العالم السحري للكتابة .. بين الصفحة البيضاء وشاشة السينما

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام
أظن أن الكتب التي يكتبها البعض عن فعل الكتابة وطقوسها ، او الأفلام السينمائية التي تختار ان يكون بطلها " كاتب "  تجعلنا نلقي نظرة على عالم الخلق الذي يعيشه الكتّاب ، تقدم   معانتهم وفرحهم  الخاص بالكتابة ..  المسافة  الواهية بين الجنون والوحدة والرغبة في التعويض عن الحزن والفقد  .   انتجت السينما الكثير من هذه الأفلام .  مبكرا جدا شاهدت فيلم " بؤس " misery " " الذي انتج عام 1990 بطولة جيمس كان ، وكاتي باتس التي حصلت على أوسكار أفضل ممثلة عن دورها فيه ، وتدور قصة الفيلم حول كاتب شهير يتعرض لحادث فتنقذه سيدة -مضطربه نفسيا- وحيدة وبائسة  معجبه بكتابته لكنها مستاءة من الطريقة التي أنهى بها كتابه الأخير لأنه قتل البطلة التي تعلقت هي بها ، تعالجه المراة من حادثة السيارة لكنها تحتجزه في بيتها وتحرق مسودة كتابه الجديد ، وتطلب منه أن يكتب القصة مرة أخرى شرط ان يعيد البطلة للحياة .. وتدور احداث مثيرة ورهيبة في ذلك البيت النائي المحاط بالثلوج والصمت .. لم تفلتني قصة الفيلم الذي شاهدته منذ ما يقرب من عشرين عاما ، نظرة الذعر وعدم التصديق التي لازمت البطل " الكاتب " في بداية تلك الورطة ، كيف قرر الكتابة ومجاراة خاطفته  كان يكتب القصة الأخرى لينجو من الموت ، كانت الكتابة مقايضة على حياته ووجوده .  حتى في مشهد النهاية لم تكن صدفة ان يهوي بالألة الكاتبة على رأسها لتموت ، كان من الممكن ان يصل لأي أداة اخرى لكن المخرج اختار ان يكون خلاصه بالألة الكاتبة لا يمكن أن أكتب عن صورة الكاتب في السينما ولا أتذكر " جاك نيكلسون " بنظرته المجنونة تماما ودقه على الآلة الكاتبة في القاعة الواسعه بالفندق الفارغ المحاط بالثلوج وممتلئ بالرعب والأشباح في فيلم " البريق " the shining"  الذي يحكي قصة  جاك تورانس وهو كاتب قبل وظيفة حارس في فندق بجبال كولورادو، يتم إغلاق الفندق خلال فصل الشتاء،ليتمكن من إنهاء كتابه ، يجلس معظم الفيلم يدق على الآلة بنظرته المخبولة ، لا تعادل هذه النظرة سوى نطرة رعب زوجته عندما تلقى قرب نهاية الفليم نظرة على أوراقه فلا تجد نص او كتابة فقط حرف واحد مكرر ، زوجها لم يكن يكتب شئ طوال الشتاء .. لكنه وفيما بدى بعد ذلك يستسلم في الفندق المسكون  الذي يسكنه  مع عائلته وحدهم  ،  يكتشف داني ابن جاك أن الفندق مسكون بالأشباح ، وتستولي الأرواح على ذهن جاك وتدفعه تدريجياُ نحو الجنون،وقتل عائلته كما فعل الحارس السابق .  الفيلم أنتج عام 1980  شارك نيكلسون البطولة شيلي دوفال   وأخرجه ستانلي كوبريك .    " جاك نيكلسون " الذي جسد شخصية الكاتب مرة أخرى في فيلم " أفضل مايمكن حدوثه as good as it gets "  " الفيلم انتج عام 1997 ورشح لأوسكار أحسن فيلم ، وفاز فيه نيكلسون بأوسكار أحسن ممثل ، وفازت هيلين هنت بجائزة  أوسكار افضل ممثلة عن دورها فيه . ويقدم فيه نيكلسون شخصية " كاتب " مصاب بوسواس قهري ، ينهي كتابته في مواعيد محددة ويعمل بحزم شديد  ، علاقته سيئة مع العالم ومع جيرانه وليس له اصدقاء ، فقط يرتاد المطعم ذاته منذ سنوات وينتظر النادلة نفسها لتقدم له الطعام ، وبسبب حرصه على عادته تلك دفعه غيابها لذهابه لبيتها طالبا منها أن تعود للمطعم وتقدم له الغداء كما اعتاد ، هناك يكتشف مرض ابنها ، في الوقت نفسه يتعرض جاره لحادثة ويتورط هو في رعاية كلبه ، وتدور احداث الفيلم في إطار إنساني كوميدي . يتحرك فيها الرجل الذي اختار أن يختفي خلف الألة الكاتبة  ويمارس طقوسا متشابهه ، يتحرك خارج ورقه وكلماته ويقع في الحب ، ويعرفه أن ما تمنحه الحياة لا تعوضه الكتابة وحدها . يظهر " جاك نيكلسون " مرة أخرى في فيلم له علاقة بحياة الكاتب ، هو " يجب إعطاء شئ " somethingsgottagive"  لكن هذه المرة تكون الكاتبة هي " ديان كيتون " وهو رجل متصابي لا يحب أن يدخل في علاقات حقيقة ويصادق فتيات صغيرات ليشعر بشبابه ، في هذا الفيلم يقع في غرام كيتون التي كانت ام لفتاة تعرف عليها حديثا وذهب لبيتها المخصص للكتابة على الشاطئ ليقضى العطلة مع صديقته الجديدة . " ديان كيتون " تقدم نموذج لكاتبة مسرحية استبدلت علاقتها العاطفية بالكتابة بعد فشلها في زواج ، فاجئتها مشاعرها نحو نيكلسون ، قاومتها ثم سقطت بطفولة وسعادة . لكنه خاف من علاقة جادة وابتعد وقضت هي الصيف كله في بيت الكتاة على الشاطئ تكتب مآساة حبها تلك .. تكتب ألمها وتظهر في مشاهد متواصلة تبكي وهي تدق الحروف على شاشة الاب توب . يعود اليها حبيبها في النهاية بعد عام وتنجز هي مسرحيتها وتنجح كثيرا .   نموذج الكاتبة الذي قدمته كيتون في هذا الفيلم  بتيمة الكاتبة التي تعمل في كتاب جديد لتنسى قصة حب فاشلة أوجعتها تم تجسديها اكثر من مرة في أفلام بطلاتها كاتبات يحاولن التملص من قصص الحب الفاشلة   منها فيلم " تحت شمس توسكانunder the Tuscan sun  " وهو فيلم حصل على جائزة افضل فيلم وأفضل سيناريو في مهرجان سنتياغو وقدمت فيه الممثلة ديان لاين شخصية كاتبة بالغة من العمر 35 عاما طلقت حديثا ، وحصلت على مبلغ مالي من زوجها مقابل البيت الذي كانت تسكن فيه ، تسافر لإيطاليا لبضعة أيام لتقيم علاقتها بالعالم لكنها تقرر شراء بيت في توسكن ، وتسعى لترميمه  وهي تتمنى أن تفرح في هذا البيت الجديد وهناك تقابل الكثير من الشخصيات الجميلة ويمتلأ بيتها بالمحبة وتطهو لعدد كبير من البشر وتقيم حفل زفاف وتستقبل مولودة صديقتها هناك ، وتقابل أخيرا كاتبا امريكيا جاء ليسأل عنها لأنه معجب بكتابتها .. كاتبة مدمرة نفسيا ووحيدة تنقذها المحبة والشمس والبشر .   تتكرر التيمة نفسها لدى إليزابيث جلبرت الكاتبة الأمريكية التي قدمت كتابا بعنوان " طعام صلاة حب " قدمت طبعته الأولى عام 2006  الذي باع أكثر من 4 مليون نسخة ، وتصدر قائمة النيويورك تايمز للأكثر مبيعا ل 110 أسبوعا ، وقدمت فيه جلبرت تدوين لرحلتها التي قامت بها بعد طلاقها عن زوجها  . بدأت بإيطاليا حيث أمضت أربع شهور وهي تأكل وتتمتع بالأكل  ثم قضت أربع شهور أخرى في الهند تحاول البحث عن الروحانية في داخلها وبدأت تصلّي  ثم أنهت الرحلة في بالي بأندونيسيا تبحث عن التوازن بين الإثنين وإيجاد الحب . لاحقا تحول الكتاب الشهير لفيلم قدمته " جوليا روبرتس بالعنوان نفسه " EatPrayLove " حقق نجاحا كبيرا وقدم الرسالة نفسها التي أرادت الكاتبة أن توجهها من خلال الكتاب وهي جدد إيمانك بالحب- إن فقدت توازنك.. فقدت حياتك..  صورة الكاتبات الآتي تبحثن عن التداوي من الحب مختلف عن الصورة التي قدمت بها صورة الكاتبة في فيلم   "أكثرمن خيالstranger . than .Fiction". الذي أنتج عام 2006 وهو يحكي قصة كاتبة متعطلة عن العمل منذ عشر سنوات ، وتنجز رواية جديدة ، لكنها لا تتمكن من قتل بطلها ، لأنها ببساطة لا تجد طريقة لذلك. تبحث الكاتبة طوال الفيلم عن طريقة ملائمة لقتله. تقف على حافة ناطحة سحاب ، تحاول أن تتخيل ذلك السقوط الرحيم لعذاباتها ، أو تجلس تحت المطر في الشارع ، مجربة فكرة الموت بحادث طريق وسط المطر ، تجرب ببؤس حقيقي ومعاناة. في الفيلم مفارقة مرعبة ، وهي أن بطل رواية الكاتبة  الذي يلعب دوره الممثل " ويل فيريل " محاسب ضريبى يعيش وحيدا حياة روتينية، مملة، لكن الإثارة تشتعل فى حياته حين يبدأ فى سماع صوت امرأة تروى أحداث حياته بدقة شديدة، ولكنه لا يستطيع التواصل معها.، يعرف بطريقة ما أنه شخصية روائية ، بعد ان يعرف أن الصوت الذي يسمعه للمؤلفة الروائية الشهيرة كارين إيفيل -حين يشاهد حديثا تيلفزيونيا لها-والمعروفة بقتل أبطال رواياتها فى كل أعمالها، وأن ما يمنعها عن إنهاء روايتها هى معاناتها من رسم الحبكة لموت البطل، فيبحث عنها حتى يجدها ، ويزورها في بيتها ويحاول أن يقنعها أن لا تفعل ذلك. ،  هي كاتبة المآسي التي تقتل كل أبطالها في كل ما تكتب ، تقابل ضحيتها الأخيرة أو بطلها الأخير ، فتفكر في كم شخص قتلت طوال حياتها المهنية ككاتبة. كسر الحاجز بين الواقعي والمتخيل في هذا الفيلم تم تقديمه بجمال أيضا في فيلم " لقطة مختصرة للسعادةshort cut  of happiness"" الذي أنتج عام 2004 وقام ببطولته  ألك بلدوين ،انتونى هوبكينز ، جينفر لوف هيوت .. حيث يقوم كاتب في بداية حياته الأدبية انهى رواية لم يهتم احد بشرائها بيع روحه للشيطان ليحصل على النجاح السريع والثراء والجوائز الأدبية .. يحصل على ذلك بشكل زائف ويفقد امامه أصدقائه واحترامه لذاته والإحترام الحقيقي من النقاد لموهبته فيطلب من الشيطان غيقاف الصفقة بعد مرور عشر سنوات وتحدث محاكمة بديعة وهي مشهد النهاية في الفيلم يحاول فيها الكاتب ومحاميه من جهة والشيطان من جهة أخرى الحصول على روح الكاتب .    اللعب في الخط ذاته قام به المخرج وودي ألن في فيلم له بعنوان "  منتصف الليل في باريس-Midnight In Paris "إنتاج عام 2011 حيث يقدم  أوين ويلسون – المتورط مع خطيبه لا تؤمن بموهبته كروائي وتفضل عليها استمراره في جلب المال عبر كتابة السيناريوهات التافهة لهوليوود وهما يقضيان عطلة في باريس ، استغل وودي سحر باريس وجمالها وفتح ممرا سحريا للكاتب في باريس العشرينات حيث استطاع أن يقابل كل ليلة عند منتصف الليل   كبار كتاب وفناني عشرينات القرن الماضي وأولهم "أرنست همنجواي " الذي يصحبه الي منزل بيكاسو وهناك يقابل  فيتجرود شتاين وأيضا عشيقة بيكاسو  .. و يعرض البطل روايته التي  يعمل بها  علي "هيمنجواي "  لكنه ان يقراها ويعرضها على الناقدة فيتجرود شتاين مؤكدا أنها لو كانت سيئة سوف تنغص عليه مزاجه وان كانت جيدة جدا سيشعر بالغيرة وبالتالي فمن الأفضل أن يراها ناقد وليس مبدع . الفيلم لعبة وتداخل بين الرواية التي يكتبها البطل والمكان الذي هو باريس والسحر الذي يختلط ويبدو براقا في العلاقة بين الكتابة والسينما . أفكر الآن بينما تتدفق على ذاكرتي الكثير من الأعمال الجميلة التي نسجت لنا شيئا من معاناة الكاتب وواربت لنا بابا لعالمه ان ما أريد ان اختم به كتابتي هو فيلم سيرة لكاتبة ، اعتبره في رأيي  أكثر الأفلام جمالا وقسوة وهو فيلم " إيريسiris  " الذي يحكي قصة حياة كاتبة بريطانية  شهيرة هي إيريس ماردوخ التي توفت  بمرض أل زهايمر الفيلم انتج عام  1997واستند سيناريو " آيريس " على مذكرات زوجها جون بايلي و التي كان عنوانها " إكراما لآيريس "، و فيها تحدث عن حياتهما المشتركة. جسدت شخصية ايريس في شبابها الممثلة البريطانية كيت وينسلت وفي شيخوختها الرائعة جودي دينش . الفيلم جسد قصة حياة حافلة بالمرح والمجون والفلسفة والإنطلاق والحب ، جسد ماساة كاتبة تنسى شكل الحروف وهجاءها ثم معاني الكلمات ثم وبينما تسلمت نسختها الأولى من كتابها الأخيرة وقفت عاجزة عن النطق شاردة لا تعرف ما الذي بين يديها ولا يحمل لها أي معنى من هذا العالم .. فقط صمت وظلام . أظن أن مصير أيريس كان اسوء مخاوف الكاتب  واكثرها منطقية بالقدر ذاته ..  التعطل عن الكتابة ، قسوة التوقف الدراماتيكي لسير الأحداث  .. الكتابة  التي تسرق الروح وتحولها إلى بخار شفاف ، تُنقص جرامًا واحدًا كل مرة ، تسرقنا بهدوء حتى لا يلحظ أحد الإختفاء . الكتابة التي تعطي معنى حقيقي للعالم بقدر ما تتيح تحوله لخرافة .  تمنح الألم  الشهي الذي يبدو سمة مشتركة لكل ما هو حقيقي وخرافي بالدرجة ذاتها. الألم الشهي .. سمة مشتركة للحياة والموت والكتابة والجنس والموسيقى  والسينما ، لكل ما يستطيع أن ينقلنا من هنا إلى هناك ، بحركة واحدة غير واثقة لعصا سحرية غير مرئية.   من هنا إلى هناك حيث نكون فاعلاً ومفعولاً به في لحظة واحدة ، وبيقين حقيقي ، وشك لا منتهٍ.

مقالات من نفس القسم