محمد الفخراني
القلم فكرة، معنى، ومُجرَّد وجوده فى العالم ورؤيته حولنا هو تأكيد لوجودنا البشري، لوجود العالم، القلم شريك لنا من البداية، حاجة البشر القديمة للقلم، لتسجيل حيواتهم ومشاعرهم وأفكارهم وعالمهم، حتى تلك الصخور المُدَبَّبَة والمسامير التي حَفَرَتْ جدران الكهوف منذ ملايين السنين ليست إلا أقلام ذلك الزمن.
لا أراه مُجرَّد أداة للكتابة، أو أنه من الممكن أن يأتي وقت لا يكون له حضور في حياتنا.
“مَسْكَة” القلم هي أكثر “المَسْكات” حرية، لا شيء في العالم تُمْسِك به فيشعر بالحرية وتشعر أنت معه بالحرية أكثر من القلم، كأنك تمسك حريتك بيدك، وحريتك تمسكُ بيدك في الوقت نفسه.
أصابع تُمسِك بالقلم أحد أكثر الأوضاع المُعَبِّرَة عن معنى الحرية.
القلم، أيّ قلم، لا يَفْرغ أبدًا، عندما ينتهي منه الحِبر فإنه يَتَعبَّأ في الوقت نفسه بجزء من روح شريكه الذي استعمَلَه، أقلامنا التي تبدو فارغة هي في الحقيقة ملأى من أرواحنا وأرواح الكلمات التى كتبناها وكتَبها القلم، فهذه الأقلام قد أعطتنا أرواحها مُسْبَقًا، هي تحب أن تفعل ذلك، ولا يُهِمُّ أننا الآن نستغرق وقتًا أطول بكثير كي يَفْرغ قلم نستعمله، ربما يُفاجَأ أحدنا عندما يجد أنه استعمَلَ قلمًا حتى فرغَ منه حِبْره.
بشكل شخصي أُحب أن أرى القلم وأتعامل معه كل يوم.
القلم روح حيَّة، يَشْعر ما نكتبه ويفهمه، هناك شيء إضافي في الكلمة المكتوبة بخطّ اليد، شيء إنساني، كأن أرواح كل الكلام الإنساني القديم المنقوش في الكهوف والصخور تعيش في كلامنا الحالي المكتوب بالقلم، بخَطّ اليد.
ظِلُّ القلم على الورقة أحد أجمل المناظر في العالم.
أُحب أن أتَخيَّل أن الأقلام لا تُصنَع، وإنما تُخْلَق، لا تُصنَع فى مصانع أو شيء كهذا، إنما تأتي من مكان آخر، مكان للخَلْق، ونحن فقط نجدها في المكتبات، أو مع الباعة على الأرصفة.
البيت الخالي من القلم مُعَرَّض للتلاشى في أيّ لحظة.
بدون القلم لن ترى خَطّ يدك أبدًا، وهذا مثل ألا ترى وجهك أو تسمع اسمك أبدًا، أو ربما أصعب، بدون القلم لا يمكنك أن تكتب كلمة خاصة جدًّا بخَطّ يدك، وإنْ كان أحدنا لا يعرف، فخَطّ اليد هوية شخصية، هو أحد أشكال أرواحنا، وبدون القلم نفقد إحدى الطرق القديمة والأصيلة للوصول إلى أرواحنا.
وأنت لا تتوقَّع من القلم أن يخذلكَ أبدًا، لا يمكنك أن تَشُكَّ فيه لحظة.
القلم شريك حياة لنا، جزء من هَوِّيتنا الإنسانية، وحضوره يمنح شعورًا بالأمان والحرية في هذا العالم.
عندما تحتاج قلمًا فلا بديل عنه، لا شيء يمكنه أن يفعل ما يفعله القلم.
القلم لا ينام، يبقى مستيقظًا منتظرًا كل لحظة يمكنه فيها أن يَبْذُل روحه، ويرى هذه الروح أمامه على ورقة، تلك هي لحظته القُصوى.
أشعر بالأسف عندما يسألني أحد عن قلم ولا يكون معي، وعندها أستغرب كيف أنه ليس معي، ستكون مرّات نادرة جدًّا، تكاد لا تكون موجودة، لأني لا أتحرك إلا وقلم في جيبي، أفعل هذا بشكل تلقائي، أحمله معي ليس لأني بالضرورة سأحتاجه للكتابة خارجًا، فقط أحب أن يكون معي قلم.
وأشعر بذلك الفرح اللطيف الخفي، وأبتسم تلك الابتسامة الداخلية، عندما يسألني أحدهم عن قلم، فأسحب قلمي من جيبي ببساطة وتلقائية، مُهْمَّة جدًّا تلك اللحظة.
عندما يسأل أحدهم عن قلم تبدو لي اللحظة، وكأنه يطلب إنقاذه، كأنها مسألة حياة أو موت.
أحب أن يكون على مكتبي قلم، هو دائمًا موجود، أكثر من قلم في الحقيقة، ولا أُغلقه، على الأقل هناك أحد هذه الأقلام مفتوح دائمًا، أحب القلم في زوايا البيت، وأن يكون في متناوَل يدي وعينَيّ، ليس لأجل الكتابة فقط، أنا أحب وجوده، وأن أُصادفه من وقت لآخر.
أُحِب أن أتفرَّج على الأقلام في المكتبات وعلى الأرصفة، ألوانها، أشكالها، درجة خِفَّتها، أقول خِفَّتها لأن الأقلام دومًا خفيفة الروح، وأتخيَّل ما يمكن أن يكون عليه خَطّ كلٍ منها، ورشاقته وسلاسة حركته، أو تَسُّرُعه أو تأنِّيه، يمكنني أن أتخيَّل صفات شخصية لكل قلم من شَكْله ولونه وحجمه، وسأنْتَبِه لأول كلمة أكتبها بقلم أستعمله لأول مرة.
إنْ لم يكن الأول، فالقلم أحد أول ثلاثة كائنات وُجِدَت فى العالم، ربما وُجِد حتى قبل ظهور العالم، وأنَّ العالم ظهَرَ بما يُشْبِه نَقْرِة من سِنّ القلم الأول، وكل ما يحدث ويكون لا يكون إلا بنَقْرَة من سِنّ قلم.
…………………
*نُشِر فى: Middle east online