“خبيئة العارف”.. مطارحات في فضاء التاريخ والتصوف والسيرة الغيرية

خبيئة العارف
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

 فرج مجاهد عبد الوهاب

لعلّ من أهم وظائف البرنامج السّردي الحديث، بعد أن حلّت نظرية السّرد محل نظرية الرواية، هو تحفيز الفعل السردي وتعزيزه ومن ثم النهوض به في فضاء منهاج درامي متصاعد، وذلك من خلال تحفيز عمل الذات الفاعلة لدفعها إلى تحقيق برنامج سردي معيّن، وهنا تبرز أهمية العلاقة بين كلٍ من:

المرسل ← المؤلف ← الراوي، من خلال العمل على القص الذي يسعي في مطارحاته السردية، ومقارباته الحديثة، وتنقلاته الواعية بين كل من الشخصيات والأمكنة على اختلافها: قري، مدن، دور، مساجد، مقامات، مزارات، ويجمع ذلك في وحدة العمليات الفنية الفاعلة، والعاملة على تهيئة ذات متفاعلة على طريق تحقيق إنجازات أو “مواضيع قيمية” قابلة للإنجاز ودفع الفعل لأن يتدخل ويتداخل في كل مقومات الحكاية.

هذا ما يدفعنا إلى السؤال: هل كان الدكتور خيري محفوظ وهو يبحث في سيرة العالم أبي العزائم للوصول إلى الكنز الذي يصر رئيس البلد على فك أسراره .. ومحل وجوده والحصول عليه حتى وإن كان مدفوناً في صحن مسجد أو تحت مقام الشيخ الجليل، وبالتالي هل كان المعزز السردي في برنامج الرواية التي أبدع صياغتها الروائي المعروف “عمار علي حسن” وعنوانها “خبيئة العارف” وصدرت عن الدار المصرية اللبنانية عام 2017

وإلى أي مدى استطاع الراوي سواء عندما كان بصحبة ناظر وقف البلد أو الجالس على الكرسي الكبير أو مع مباحث الأمن أن يلم أطراف أطياف سرد تسربت مطارحاته بين التاريخ والحاضر، وبين أملاك الإمام أبي العزائم وحبك المؤامرات للوصول إلى الغاية النفسية قبل الغابة العامة ويضعنا في إطار محدد لم ينجذب إلى أكثر من فضاء حتى وصل إلى فضاء البحث عن السيرة الشخصية للإمام أبي العزائم وكل بنية من هذه البني يمكن أن تتخذ صوراً شتي، لاسيما أن التدخل في مثل هذه البنيات المتعددة والمتداخلة يمكن أن يكون عن طريق الأمر أو الالتماس أو التحديد وتلفيق التهم أو الإغراء بمنصب ما.

والجميل أن الرواي وبقدرات مبدعة تداخل مع كل ما سبق في إيعاز كان من أول الرواية حتى آخرها مدار انجاز ذلك البرنامج السردي.

قامت الرواية على 323 صفحة من القطع المتوسط قُسّمت إلى ثلاثة أقسام منوعة، ومن المفيد أن نعرف عناوين هذه الأقسام لأنها تشكل الحبكة الدائرية لبنية الرواية أصلاً أما العناوين فجاءت كما يلي:

  • خبيئة العارف: وضم عشرة فصول مرقمّة.
  • أوراق العارف: وضم تسعة فصول مرقمّة.
  • طريق المعروف: وضم تسعة فصول مرقمّة.

عناوين الفصول تحدد لنا أن العارف واحد وهو الشيخ الإمام محمد راضي أبو العزائم وبه ارتبط ركنا الفصلين خبيئة ← أوراق – أما المعروف وطريقه، فهو المآل الذي وصل إليه الدكتور خيري محفوظ بعد انهاء مهمته واضطهاده وتلفيق التهم التي اضطرته إلى الهروب وعندما حاولت السلطة بعد ذلك استمالته وجد، يقيناً طريق المعروف.

في القسم الأول: خطا العرّاف توِّضح الحكاية بوجود كنز من ذهب في خبيئة موجودة في ممتلكات الشيخ أبي العزائم “ظل طيلة السنوات الفائتة يربط ما سمعه بالوصول إلى الخبيئة التي قرأ أن أحد المريدين رآها بعد أن حفر وإخوانه عميقاً لدق طلمبة تسقيهم ماءً عذباً لكن الشيخ الكبير أبو العزائم رفض إخراجها حتى لا تغلب الدنيا قلوب الذاكرين. ص10

هكذا تعامل ماهر السعدي مع ما قرأه عن الكنز الضائع على أنه حكاية ينسبها أبناء الطريقة إلى مشايخهم ليخضع الناس لكراماتهم، أغمض عينيه فرأي – خلف المنياوي” يجري في المكان قبل تسعين سنة مرفرفاً نحو الشيخ أبو العزائم قائلاً: ذهب يا مولانا. ذهب كثير إلا أن وجه الشيخ اكتسي بغضب شديد وأسي وقال:

– لا تركبك أوهامك يا خلف.

-ليست أوهاماً، لقد مسكته بيدي هاتين. ص11

أتاهم الصوت كالرعد: لا يملأ عيونكم سوى هذا التراب.

عرض الدنيا يثير الشحناء بين المتكالبين عليها.

وبعد مرور كل هذا الزمن، التفت – عليوه إلى ماهر، وقال له:

-لا يوجد ما يجعلني أنكر أن الكنز لا يزال مدفوناً في المكان الذي اتخذتموه مقراً للطريقة العزمية

-أنت قريب الشيخ، وواحد من مريديه، لن يقنعه سواك. فبالأمس تحدث عن الكنز مع الشيخ فنظر عميقاً في عينيه وقال:

-لا أخالف جدي الكبير وشيخنا جميعاً، فقد كان أدري بما فعل.

-إذن أنت تعرف أن هناك كنزاً يا مولانا

وصلني ما جري في الزمن الأول، كما وصل زميلك ثم وصل إليك. ص18

في مكاتب نظارة وقف البلد لا يكف بعض الزملاء عن الحديث عن المدراء الذين يستولون على أموال الوقف. وهمس أحدهم في أذنه ذات يوم:

-من أدراك أن الكنز لا يزال في مكانه.

-رفع خلف رأسه وأجاب بهدوء: في مكانه، أنا ردمت الحفرة بنفسي

-ربما أخذ شيخكم الذهب بعد أن أعمى التراب الذي أهاله عليها.

-لا تقل هذا على شيخنا يا رجل.

ويحكي خلف لابنه أن الشيخ لم يطرده من الطريقة.  ص25

وكان على عليوة وماهر أن يقتلا الظنون التي راحت تؤرق راسيهما بلا هوادة.

تكثر الأحاديث في المكاتب عن الفقر والغلاء وتعويم الجنيه ويروي ماهر حكاية رواها شيخ الطريقة العزمية، نقلاً عن مؤسسها الشيخ الكبير. ص31

ويصل خبر الكنز إلى ناظر الوقف ونقله إلى الجالس على الكرسي الكبير الذي أبدى اهتماماً خاصاً بهذا الموضوع، وبات مشغولاً بإخراج ما في بطن الأرض من كنوز ، بعد أن فشل في توظيف ما فوقها لتجاوز الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي تمر بها البلاد. ص 36

عاد ماهر إلى مقر الطريقة، واحد فقط كان خارجاً من المجلس يتوكأ على عصاه، وقف أمام ماهر وقال له في هدوء:

-متى تلبس الخيش وتأتينا.

-خيش؟

-أتبحث عن الكنز؟

-أتعرف مكانه.

-نعم.

-قل لي أين هو، ولك منه نصيب.

-احفر هنا، فمد يده الموضوعة على صدره، وتركها تهتز في الهواء.

ثم تخمد إلى جانب صاحبها الذي هزّ رأسه وانسحب خطوتين إلى الخلف ومضى على مهل صامتاً حتى ابتلعته قطع الظلام الرابضة تحت الجدران. ص41

-ماذا قال الرجل الخرف؟ خيش وليف وأشياء لا يمكن أن ألبسها، ألقى الكلام الذي سمعه ودخل الممر واقتحمت عيناه أغلفة الكتب في واجهة دار الكتاب الصوفي، وتوقفت عيناه عند صورة في كتاب عن الشيخ الكبير يجلس فيها أبو العزائم على مقعد عال ويقف إلى جانبه وخلفه رجال بعضهم معمم وكثير منهم حاسروا الرأس، كان يعرف صورة الشيخ جيداً لكن هذه المرة شغله صورة رجل يقف في المنتصف شعر وكأنه ينظر إليه ملياً، مد إصبعه ووضعه على وجهه، وتمتمتم: إنه يشبهه، قد يكون هو. هو فعلاً  ص44

سأل عبده عنه ، فقال: واحد من مريدي الشيخ الكبير، سأل: وهل ما زال حياً.

-الشيخ توفاه الله عام 1937.

-هل لهذا الرجل أبناء؟

-أعتقد أن الإجابة عند شيخ الطريقة. ص45

اشترى الكتاب وهو يتساءل في أعماقه:”شيء غريب أن يكون هذا الرجل قد غادر الصورة، وجاء إليّ أمام الممر ليغرس يده في صدري، ويطلب منى أن أحفر فيه بحثاً عما أربد؟”  ص46

ذهب إلى الشيخ وسأله عن الرجل وبعد أن تأمل الشيخ الصورة قال: أظنه الشيخ مندور وحتى تتأكد اسأل سيد الكفراوي فهو أكبر مريدي الطريقة سناً ويعطيه كتاباً للشيخ ليقرأه ثم ذهب إلى المسجد يبحث عن سيد الكفراوي وسأله عن الرجل فقال:

– عامر المهيلمي كان أخلص وأتقى من مروّا علي في عمري كله

-هل له أولاد.

-كان عقيماً.

-هل له أخ يشبهه.

-كان له أخ يشبهه ومات منذ سنوات بعيدة. ص51

ويتلقى ناظر الوقف مكالمة غاضبة من القصر، توبخه على التسّرع في الإبلاغ عما لا وجود له، وتمَّ استدعاؤه على عجل، يركب سيارته ويمضي على عجل، وعند باب القصر وجود سيارة فارهة تتأهب للدخول لم يتبين من في داخلها ولما سأل الحرس عنها لم يلق جواباً عند الباب الرخامي نزل من السيارة رجل يرتدي قفطاناً يمتد حتى الكاحل، قال ناظر الوقف: لابد أنه مغربي، على الأرجح هو ساحر مغربي، ويجلسونه نصف ساعة حتى أدخلوه إلى الرئيس وأمامه المغربي وبعد أن قدم ولاءه يطلب منه تقديم المساعدة اللازمة للشيخ المغربي حتى يتوصل إلى فك لغز الكنز ويستخرجونه.

في الوقت نفسه كان ماهر وعليوه في مكتب الناظر الذي ألح على مقابلتهما وبقي في انتظاره حتى عاد إلى مكتبه وطلب منهما أن يذكر كل منهما التفاصيل التي يعرفها عن كنز أبو العزائم وقص كل منهما ما يعرفانه ويطلب من الأرشيف أن يبحث في الملفات القديمة عن هذا الوقف، وبينت الملفات أن الشيخ الكبير اشترى البيت بعد استئجاره سنوات فيمضي إلى بيت أبي العزم، ليقابل شيخ الطريق المستعد للسفر إلى فرنسا وفي لقائه القصير يخبره بأن الرئيس عرف أن في بيتك كنزاً كبيراً ولدينا ما يبين وجود خبيئة تحت أرض البيت ولابد من إخراجها فخزينة الدولة فارغة وتحتاج إلى كل مصدر يعينها.

ابتسم الشيخ وقال متعجباً: من المؤكد أنك تمزح وهذه حكايات تناقلها الناس ولا نعرف لها أصلاً.

-لن نخسر شيئاً إذا تأكدنا منها، وتوجد الأرض التي ستبين الصدق من الكذب.

– أي كنز هذا الذي يجعلكم تفكرون في هدم كل هذه البيوت وتشريد أهلها، أنت تبحث عن الوهم.

وعاد الناظر كاسف البال لأنه لم يخرج بشيء جديد، قبل أن تمضي سيارته سمع طرقات خفيفة على نافذتها المعتمة، رفع بصره، فرأى رجلاً طاعنا في السن ذا عمامة خضراء، في يده عصا غليظة فتح النافذة وسأله الشيخ:

-هل جئت من أجل الكنز.

-نعم يا عم.

-ذهب الكنز إليك ولا تدري.

– لا وقت لدي لحل الألغاز.

– هو لغز على من لا يشغله إلا ما تحت قدمه، وما عليك سوى أن تنظر هناك نحو تلك الخيمة الزرقاء الهائلة التى ترتع تحت ظلها فربما تجد ما تريده مدفوناً هناك وراء الحجب.

-لا أرى شيئاً يا عم.

-مثلك لن يري  ص74-76

وأمر السائق بالانطلاق وهو يتساءل عن الرجل “لعله واحد من الدراويش الذاهبين إلى مسجد السيدة زينب”  ص77

في اليوم التالي فوجئ ماهر وعليوه باستدعائهما إلى جهاز أمن السلطة ويتلقى كل منهما سيل من الأسئلة التي لا جواب عندهما عليها.

-من أين ينفق شيخ الطريقة على الحزب السياسي الذي يريد تأسسيه؟

– هل يقدم أموالاً إلى معارضي السلطة الذين يدعوهم إلى مقر الطريقة؟

-من أين يأتي بالمال اللازم ومن يقابل في أسفاره والجواب واحد: لا أعرف. ص80

انتهى التحقيق وجلس كل منهما وحيداً لست ساعات وبعد انتصاف الليل خرج كل منهما وحده من الباب المحفوف بالرهبة. ص82

ويلتقي الناظر بالساحر المغربي في مكتبه ويدور بينهما حوار طويل “أخذنا منكم السحر وأعطيناكم المتصوفة، وها هو الزمن يضع ساحراً في وجه صوفي كبير” ص86

ويطلب الساحر منه أن يختار شخصاً أمنياً وكفؤاً يجري بحثاً استقصائياً وسيراً ذاتياً عن الشيخ عسي أن يجدوا من خلاله مفاتيح لحل لغز الكنز ويتفكر الرجل في الرجل المناسب فلا يجد أفضل من الدكتور “خيري محفوظ” لهذه المهمة لاسيما وأنه واحد من المتطلعين إلى الوزارة أو تولي شئون التعليم والثقافة، ولذلك فور أن التقي به أخبره بأن الرئيس يبحث عن رجل يقوم بمهمته ولم يجد أحدًا سواك لها حين طلب أن تؤلف له كتاباً عن الصوفي الشيخ أبو العزائم.

والرئيس كفيل بسد النفقات جميعها مع هدية كبيرة عندما ينجز عمله ليبدأ الدكتور البحث في أوراق العارف، ويبدأ الرواي فصله من النهاية حيث يضع الدكتور خيري تقريره أمام السيد الجالس على الكرسي الكبير بادئاً من قرية “محلة أبو علي” والوصول إلى مسجد سيدي زغلول وطلب من الإمام أن يدله على أكبر أهل القرية سناً، فأحضر له رجل يتوكأ على عصا وسأله عن الشيخ أبو العزائم فيقول له: إنه لم يقابله لكن أباه شهد ولادته رآه طفلاً وحكى كثيراً عن طفولته ص105

ومما لفت نظره قوله: كان الطفل يجلس أحيانا بالقرب من المسجد على الأرض ويمد سبابته إلى التراب وينبش فيه على مهل وكان يكتب حروفاً على جنبات كومة صغيرة صنعها وهو لاهٍ هذه الحروف لو عرفنا ما هي لوضعنا أقدامنا على أول الطريق إلى الكنز فهي قد تكون مفتاحه الخفي الذي ظل يدور في رأس الشيخ الكبير  ص106

ويخرج من القرية مع أول الليل ويشعر أن أصابع تنقر كتفه استدار مذعوراً فرأى كائناً ملفوفاً في لباس أبيض  “كنت أراه ولا أراه، يظهر، ويختفي سمعت صوتاً يقول:

-من استكبر على البدايات لم يصل إلى النهايات.

-عن أية بدايات تتحدث؟

-أولى العلامات في المكان الذي تركته  ص109

يطرق أوّل باب يصادفه ويحل منه ضيفاً، وبعد أن قدم واجب الضيافة وضع يده على كتفي وقال: أمرت أن أنتظرك وهنا سنجد البداية وعندما وضع له الطعام قال له: أنت تحب لحوم الطير وإن انتظرت ساعة نذبح لك ديكاً، فازدادت دهشته كيف عرف عني ذلك؟

ويرى حلماً حول طفل يجلس تحت منبر كان وحده إلا من يمامة تحط على النافذة دخل رجل، تقدم نحو الطفل، حط يده على رأسه فسقطت الريشة من يمينه سأله.

-ألن تأتي لتأكل طعامك؟

-سأجي، حين انتهي من القراءة.

-هذا الولد يأكل الكتب أكلاً

-لا يشقى في الغيطان مثل أولادنا  ص111

في الصباح جاء المضيف بإخطار وقال: لا تنسي ما رأيته في نومك فهو البداية طريقك طويل الله معك.

تركته وأنا أردد في نفسي: ريشة فكتاب .. أين المحبرة؟  ص114

ينتقل إلى مدينة “البرلس” التي كان يزورها للاصطياف في شيخوخته يقصد المسجد ويسأل عن أتباع الطريقة العزمية فيدلونه على رجل يجلس في الركن الأيمن من المسجد يتجه إليه ويقول له على الفور.

-أخبروني أنك عزمي.

-نعم أنا كذلك.

-وهل للشيح أتباع كثيرون هنا؟

-بذر البذرة في سنوات خمس أتاها للاصطياف ، وترك أقوالاً وأشعاراً ورجالاً لا يزالون يتناقلون ما ترك حتى اليوم.  ص116

يخبره بأنه يعد كتاباً عن الشيخ فأعطاه أوراقاً مسحها بعينيه باحثاُ عن كلمة كنز أو خبيئة أو ذهب أو فضة أو مجوهرات فلم يجد شيئاً، وسأله عن المصادر التي اعتمد عليها كاتب هذه الأوراق، فأجابه:

-رأى الإمام وعايش أيامه أنها أوراق كتبت منذ مدة واحتفظنا بها بعد رحيل من خطها على الورق.

-متى كتبها؟

-قبل وفاته بسنوات، وفجأة يشده إليه حين قال:

-كان الشيخ الكبير ساحراً.

-شيخ أم ساحر

– الإثنان، كان يسحر من يسمعون وعظه في مسجد سيدي غانم لدرجة أن آباء الشباب جاءوا يسلونهم لأنهم يطلبون الجلوس إليه وينسون أرزاقهم. ص119.

يعود إلى الأزهر وبحث في أضابيره ولم يجد شيئاً ذا بال يخص “أبو العزائم” ولأن مدرسة دار العلوم تخرج مدرسين ذهب إلى أول مدرسة عمل فيها الشيخ وكانت في إدفو، وصل الشيخ إلى المدرسة فلم يجد سوى تلاميذ يعدون على أصابع اليد ويعلم أن السبب شيوخ الجوامع الذي يضعون في أذهان الرجال: إن المدارس تفسد الأخلاق إلا أن الشيخ زار بيوت القرية ولم تمض أسابيع حتى امتلأت الفصول بالتلاميذ والمساجد بالمصلين لتبدأ المتاعب مع الشيوخ الجاثمين على صدور الناس من الغريب الذي جاء ليزلزل الأرض تحت أقدامهم.

ورحلة الدكتور إلى القرية لم تذهب سدى إذ سمع من الناس حكايات كثيرة عن نبش القبور وحفر الأرض بحثاً عن المخبوء ويعود إلى القاهرة ويتوجه إلى الإبراهيمية في الشرقية ويجد أن الشيخ ترك علامة لا تمحي حيث اقتنع الناس به ويسأل رجلاً مسناً اسمه  “عبد المجيد العشري”  مدرس محال إلى المعاش، ويروي أن أباه هو الذي كان يحكي عنه.  ص133

ويمضي بعدها إلى “المنيا” التي يعرف كثيراً عنها وذهب إلى الزاوية دخلها قبيل المغرب وانتظر حتى جاء رجل بدا مألوفاً له بادره

-إزيك يا مرتضي.

-كأني أعرفك.

-زميل حضرة قديم.

عرفه بنفسه ومهنته، أخذه إلى بيته وأطلعه على كتب الشيخ وطلب منه البقاء معه ويعرف أن ابنته زوجة عليوة.

-ما أعرفه أن الشيخ عثر على كنز حقيقي، دفينه كانت تحت أرض سراي الحنفي.

هل وصل هذا لك أيضاً، زوج ابنتي مهووس بتلك الخبيئة. ص143

ويقال: إنه أخرجه، وبعدها ظهرت عليه آثار النعمة.

-من يردد هذه التخاريف. إنه كان ابن بيت ميسور الحال، وهناك حكمة له تقول: ليس الرجل من جعل الحجر ذهباً، إنما الرجل من جعل البعيد قريباً من الله. ص161

ينتقل بعدها إلى السودان ويقابل شيخ الطريقة  “الميرغنية” حيث كانت هناك علاقة طيبة مع شيخها “عبد الرحيم الحيدري السواكني” ويلتقي بشيخ الطريقة الميرغنية في المسجد ويروي له حكاية سمعها من جده عن كرامات ذلك الرجل ص167

– لقد كنا نعرف أنه من الزاهدين ويستنتج بأن الشيخ كان يميل إلى مناكقة أهل الحكم وكان الإنجليز قد عانوا منه كثيراً حتى أنهم قرروا نفيه من السودان إلى جزيرة مالطة ثم عدلوا عن القرار وأعادوه إلى مصر. ص171

وتبدو له أن أسوان كانت مجرد محطة عابرة في حياة الشيخ ويجلس الدكتور خيري محفوظ يراجع تقريره المطول الذي جاء على شكل رواية قصيرة ويفكر إلى من سيرسل التقرير إلى ناظر الوقف أم إلى الرئيس وبعد أن يستشير زوجته يجد أنه من الأفضل أن يرسله إلى ناظر الوقف فيرسله مع رسالة ديوانية يشرح فيها ما وصل إليه ويزور مسجد الشيخ ومقامه فأحس برجل يتبعه وحين حاذاه قال له:

-التفت إليّ لتسمعني جيداً وتراني، طفت كثيراً وراء شيخنا الكبير، لكنك لم تعرف عنه سوى أقل القليل.

-من أنت يا عم.

-ناصح أمين.

-وبم تنصحني.

-اترك ما كتبت فليس فيه ما ينفعهم أو ينفعك، واتبع النداء الخافت الذي يأتيك وتتجاهله.

-لا تتعجل رحيلي، فأنا لست هنا حتى أذهب، ولولا أنني أعرف نهايتك ما أتيت إليك.

-وما نهايتي؟

-ستعرف الطريق التي حرصت على ألا تضع قدميك على أولها فتأتي إلينا وتكون معنا  ص197.

ويسأله في أي بلد تقابلنا، فيجيبه:

-كنت معك ولست معك، أسمعك ولا تسمعني، أراك ولا تراني ويسأله ناظر الوقف إن وجد في العزميين خطراً على البلاد فرئيس جهاز أمن السلطة حدثني عن ارتباطات مشبوهة لشيخ الطريقة.

فينفي ذلك ويشير إلى أن التقرير سيمر أمامهم قبل أن يرفع إلى الرئيس ثم أتذكر مقالاتك عن العسس التي أصابني منها مكروه شديد، لأنهم ظنوا أنني من طلبت منك كتابتها لأهاجمك.. ربنا يكفيك شرهم.

لتبدأ بعد ذلك معالم طريق المعروف التي أفرزت كل ما يخطر على بال حيث يتأمر رئيس جهاز أمن السلطة ويرسل تقرير إلى الرئيس ملفقاً بالتهم التي تضر الدكتور خيري وتسئ إليه وذلك من أجل تشويه سمعة الرجل حتى لا يصل إلى منصب رئيس الجامعة التي وعد به غيره.

-اخشي ألا يأخذ فخامته بما كتْبتَ.

– هو لا يصدق غيرنا، انتهى الأمر، مبروك عليك يا صديقي جهز الوليمة  ص213

ويتفق رئيس جهاز الأمن مع مدير الوثائق والمحفوظات أن يتصل بالدكتور وأن القصر أمر بتوفير وثائق تاريخية وبالفعل يحضر ويطلع على الوثائق ويصل مدير الوثائق أن يأخذها لبيته بعد أن أطلع على وثيقة وكالة حكومة السودان بمصر المدونة بتاريخ 30 أغسطس 1915، كما وجد وثيقة تتحدث عن علاقة أبي العزائم بالزعيم المناضل مصطفى كامل ص232.

كانت حصيلة أربع ساعات من البحث ثلاثين وثيقة وغادر إلى بيته، في الطريق حدّث نفسه قائلاً: هل مثل هذا ينشغل بكنز كالذي يدور في أذهانكم يا أولاد الهرمة. ص232

في اليوم الثاني قرأ الناس في الصحف خبراً عن ضياع وثائق مهمة، كما أتت المواقع الإلكترونية على ذكر ذلك موجهين أصابع الاتهام إلى خيري محفوظ الذي حاول الاتصال بكل وسائل الإعلام لشرح الحقيقة إلا أنه وبأمر من المباحث لم يرد أحد عليه، كما تلتقي ناظر الوقف من رئيس مباحث النظام بأن يوحي للدكتور بالهروب

-نريده أن يبتعد حتى نتمكن من تلويث سمعته على نحو تام.

– ولماذا تفعلون هذا، والرجل أنهى مهمة كلفه بها الجالس على الكرسي الكبير.

-فخامته هو من أصدر هذه الأوامر ونحن يجب أن يكون لنا دور.

-وهل أخطأ الرجل حتى يعاقب.

-نعم وقع في أخطاء جسيمة، فقد كنا نراقبه طيلة المدة التي قضاها في مهمته ولم يكن أميناً، لذلك لا نريدك أن ترفع التقرير إلى الرئيس فنحن كتبنا إلى فخامته ألا يثق في كل ما كتبه. ص235

وتستمر تلفيق التهم- أستاذ تاريخ يسرق وثائق تعود إلى نهاية القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين- مربي الأجيال صار لصًا.

المؤرخ الذي حارب العسس ووقع في مدارهم الأسود – لص من طراز خاص جداً. ص237

ويقابل ناظر الوقف الذي يضخم له الواقعة وينصحه بالهرب واللجوء إلى شيخ الطريقة العزمية الذي ذهب بالفعل إليه وطلب أن يكون من مريديه ويعطيه دستور فقراء آل العزائم ليقرأه فسحره الكلام ونسي أحزانه مؤقتاً ويدعوه الشيخ إلى الغداء ويقابل على المائدة ماهر السعدي وعليوه المنياوي نسيب مرتضي وعندما عرف بنفسه وقف عليوه وسأله: أنت الذي…

نعم أنا الذي تخوض الصحف والفضائيات الآن بالباطل في سيرته وتلوث سمعته، ويفيد ماهر إن التقرير منشور كاملاً في – بي دي اف – وأعتقد أن جهاز الأمن هو الذي سرّب التقرير، والصحف تتحدث عن وثائق أخرى ضائعة، ضرب شيخ الطريقة بيده على المنصة وصرخ:

-أتقصد وثائق تخص ما يدور حالياً عن رغبة الجالس على الكرسي الكبير في التنازل عن جزء من أراضي البلاد.

-الخبر يقول هذا، لكنه كلام في كلام والحقيقة عند ربي.  ص256

ويطلب منه خيري أن يحميه كما حمى جدّه ومن لاذ به ويقول ماهر للشيخ هنا على المحمول نسخة من التقرير تستطيع أن تقرأها الآن والتفت إلى خيري وقال له: نتركك لتستريح.

ويقول ماهر: لست وحدك ضحية الكنز أنا وعليوة سبقناك إلى التضحية حتى استدعانا جهاز الأمن وجعلنا نعدل عن طريقنا. ص563

ويرى عليوة أنه لا يوجد مكان آمن للدكتور غير بيت نسيبه مرتضي.

وبالفعل يتجه إلى بيت مرتضي الذي لم يجده في البيت يجلس ينتظره حتى أطل فتعانقا ودخلا البيت وطلب منه الدخول إلى مكتبه ويلفت انتباهه كتاب “الجفر” وقرأ فيه: هو علم الغيب الذي يكشف للأنبياء معجزة وللأولياء كرامة”.  ص281

وعند عصر اليوم السابع في الشهر الثالث وصل إلى مكتب مرتضى بالمدرسة رجل قدّم بطاقة هويته: هاني عبد الوارث من جهاز أمن السلطة وأفهمه أن الرئيس مهتم بغياب الدكتور وكلفه بالبحث عنه وإعادته للقاهرة فيذهب به ليقابل الدكتور الذي اختلى بالضابط وقدّم له عرضاً أن يكتب سلسلة مقالات عن موضوع هم يختارونه.

-عن ماذا؟

-ليس بعيداً عن تهمتك ، وبالتالي سنتيح لك أن تبرئ نفسك بيدك

-ادخل بالموضوع من فضلك.

-الوثائق التي تلاحقك اتهامات بسرقتها عليك أن تقول: إنها تبين وجهة نظر القصر في حدود الدولة وليس في الاتفاقات التي أبرمها أي تنازل عن حقوق أو سيادة وأن سيادته لا يمكن أن يفرط في حبة رمل واحدة من تراب الوطن.

-وأين هذه الوثائق.

-هي التي ضاعت في دار الوثائق والمحفوظات.

-وهل كانت موجودة أصلاً.

-هذه مسألة أخري. ص295

ويستمر الحوار بينهما بين فرض ورفض ثم يسلمه الضابط ورقة من شيخ الطريقة العزمية ويشير كاتبها إلى أنه كان يلهث وراء معلومات جمعها من أفواه من قابلهم في البلاد وأود أن أقول لك بأنه يجب ألا تعتقد أن أتباع الطريقة كلم على شاكلة ماهر فكما فينا الأدعياء ففينا الأولياء…

هذه رسالة مختصرة أما ملاحظاتي على تقريرك سأنتظر أن نلتقي يوماً لنناقشها معاً.  ص303

طوى الرسالة وغاص أكثر في مقعده متسائلاً لماذا جعلني الضابط أقرأ الرسالة؟ ويعود الضابط ويشرح له خطة مباحث النظام لإعادته وبراءته وأن يكون لسان الحاكم وقلمه ويطلب مهلة للتفكير فيعطيه يومين فقط.

ويشير الشيخ سعداوي إلى أنهم ينوون تفجير ضريح “أبو العزائم” وتعرف أنهم يستهدفون المساجد التي بها أضرحة.  ص312 . ويقرر خيري الرحيل في الليلة القادمة.

-لكن الرحلة ستكون طويلة وشاقة.

-لا بأس ربما تكون الأخيرة. ص316

قبل أن يغمض عينه قرر أن يفعل هذا وإن سجنوه فسيجعل من زنزانته خلوة، ويصرخ في فزع طفولي غامر: أخيراً وجدت الكنز، لكنه كان كنزاً غير الذي كلفوه بالبحث عنه، وظنوه بعيداً تحت الأرض ويمكن أن يستدل عليه من أصوات عجلى تجري على ألسنة العجائز وإشارات يبديها السائرون في شوارع القرى المتربة، وساحات المدن المنهكة، أو كلمات غامضة في وثائق وأوراق كتب تأكلت حوافها، بينما هو بين أيديهم، بل بين عيونهم، وأقرب إليهم من حبل الوريد. ص 323

مما لا شك فيه وبعد قراءة الرواية، نستطيع أن نقول: إن خيري محفوظ كان حريصاً على المستوى الفني والتقني أن يعزز من برنامج السرد في الرواية، على الرغم من أن السرد سبح في فضاءات متعددة من أهمها:

1-الفضاء التاريخي: الذي جاء ضامناً لما تواضعت عليه فرضيات السرد التاريخي الروائي من خلال الأمانة التاريخية التي تواضعت عليه المصادر والوثائق التاريخية، ومن ثم مقتضيات الفن الروائي من حيث نمط القص المفضي إلى الانفراج على شخصية أو أكثر، وإدراج العناصر في منظور واحد وهذا ما حققه الفضاء التاريخي في النص الروائي، وقد برز جليّاً شرط الانسجام الداخلي الذي تمّ من خلاق المنطق الظاهر أو الخفي الذي ينتظم مختلف مقومات النص ويجعل منه وحدة بين عناصرها، وحدة تفاعل وتكامل فني وتقني.

2-الفضاء السياسي الذي بدا واضحاً من خلال:

أ-ناظر الوقف المتذبذب الذي يسرق أموال الوقف وهو لعبة في مباحث أمن الدولة.

ب-دور مباحث أمن النظام وسيطرته وتجاوزاته وتلفيق التهم وإخضاع حتى الجالس على الكرسي الكبير لآرائهم ومواقفهم.

ج-الجالس على الكرسي الكبير الذي عم في عهده الفساد والفقر وارتفاع الأسعار والتفريط في الأرض والتنازل عنها حتى لدولة شقيقة لقد ابتدع الراوي أسلوباً رمزياً في تسمية المتحكمين في البلد وتحت شعار الرمز وجه نقده السياسي المرّ لكل ما هو سلبي وضار بالناس والوطن.

3-الفضاء السير ذاتي: من الواضح في نص الرواية، أن البحث في سيرة الشيخ الإمام”أبو العزائم” أخذت المساحة الأعم في بنية الرواية، وهذا ما يجعل فضاء السيرة الذاتية يعلو على الفضاءين السابقين، والرواية السيرذاتية منغرسة في التخييل يستثمر مؤلفها المسافة السردية الفاصلة بين الراوي والشخصية والمؤلف، لخلق عالم روائي واسع الآفاق متشابك الأبعاد.

والسؤال: كيف استطاع المبدع دمج هذه الفضاءات في فضاء سردي واحد اندمجت وانصهرت في بنية النص انصهاراً كلياً حتى بدت الفضاءات جميعها فضاءً واحداً لا تشرذم فيه ولا انشطار.

وأعتقد أن هذا الشغل الفني والتقني يعود في الدرجة الأولى إلى الإيعاز الذي شكل عناصر البرنامج السردي للرواية، فجاء البرنامج السردي ذات فاعلة على تحقيق هذا المنجز الروائي المتفرد في أسلوب كتابته وطريقة إنجازه على المستوى الفني والتقني الذي جاء أيضاً متميزاً عن السائد في الخطاب الروائي المعاصر الذي يبني خارج منظور البرنامج السردي المتقن والضامن لنجاح الرواية وتألقها على مستوى الشكل والمضمون، وهذا ما يجعلنا نتفق أن “خبيئة العارف”  للمبدع “عمار علي حسن”  كما جاء على غلاف الرواية:

“ليست هذه رواية عن شخص فحسب، وإنما عن زمن جميل يجرفنا الحنين إليه، وقد أبدع كاتبها حيلة فنية ليسرد حكاية، يتعانق فيها التاريخ بالتصوف، ويمتزج الواقع بالخيال، ويتفاعل الحقيقي مع العجيب، بوسعها أن تخطف القارئ، فيغوص في السطور متقلباً بين المتعة والدهشة”

ولا أخال تلك الحيلة التي ابتدعها المؤلف إلا إحالة إلى ذلك البرنامج السردي الذي أتقنه المبدع، ومن خلاله قدّم هذه الرواية الأنموذج.

 

 

 

مقالات من نفس القسم