عن البحر.. طبعًا.. طبعًا عن البحر

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

محمد الفخرانى

البحر هو الحرية عندما تتشكل ماء.

لأنى لو سأختار أن أكون كائنًا آخر لبعض الوقت، سأختار أن أكون البحر.

البحر أكبر عراء فى العالم، أكبر بيت فى العالم، أكبر تشرد، أكبر سكن، أكبر خوف، أكبر أمان، صاحب القراصنة والبحارة

 والصيادين، الجن والإنس والعفاريت، المجانين والحكماء، المذنبين والأبرياء، السفن والقوارب، السماء والأرض، الليل والنهار، الرمل واللؤلؤ، المحكوم عليهم بالحياة والمحكوم عليهم بالموت، مصاصى الدماء، والمتبرعين بحياتهم للحياة، لا يفرق بين أحد، يصاحب الجميع بحب، وبلا تمييز، هو العاشق، المعشوق، اللامنتهى، بلا منبع ولا مصب، لا ينتمى لأحد أو مكان أو وقت، ولا يحمل هوية، البحر هوية نفسه.

 

البحر هو المالح الذى لا عذب بدونه، فلا يمكن للنهر ولا للمطر أن يستمرا فى الحياة إلا بأن يُفضيا إليه فى النهاية، المالح الذى لا تكتمل دورة العذوبة إلا به، ولا تكتمل دورة الحياة بدونه، له دورة حياة تخصه، هو بذاته دورة حياة كاملة مكتملة، البحر دورة حياة نفسه.

البحر المؤثر العظيم فى العالم، حتى من لم يروه ولو مرة واحدة، يسكن قلوبهم وأرواحهم ويعرفونه بشكل ما، هل يمكن تخيّل العالم بدون البحر؟ أغمض عينيك وحاول أن تحذف البحر من العالم ومن حياتك، ليس فقط موجه وصوته، ورائحته، ولونه، وطعمه، وشكله، وملحه، ورذاذه، ولكن أيضًا إحساسك به، إحساسك الشخصى العميق وعلاقتك معه، لا أحد سيجرّب إحساس عدم وجود البحر بالعالم، لأنه لا أحد يستطيع أن يحذف البحر من خياله، فشخصيته حتى فى غيابه أقوى من حضور كل الأشياء بنفسها، حضور البحر ولو كفكرة، يُغرق كل الأفكار الأخرى، ويحذفها لصالح وجوده.

البحر، القلب الذى لا يتعب من النبض، لا يفكر قبل أن يمنح أو يسافر، لا يخاف التجربة، يعشقها، هو الرحال الغجرى المسافر، المجرّب الأول، مخترع العمق والجموح والسفر والتجريب، أول من يكتشف المجهول، الجدير بالحب والصداقة، والسفر إليه، والأمان معه، والجموح فيه، هو المستحيل الذى لا يمكن لأى شىء أن يكونه، أو يتشبه به، أو يؤدى دوره فى العالم.

البحر يؤثر فى كل الكائنات، فى حضن من سترمى الشمس نفسها نهاية كل يوم، ومن حضن من ستصعد كل صباح، هناك آلاف الشموس تهبط كل يوم فى آلاف الأماكن أو تصعد من آلاف الأماكن، لكن تلك التى تخرج من حضن البحر وتهبط إليه هى الأجمل والأكثر سعادة والأوفر حظًا، كذلك البلاد التى تعيش عنده، هى الأجمل والأكثر سعادة، والأكثر تقبلاً للبشر جميعًا، هى الأكثر تسامحًا معهم، والأكثر تفهمًا لأخطاءهم.

البحر لا يحمل مشاعر وسطًا، كبير فى جنونه، غضبه، حبه، هدوئه، لا يقبل بأقل من المنتهى فى كل شىء، تلك طبيعته، قادر على ابتلاع بلاد أو الكشف عنها، يبعثر فيها أنفاسه ورائحته، فينمو فى قلبها وقلوب ساكنيها شىء زائد عما هو موجود لدى كل البشر، ليس شيئًا ساحرًا أو مسحورًا أو عجيبًا، وإنما شىء بحرى، قادم من قلب البحر.

البحر المحب المحبوب، كم يحب الحياة حتى يمنحها كاملة حرة لمن يعيشون فيه ومعه، وكم تحبه الحياة حتى تشتاقه حتى وهى معه وفيه، كيف يكون بكل هذا التسامح وهو القادر على كل هذا الغضب، يكون بكل هذا التهور وهو الذى عاش مولد العالم، ولديه حياة لا نهائية، ويمكنه أن يتمهل دون قلق من أن يسرقه الوقت، كيف يكون بكل هذا القرب رغم جموحه، كيف يتفهم الجميع ويشاركهم أفكارهم ومشاعرهم، يحمل كل متناقضات ومشاعر العالم، هو الهادئ، الهادر، الغاضب، الجموح، البحر منتهى الغضبب، منتهى الحب، منتهى المشاعر.

 البحر بلا نافذة أو باب يغلقه بوجه أحد، قلبه الحى دومًا مفتوح للجميع دومًا، يبنى الأطفال بيوتهم وألعابهم ويكتبون أسماءهم ويرسمون أنفسهم برمله وأصدافه، فيتركهم يبنون حتى يسعدهم، ثم يهدم لهم كل شىء ليعلمهم معاودة الحلم والاستمرار فى بناء الأحلام حتى لو سقطت مئات المرات، الأطفال يفهمون ذلك ويعاودون البناء، هكذا البحر قادر على أن يتفاهم مع أطفال العالم وكائناته القديمة، يحتوى الجميع، يتفهمهم، ويؤثر فيهم، رغم ذلك فلكل شخص فى العالم علاقة شخصية وخاصة معه، يحدث هذا مع كل البشر والكائنات منذ بداية العالم، وقبل تلك البداية بكثير، وقتما كان وحده يبحث عنهم، إلى أى مدى قلب البحر كبير حتى يتسع لكل هذا، كيف هو متسامح ومحب لكائنات العالم وأماكنه، كيف أنه عظيم كونه لا يطلب من أى أحد أى شىء، كيف أنه يعطى دومًا، لا يطعن أحدًا فى ظهره، لا يكشف أى سر عن أى أحد، لا يهدد أحدًا بما يعرفه عنه، هل ذهب إليه أى أحد فى أى وقت، للحصول على سعادة أو حزن أو ليحكى سرًا، أو حتى ليلعب معه ولم يجده؟ أو اعتذر له البحر بأنه مريض أو مشغول أو فى مزاج غير معتدل؟ أو أنه لم يعد يحبه؟ هذا ما لم ولن يفعله البحر أبدًا، ليظل هو المحب الأول لهذا العالم، المحب الكبير.

ربما كل المخلوقات يمكن التعامل معها على أنها فى يوم من الأيام كانت كائنًا يحتاج رعاية من آخرين، كل الأشياء والكائنات تمر فى حياتها بفترات تكون فيها ضعيفة، واهنة، عدا البحر، كبير دائمًا، لم يشعر أحد بالمسئولية عنه فى أى وقت، هو أكبر من ذلك، كل المياه فى العالم تحتاج من يساعدها، تضعف فى أوقات وأماكن ما، يمكن التحكم بها والسيطرة عليها، فيكون مقدور عليها، وتحتاج لمن يتحمل مسئوليتها فى وقت ما، هذا لا يحدث مع البحر، لأنه ليس مجرد مياه، ليس تحت السيطرة، هو أكبر وأكثر جموحًا من أن يكون تحت سيطرة، هنا ليبقى حرًا، كأنه خلق بطريقة خاصة، كأن له وفيه شيئًا مميزًا غير كل المياه والمخلوقات، وهو بالفعل كذلك.

البحر المكان الذى يمكن أن تتوقع منه أشياء لا يمكن توقعها، يبقى قادرًا على الاحتفاظ بالكثير من الكنوز والأسرار، يبعثر الكثير من الكنوز والأسرار، هو الجموح، المزاجىّ، مستحيل المراس.

البحر الكبير، لا يتكبر ولا يتعالى على أحد، هو هنا فى أى وقت، يمكن لأى أحد أن يدخل إليه، فيحضنه فورًا، الاستغناء من أعظم صفاته، لا يطلب شيئًا، لا أحد لديه شيئًا يغريه به، يفعل فقط ما يحب، البحر يمنح، يفعل ذلك طوال الوقت، لو مددت له إصبعك لن يطلب منك المزيد، وسيحضنه بنفس الحب الذى سيحضنك كلك لو نزلت إليه، لا يهرب، لا يتراجع، ولا يكتفى من قصص الحب والحياة.

البحر بلا مُعلّم، ولا يريد أن يكون مثلاً أعلى، لا يريد أن يكون له تلاميذ، يريد لكل كائن أن ينطلق، الكل سواء فى الحرية والمساحة المتاحة فى العالم، وكل العالم متاح، ليعيش كل مخلوق شخصيته وحريته وتجربته وحياته بما يليق بها أن تضاف لحيوات العالم. 

للبحر حبيبات فى كل مكان، أصدقاء، أبناء وبنات، أخوة وأخوات، أبناء عمومة وخئولة، فى نفس الوقت هو لا يشبه أحدًا منهم، فى نفس الوقت ليس له أحد، فى نفس الوقت هو للجميع، وليس لأى أحد، هو كل هؤلاء، ولا أحدًا منهم، أيضًا هو الوحيد تمامًا.. تمامًا، البحر كل التناقض، الصادق فى كل تناقضاته، صادق حد الصدمة، وصادم حد أن يكون كل شىء فى النهاية ومنذ البداية مقبولاً وبسيطًا وسهلاً.

البحر صانع الدهشة، الأساطير، والحكايات، النهم الشغوف الشبق المحب للحياة والعالم، ورغم كل ما عرفه وعاشه فى الحياة والعالم، يريد المزيد، يحب أن يتطلع فى وجوه البشر وقلوبهم، أن يسبح فوق البلاد والجبال وفى قاع الدنيا، يجرى عاريًا فى الغابات والصحارى والشمس والجليد، يطير ليرشّ السماء، يفتت القمر، يملّح النجوم، ويصاحب الكواكب، يلمس ويتذوق ويعيش كل شىء، يريد أن يتعرف على العالم، ويقبض على جوهرته، لأنه يعرف أنه لا نهاية لأن يعرف ويعيش ويجرّب ويحب.

 

ــــــــــــــــــــــــــ

*روائي مصري

 

خاص الكتابة

 

مقالات من نفس القسم

محمد العنيزي
كتابة
موقع الكتابة

أمطار