ريش .. إعادة اكتشاف الذات

فيلم ريش
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

 نجلاء علام  

الريش هو ذلك الغطاء الوثير الناعم المريح الذي يعطي مظهرا لطيفا، تحمل الريشة الطائر إلى أعالي السماء، وتحمل الريشة الفكرة إلى صفحات كتاب، وبنفخة صغيرة تطير الريشة محملة بالأحلام، فإلى أي ريش ينتمي ريش عمر الزهيري، وهل ينطوي الأمر على خدعة ما؟!

شاهدت الفيلم مرات، في المرة الأولى كنت محملة بالإندهاش، ولم أستطع أن أترك ذلك الشرك الذي نصبه المخرج بإحكام، ولذلك أعدت مشاهدته في نفس الوقت لمرة ثانية، وكنت محملة بالتساؤل، وأردت الوقوف أمام كل إشارة ولذا شاهدته للمرة الثالثة، وكنت محملة بالإعجاب! فالفن الحقيقي يحتاج إلى مجاهدة في التلقي ربما لا تقل عن مجاهدة صانعي الفيلم!   

فيلم ريش

فقر الذات

لم يقصد المخرج “عمر الزهيري” تجسيد البيئة المصرية الفقيرة في الصعيد، ولو قصد هذا لصنع فيلما تسجيليا يجسد هذا الفقر، ولو فكر في هذا وذهب إلى الصعيد أو الريف لتصوير مشاهد البؤس، لخرج الفيلم ليمثل احتفالية شديدة العزوبة والرقي عن الإنسان المصري المكافح المثابر القادر على استغلال إمكانياته وإمكانيات بيئته والنجاح في وصول مركب حياته وحياة أسرته إلى بر آمن.

الفقر داخل فيلم “ريش” هو معادل موضوعي شديد الرمزية لفقر الذات الإنسانية الحاضرة في هذا العصر، نعم فالذات داخل هذا الفيلم تمثل الذات الإنسانية أي تعبر عن الإنسان العالمي الموجود في هذا العصر، هذا الإنسان الذي يجابه لأول مرة تلك الثورة في الاتصالات، سيل الأخبار والمعلومات والأحداث التي يُذهِبُ بعضها بعضاً، والتي شعر من خلالها تراجعاً في الاهتمام به، صحيح أنه صانع الخبر والحدث ومتلقيه، ولكنهما ( الخبر والحدث ) اكتسبا شخصية منفصلة عنه، وتقدما وتراجع هو.

 هذا الإنسان المغترب في عصره، فالإنسان يشعر بالاغتراب حين ينظر لكل ما يحيط به ولا يستطيع أن يحتويه داخل ذاته ويعيد انتاجه والتماس معه من زواية هذه الذات، فتستغلق عليه الحياة، فمعرفة الذات هي المفتاح للتواصل مع العالم. ولكن هل يجرنا المعاش/ اليومي/ الإيهام/ الغياب عن الحضور الفعلي هل يجرنا إلى محو الذات أم تأكيدها؟

هل وصل الأمر إلى الصراع بينهما؟ أم أن كل هذه الخلطة داخل الفيلم تدفع هذه الذات الكسولة إلى جلاء مرآتها، تعيدها إلى نفسها ووظيفتها كي تفرز وتدقق وتختار.

ولكن ماهي الذات؟! هل هي النفس ؟ هل هي مجموعة المشاعر والمدركات لدى كل فرد عن نفسه؟ هل هي نحت الواقع على النفس؟ هل هي أثر أمور الحياة التي تتابع على شخص ما ؟ هل هي الأحاسيس المتكونة داخل شخص ما ؟ هل هي المواقف المرصودة من شخص ما؟ ما هي الذات التي قصدها عمر الزهيري؟!

لقد وقفت كثيرا عندها ووجدتني أراها في كل هذا، بل وجدتني أرها ذلك الزمن الخفي الذي يمر على الإنسان، فكل ما نراه حولنا، وما يحدث في الواقع من أحداث عظام وجسام أو أحداث صغيرة لا يلتفت إليها أحد، هي ذلك الوقت الذي يقضيه الإنسان في الحياة.

أما الزمن فهو ما يستبطن داخل النفس / الذات من هذه الأحداث، ولهذا ربما نجد حدثا صغيرا يؤثر في ذات ما تأثيرا فارقًا في حياتها وتتغير الرؤية بالنسبة إليها من حيث اتخاذ المواقف وتكوين الشخصية والرأي وفقًا لهذا الحدث الصغير.

إن هذا التأثير يحدث في ذلك الزمن الخفي اللحظي الذي يستغرقه الإدراك ولكنه يظل مستبطن في النفس أو الذات،  والذي يُكون في النهاية تلك الذات الواعية، إذن الذات هنا تمثل جموع تلك اللحظات المنيرة الفارقة في الوجدان الإنساني.

هل ذهبت بعيدا بعيدا وأولت مشاهد الفيلم فوق ما تحتمل؟! لا أعتقد ففي فيلم “الأزمنة الحديثة” لتشارلي شابلن، لم يكن تشارلي يحصر بطله في نطاق البراجماتية الأمريكية والتشيؤ الذي نتج عن الثورة الصناعية في أمريكا وحدها، بل كان يقصد أن هذا حال الإنسان على كوكب الأرض في عصره، وها أنت تجلس عزيزي المشاهد لتضحك من كم المفارقات والسخرية وأحيانا الفانتازيا بينما شيئا من وعيك يتشكل! لماذا أذن لا ينسحب هذا على فيلم “ريش” فنقول أن عمر الزهيري أراد مخاطبة الإنسان في هذا العصر، أم أننا بارعون في تقزيم ذواتنا أمام النظرة المعلبة الجاهزة!

ويكفي أن نسترجع مشهد عودة الأم لتجد ابنها الكبير يقوم بحرق اللعبة الوهمية التي أعطاها له أبيه قبل أن يختفى، ويكسر تلك التحفة التي تحيله إلى الغياب مثل والده، لحظة وعي شديدة الأهمية وفارقة في حياة هذه الأسرة التي تمثل المجتمع ومن ثم الإنسان في هذا العصر، هذه اللحظة لحظة الوعي التي أثرت في الأم تأثيرا عظيما، ولنعد إلى جملتها ” بتعمل أيه؟! بتعمل أيه؟! ” لحظة زلزلة الوعي والإدراك.

عند اختفاء الأب تذهب الأم إلى قسم الشرطة للبلاغ عن تغيبه وعن الساحر الذي تسبب في اختفائه، عندها لا تستطيع المواجهة تقول: “ماعرفش حاجة .. ماعرفش حاجة! ” وفي نهاية الفيلم تقول بصوت بدء يثق في قدراته: ” أنا جاية أبلغ عن واحد “، ولأول مرة في الفيلم نسمع كلمة أنا .. ها هي الذات تتشكل وتعيي وتخرج للنور.

مازلت أراك غير مقتنع عزيزي القارئ، انتظر سأقدم لك دليلا آخر، وأتسأل معك، لماذا لم يتم تعين الشخصيات، لماذا نراها في الفيلم بلا أسماء؟! فطوال الفيلم نجد الباشا، يا ست، وأيضا أحيانا يأتي الحوار بين الشخصيات بضمير الغائب، لأنه ببساطة لو تم تسمية الأبطال لأصبحوا دليلا دامغا أن هذه الأحداث تحدث في منطقة معينة من العالم وترتبط بها وبهذا يفلت بقية العالم من هذه الرمزية، أعرف أن الصورة تحيل إلى مكان بين القرية والمدينة في مصر، وأن اللغة المستخدمة في الحوار هي العامية المصرية، ولكن كأن صناع الفيلم يقولون لك أن هذه الذوات يمكنها أن توجد في كل مكان وبكل اللغات فهذه ليست مشكلة مديحة أو تريزا وإنما هي مشكلة تنسحب على الإنسان في هذا العصر، صادف أن تم تنفيذها بهؤلاء الأشخاص وبهذه اللغة.     

فيلم ريش

الغياب

يبدو مشهد جلوس الأسرة لمشاهدة التليفزيون مشهدا دالا ببراعة فالأب يجلس يتابع باهتمام وينفعل مع الأحداث ويقرر إن جاءته نقود أن يكون لديه حمام سباحة وترابيزة بلياردو، ويسأله الأبن الأكبر ببساطة عن معنى البلياردو، ويندهش الأب وكأن البلياردو شيء أساسي في حياتهم، وبينما يحمس الأب أولاده للانخراط في متابعة أحداث الشاشة نجد الأم تنظر لأبنائها وترضع الصغير تنظر للشاشة قليلا ثم تُعرض عنها ببساطة كأنها غير مقتنعة، وتتحول الكاميرا لشاشة التليفزيون التي تعرض فيلما أجنبيًا يلهو فيه مجموعة من الشباب حول حمام سباحة.

إن غياب هذا الأب عن مفردات عالمه، عن الإمكانيات المتاحة له داخل هذا العالم وهذه البيئة حتى لو كانت إمكانيات بسيطة، وغرقه في ريش الإيهام هو ما أدى به إلى الغياب الكامل بعد ذلك في أحداث الفيلم، يؤصل السينارست لمسألة الإيهام أو الغياب المعنوي للأب بمشهد أكثر دلالة، يأتي الأب فرحا ربما بعد قبض المرتب وهو يحمل شيئا يبدو كتحفة منزلية رخيصة تصدر أضواء وبها شلال ماء صغير وبعض الألعاب مثل كرة تدور تمثل العالم، ويأخذ في تكرار ” بتدي منظر للمكان وفي نفس الوقت شيك ” لاحظ كلمتي منظر وشيك، “منظر” فالأهم هو المنظر الفورم الصورة أو الإيهام بالصورة أو الغياب الفعلي عن مفردات عالمه الحقيقي، لن أقع في شرك أستخدام مصطلح الواقع، فهذا لم يقصده صناع الفيلم. بل هل أقول أننا جميعا مثل هذا الأب بدرجات متفاوتة، إذا لم تغرق أمام المسلسلات فأنت تغرق في السوشيال ميديا، وإذا لم تغرق أمام السوشيال ميديا فأنت تغرق في كرة القدم، وإذا لم تغرق في الكرة، فأنت غارق في التوك شو، الحقيقة أننا غارقون في عالم افتراضي مصور ممتع لطيف لكنه يغيبنا عن أنفسنا عن إمكانياتنا عن مفردات حياتنا عن قدراتنا الحقيقية.

فهذا الأب الذي يأمر الأم بأن الوجبة اليوم وغدا ستكون باذنجان، ويجلس على فرش قديم لا ينظر له بل ينظر إلى شاشة التليفزيون دائما، يقرر في لحظة غياب تام أن يقيم عيد ميلاد لابنه، ربما يكون هذا المشهد هو قمة الغياب بالنسبة للأب، ولهذا يدخل صندوقا ويختفي، صندوق الميديا أو صندوق السوشيال ميديا أو صندوق يمثل هذا العالم الافتراضي ولا يبقى منه سوى “فرخة” أكبر كائن معبر عن حالته، لا أتفق مع كون هذا المشهد من قبيل الفانتازيا بل هو إذا جاز التعبير “تشبيه بليغ” ، هل تذكرون حكاية الدجاجة التي أراد القرد أن يضحك عليها فربط لها حبة قمح في خيط وربط الخيط في قشة ووضع القشة على رأسها، وعندما رأت الفرخة الحبة أخذت تجري كي تمسك بها، بينما لو نظرت تحت أقدامها لرأت حبا كثيرا ناضجا، ولكن هذه الحبة بالذات لأنها مرتفعة عن مستوى نظرها فإنها تبدو كبيرة ومختلفة، وتقضي العمر في الجري ورائها.

تبقى كلمة “شيك” والسؤال هو: من كون الذائقة الجمالية لهذا الرجل كي يطلق حكمه بأن هذا الشيء شيك؟ ما الذي دفعه لشراء هذا الشيء بدلا من كيلو لحم له ولإولاده؟ أليس الضغط المستمر على الإنسان في العصر الحالي من قبل التوحش الرأسمالي بالمغريات، أليس اللُهاث وراء تزين السلع وتروجيها بأي وسيلة، أليست الممكنات الجائرات التي يضبط الإنسان نفسه وهو يفكر فيها ويتوق إليها!

الحضور

تمثل الأم الحضور الفعلي للذات داخل الفيلم، تشعر في النصف الأول من الفيلم أنها وجودها خافت، وأنها حاضرة بجسدها ولكن عقلها ووجدانها أسيرا ذاتها، إنها تعيش المتاح ولكنها تعيد إنتاجه من خلال ذاتها ولا تمل من الحوار الداخلي ولذلك تبدو شاردة، ثم يحدث الزلزال وتنتفض ذاتها لتأكيد وجودها، إنها عكس ما يظن البعض، فهي قوية نفسيا وهذا ما ساعدها على تخطي تلك المحن.

فهذا الأب الذي يبدو جسمانيا أقوى لايستطيع مجابهة الحياة عندما يغرق في صندوقه، استمرت حياته داخل مشاهد موازية – لمشاهد الأم- غير مرئية للمُشاهد أو المتفرج، ومن خلال الأحداث نرى تفتح ذات الأم وانتصارها، بينما مشاهد الأب المختفية عن نظرنا تؤكد هزيمة ذاته وانسحاقه وبالتالي موته المعنوي وعودته مشلولا لا يقوى على الحركة، وفي مشهد بليغ تضرب الأم هذا الزوج وتقول: “قوم .. قوم .. اتكلم” وكأنها تعطي ذاته الفرصة الأخيرة للمقاومة.

ترتدي الأم اللون الأبيض في جميع المشاهد، لا يمثل الأبيض هنا النقاء بقدر ما يمثل امتزاج الألوان جميعها، فهي تقف مزهوة في مشهد ضرب “الباشا” ذلك الرجل الذي ساعدها في مواقف كثيرة ولكنه يحاول استغلالها جسديًا، وتستطيع الدفاع عن نفسها بيدها مرة ومرة أخرى بالتحريض عليه، إن داخل ذاتها مقومات البقاء، فلديها طاقة نفسية جعلتها وهي التي تبدو في بداية الفيلم كإمرأة لم تخرج من بيتها قط، نجدها تعمل في بيت ومصنع وتواجه نظرات الرجال وهي شبه الشابة شبة الجميلة، هذه المرأة التي تبحث عن جوهر ذاتها لم تكن مسحوقة تحت وطأة الرجل /الذكوري، هذه الرؤية تُسطح الشخصية، الحقيقة أن زوجها هو المتدثر بريش الإيهام نافيا شخصيته، بينما أستطاعت هي بمثابرة الحصول على جوهرتها المختبئة.     

اللغة السينمائية

تطغى اللغة السينمائية في جميع المشاهد على الحوار، يصبح التعبير بالكلمة هو الهامش، أما المتن فهي الصورة بكل زخمها الديكور والإضاءة والسينوغرافيا وزاوية التصوير والمونتاج والوجوه المعبرة وأخيرا الموسيقى المصاحبة للصورة، يستخدم المخرج أحيانا تقنية تثبيت الصورة لتحاكي لوحة ترسخ في الوجدان، إيقاع الفيلم يميل للبطء ليس فقط لكونه لا يسرد حدثا بعينه وإنما يعيد تدوير الحدث داخل الشخصيات/ الذوات، ويلتقط ما يرسب داخلها، فعلى سبيل المثال الموسيقى في هذا الفيلم تمثل مفارقة شديدة التفرد ففي حين تعبر الصورة عن حدث، نجد الموسيقى تعبر عن إدراك الشخص لهذه اللحظة داخل ذاته أو ما تستبطنه هذه الذات في هذه اللحظة من خلال هذا المشهد ولذلك نجد موسيقى رومانسية في مشاهد لا تدل صورتها على هذه الرومانسية، بينما تتجلى المفارقة الرائعة في أغنية النهاية التي لا نعرف هل هي نوع من استشراف المستقبل بالنسبة لهذه الأسرة التي ستصحو يوما على زقزقة العصافير أم أن هذه الأغنية هي نفسها تجسيد لم تختزنه الذات الإنسانية المتفرجة من أحداث الفيلم.

يبقى ذلك التحدي الكبير، فلا أبطال للفيلم أنهم الشخصيات/ الذوات بعينها، لن تشوش الصورة الذهنية المترسخة داخلي كمتفرج للأبطال المشهورين أو المعروفين، تماما مثلما كنا صغار ونرى محمود المليجي في الأفلام الأبيض والأسود فنعرف أنه سيكون الشرير حتى ولو لم نكن شاهدنا الفيلم من قبل، أما إذا كان الفيلم ملونا فإنه بالطبع سيكون الأب الحنون أو الرجل المغلوب على أمره، دعنا من كون محمود المليجي ممثل جبار ولم يأتي مثله في السينما المصرية، ولكن تلك القولبة التي تُعد آفة عندنا كأنه غير مسموح بالاجتهاد أو تخطي المنطقة المحيطة.

وبذلك تم محو الانطباع الأولي عند رؤية الممثل أو الممثلة، تم محو الحكم المبدئي على تصنيف الشخصية في خانة الشر أو خانة الخير، ووقع المتفرج في ربكة وحيرة أسلمته للخضوع الكامل لتلك المشاهد المتعاقبة والاندماج مع الأحداث.

أما هؤلاء الممثلين فقد قدموا درسا معجزا في الأداء، لا يمكن وصف أدائهم بالصدق، فأنت تصدق حين تكون مخيرا بين الصدق والإدعاء مثلا، أما هم فكانوا مجبرين بفعل موهبتهم الطاغية، ومشاعرهم وأحساسيهم التي جعلت حضورهم بهي، على كافة المستويات تم اكتشاف موهبة كبيرة “دميانة نصار” التي أستطاعت التعبير بصمتها البليغ وتعبيراتها المكبوتة، عن أصعب الأحاسيس البشرية.      

 

فيلم “ريش”

إخراج : عمر الزهيري

سيناريو وحوار: أحمد عامر – عمر الزهيري

مدير التصوير : كمال سامي

المونتاج : هشام صقر

موسيقى : أحمد عدنان

ديكور : عاصم علي

تمثيل : دميانة نصار – سامي بسيوني – محمد عبد الهادي – فادي مينا فوزي- أبو سيفين نبيل ويصا

   

 

 

 

 

 

مقالات من نفس القسم