياء..كيف أستعيد لمدينتي ذكرياتها؟؟”.

هاجس الترميم هو الذي شكل فكرة أول فيلم أنجزته “بوابة الفوقا”، فيلم تسجيلي، شخصي، سمح للمخرجة  عبر تصوير الأرشيف والشهادات بأن تمنع الذاكرة من التلاشي والانقراض وعبد لها الطريق لتحقيق مشروعها في محاولة استعادة ما سلب منها ومن أوطانها.

ثم اتسع مشروع ترميم واستعادة الذاكرة ليشمل تجارب نساء من جيل السبعينيات ابتلعتهن السجون الإسرائيلية لسنوات طويلة. فجاء فيلم”احكي يا عصفورة” ليتحدث عن نساء عاديات وجدن أنفسهن في أوضاع غير عادية ليصبحن بين عشية وضحاها بطلات.

 أصل الحكاية كان مشروع فيلم “مرآة جميلة”، عن نضال المقاتلات الفلسطينيات اللواتي واصلن نضال الجميلات في ثورة الجزائر..جميلة بوحيرد، جميلة بوباشا وجميلة بوعزة.  مشروع مولته قناة بريطانية بشروط تخطتها المخرجة عندما احتفظت بمادة الفيلم لتنتج وبكل حرية في التعبير فيلمها التالي”احكي يا عصفورة”.

تقول عرب لطفي أن  الفيلم  يمزج بين الذاكرة الفردية والجماعية: “الغرب أكد دوما على الفردانية، لكن فردانيتي أنا ممتدة مع الجماعة”. فيلم حمل للعالم أجمع أصواتا حاول الاحتلال إخراسها بقوة التعذيب والإذلال.

الذاكرة الشعبية والمقاومة

بعد بيروت، ودراسة الأدب الانجليزي والحقوق، جاءت محطة مصر- حيث أكملت عرب دراستها للسينما وحيث تقيم أختها المخرجة نبيهة لطفي صاحبة فيلم “تل الزعتر”- ليرتبط التنقيب عن الذاكرة بالمقاومة الشعبية عبر الغناء وعبر الشعر والثقافة الشعبية، في “سبع ليالي وصبحية”، “الرانغو” والفرح مصري”.أفلام مفعمة بالفرح والتفاؤل دون أن تخلو من عمق شديد.

تقول المخرجة أن مدينة بورسعيد تشبه كثيرا صيدا ولها تاريخ في المقاومة الشعبية. بورسعيد هي شعب ومقاومة مثل الجزائر و”التنقيب في ذاكرتها مشوق”.

 كانت الموسيقى هي المدخل لتاريخ المدينة،  تعرفت على شباب السمسمية وحصلت على الأرشيف من القوات المسلحة، ومع التراكم المعرفي وتسهيلات حسن حامد(رئيس اتحاد الإذاعة والتلفزيون سابقا) في الإنتاج تم انجاز الفيلم خلال ثلاثة أيام.  تلاه “الرانغو”، والتنقيب عن ذاكرة ومسارات الأفارقة في مدينة الإسماعيلية، ثم”الفرح مصري” والتنقيب في الذاكرة المصرية وتعدديتها الثقافية عبر الأعراس في مختلف المناطق: “أنا مشغولة جدا بالثقافة الشعبية وجد معادية لفكرة الحدود القومية…هناك قبائل معينة تنتشر في إفريقيا من شمالها إلى جنوبها، تنقل الثقافة بطريقة عفوية من مكان لأخر، ليست قائمة على فكرة  حقوق التأليف والملكية، هناك شيء ثوري في الثقافة الشعبية التي حرصت الدولة القومية على خنقها”.

بعدها عادت عرب لطفي لهاجسها الأول، فلسطين، وهذه المرة عبر التنقيب في ذاكرة المخيمات عبر فيلم “زيارة خاصة”. الفيلم عبارة عن زيارة لمخيمي عين الحلوة وشاتيلا مع بداية الانتفاضة الثانية ألقت فيه  الضوء على الظروف المزرية التي يعيش فيها سكان المخيمات . تلاه فيلم “على أجسادهم” الذي يتحدث عن التطهير العرقي الذي راح ضحيته سكان قرية الطنطورة الواقعة بين حيفا ويافا سنة 1948.

 تقول عرب أن أفلامها التسجيلية تقوم دائما على رؤية ذاتية:

 “أنا لست موضوعية، وأعمالي امتداد لذاتي ولعالمي، لكن عالمي لا ينبغي أن يكون بالضرورة أنا. أنا دائما مع الآخرين، لا أحاول تلفيق عوالم بل أعبر عنها بوجودها الذي يعنيني..هذه الفكرة لطالما شغلتني..  فعندما أحكي عن الشخصيات التي أحبها تصبح أنا”.

ذاكرة الثقافة والسينما المصرية

ومن الشخصيات المحبوبة التي تغلغلت في سبر ذاكرتها ومسارها، المصور محمد صبري.

ذاك الذي لم يكن رئيس قسم التصوير في دار الهلال، وحسب، بل كان صحفيا وفنانا تشكيليا، ومن عدسة كاميراته أطلت عرب على الذاكرة الثقافية والفنية و الإعلامية والحربية لمصر التي اختلطت بشدة بذاكرته الشخصية.

في فيلم”غرفة مظلمة حياة مضيئة”، تنفتح الغرفة المظلمة للكاميرا لتكشف لنا عوالم وأجواء راقية وجميلة انقرضت، لكن المصور نجح في اعتقالها وتجميدها بكل حيويتها وروعتها. 

لكن، لم ذاك الإصرار على التعبير عن  العوالم الذاتية والموضوعية عبر الشكل التسجيلي للسينما وحده لا غير. ولماذا لا تتسع الرؤى الفنية للشكل الروائي؟ هل هو شغفها بالتقاط اللحظات الحقيقية أم قرفها الشديد من الافتعال والزيف. خيار يبدو أنه الأقرب لشخصيتها الملتزمة بالحقيقة، الباحثة عنها. تعقب عرب على هذا التساؤل مستغربة: “الفيلم الروائي نادرا ما يسمح بتوصيل  الخطاب الحقيقي ممتزجا بالإحساس الفوري… فليه أعمل روائي وأنا مش عايزة؟”.

هذا التشبث بخيارات صعبة (لكون الأفلام الروائية تدر أرباحا أكبر وأتعابا أقل) جعل رحلة البحث عن التمويل شاقة ومثبطة أحيانا، فالتمويل منطقة ملغمة: “لا أريد سيطرة أجنبية ولا هيمنة دولة، لكن يمكن الاستعانة بالوزارات. فيلمي”غرفة مظلمة حياة مضيئة” استفاد من مساعدات المركز القومي للسينما التي قلت حاليا، كما استفاد فيلمي الأول من مساعدات دائرة الثقافة. هناك تدهور لدور المؤسسات الثقافية”.

تدهور يجعل صنع بعض الأفلام يتم تطوعا، كما في “زيارة خاصة”، لكن ذلك لم يزعج عرب البتة، كما لم يزعجها منعها من دخول مصر زمنا ولا التحقيقات في المطارات لأنها واضحة في انتماءاتها وواضحة في التزامها وخياراتها. قوة داخلية جميلة تسكنها تنعكس في ابتسامة لا تغادرها وطيبة وبساطة نادرتين. قوة تساعدها على التحمل والمواجهة: “أنا لا أقاوم لأنني مقهورة لكن لأن الناس ينبغي أن تعيش بحرية”.

حرية رضعتها صغيرة في البيت العائلي:”بيتنا كان هيك..نقدي، تقدمي، ولم يكن لديه الخوف من التغيير”.

الأب كان في القضاء العالي يدافع عن قضايا الثوار وعائلة الأم يشتغل ثلاثة أرباع منها في مجال السينما، وأخوات(مها ونبيهة)كل منهما بارعة في مجالها: الأولى في مجال التربية والقيم الاجتماعية وخاصة في ترجمة السيناريوهات، أما الثانية، فهي أشهر من نار على علم سواء بريادتها السينما التسجيلية أو بمسارها النضالي الفريد وارتباطها بقضايا العروبة.

 ثم كان هناك الإخوة الذكور(الجميع أكبر منها في العمر) يهتمون بالعلوم والفيزياء والشعر والتاريخ.. وبالنضال في الحركات الثورية. فتحوا لها مجال تنوع الطريق ومناخ الحرية الذي تمنته وتتمناه لجميع الناس.

 

 

 

 

مقالات من نفس القسم