“ضحايا حريق الفن”.. النبش في ركام السيرة

ضحايا حريق الفن
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

عبد الرحمن إبراهيم

في كتابة “ضحايا حريق الفن” والصادر عن بيت الحكمة ٢٠٢٣، يروي الكاتب “عيد عبد الحليم” سيرة ضحايا حريق مسرح بني سويف، الذي راح ضحيته خمسون فنانا، من مخرج وممثل وناقد مسرحي، وإن كان يستحق كل فنان منهم سيرة منفردة يكون فيها البطل الأول لحكايته، إلا أنه في كتابه ينفرد بكل صوت كأنه يمنح مع كل فصل جديد من حياة شخصيات عمله بطولة مطلقة، يسرد فيها منجز كل فنان مسرحي من نقاد وكتاب ومخرجين، ابتلعتهم نيران القدر الذي أدى إهمال المسؤولين عن تأمين مخرج آمن لرواده إلي ضياع حياتهم تحت وطأة اللامبالاة.

كأن الكتاب هو اعتذار لكل واحد منهم عن تلك النهاية التي لا تليق بمنجز يجدد أدوات فن يرسم صورته في وعي متلقيه، هو الحوار الأول للصورة قبل تجليها دون حاجز، وهي العلاقة الوحيدة في كل الفنون التي تضع المتلقي أمام لحظة الخلق الحتمية، وإن كان الفن عزاء لما أصابنا من خسارة، فهو الذاكرة التي تمنح الحياة لصاحبها مرتين، لذلك يبقى ما تدونه السيرة محض ذاكرة مازالت تنبض بحياة مواراة تحت التراب، وفي الآن نفسه، لها القدرة على أن تسير فوقه.

 لذلك بقيت الفكرة الأساسية في كتاب “ضحايا حريق الفن” هي رصد حدث ينشد عزاءه على عتبة الفن، فليس من الممكن أن يختزل تأريخ الواقعة في حيثياتها، لكن الفن دائمًا ما يرثي الألم في أشد أشكاله وحشة، لذلك ظلت أداة عيد عبد الحليم في كتابه هي النبش في ركام سير ابتلعتها النيران، حتى يجد مدخلًا للولوج إلى ما أسقطه التاريخ عمدًا من حيوات جديرة بالتدوين.

وإن كان الأجدر بحادثة حريق مسرح بني سويف أن تكون صفعة في وجه أي مؤسسة ثقافية أو مسؤول لكي يستيقظ، لكن للأسف دائمًا ما تأتي رده الفعل تجاه أي خطأ فادح بالتمادي فيه، وكأن أي فنان أو أداة تنهض عليها أسس التحضر أصبحت معادية لأي مؤسسة استهلاكية وراعية لما ينفقه أي وعي فارغ. أصبح المسرح الفني الذي يتأسس على الرؤى والدلالات، وعلى أي قضية تمتد من هاجس الفرد غير مرحب به.

يفتتح عيد عبد الحليم كتابه بمقدمة يمكن اعتبارها مدخلا لسيرة شخصيات الكتاب وفي الوقت نفسه، يقدم خطابًا شاملًا يرصد فيه هموم جيل كامل من كتاب المسرح الذين اختار منهم ضحايا الحادثة، ويوضح أن هذا الجيل كان يطمح لنسج فنه وتقديم شكل جديد يوضع كسياق لهمومه ومعاناته، إلا أنه نسج عزاءه الأخير، لنشهد عقب ذلك نكسة جيل كاملً وتاريخا يدون خسارات أكثر مما اكتسب من بنائه لعتباته نصوصه، وإن كان توصيف عيد عبد الحليم في نهاية المقدمة لهذا الجيل هو الأدق حين قال: “إن الشعوب عادة ما تفتش في جعبتها وذكرياتها وتبتعث ميراثها عن البطولات التي حققتها في الأزمنة الصعبة” فإننا في كل مرة سنتذكر فيها حادثة حريق مسرح بني سويف أو أي حادثة فقدنا فيها فردًا يساهم في أي مؤسسة تنهض على القوى الناعمة، فسنرى أننا لم نربح من بطولاتنا إلا الخسارة.

هنا يربط عيد عبد الحليم شخصيات كتابه بهاجس مشترك حول حساسيتهم تجاه أدواتهم الفنية في بناء المسرح، فكل فنان يميل توجهه إلي انتاج مسرح للبسطاء، يكون تمثيلًا لخلفيتهم الثقافية والفنية، وأيضًا ليكون سياقًا يطرح من خلاله ما يعبر عن همومهم، كأنه اعتراف بأن جوهر الفن ليس التوجه إلى نخبة من المتلقين، لكنه في الأساس أداة لجذب تلك الفئة من الجمهور حتى ينشد تأثيره الأكثر إيمانًا بما هو مهمش ومسكوت عنه، وفي الآن نفسه أن يبحث عبر أدواته عن صيغة تتخلل هذا المنطق البسيط في وعي لم تسعفه الأدوات لأن يلجأ إليه، ولأن الحكاية الشعبية هي أقرب للتعبير عن البسطاء في التفكير دون التطرق إلى تعقيداتها، ليس لأنها تروي حكايات تتحسس أرواحهم فقط، بل لأنهم في النهاية أبطالها.

ويتناول عيد عبد الحليم برؤية نقدية مشروع كل فنان منهم، بادئًا بالمخرج بهائي الميرغني بعنوان “مسرح الأماكن المفتوحة”، يليه المخرج صالح سعد بعنوان “مسرح الاحتفالية”، والناقد حازم شحاته بعنوان “الدراماتورجي”، والمؤلف والناقد محسن مصيلحي “بعنوان تجربة في الكوميديا الشعبية”، والناقد والمؤلف مدحت أبو بكر بعنوان “دقات على باب المسرح”، والناقد أحمد عبد الحميد بعنوان” خمسون عاماً في نقد المسرح”، والناقد نزار سمك بعنوان “الناقد المتمرد”، والمخرج حسن عبده بعنوان “طائر المسرح المحلق”، ومؤمن عبده الممثل والمخرج والمؤلف بعنوان “نموذج الفنان الشامل”، والمخرج حسني أبو جويلة بعنوان “رحلة صمود”.

يرصد في كل سيرة مساهماتهم في فن المسرح على كل المستويات من كتاب ومخرجين ونقاد، يطل في كل فصل جديد معنونًا رؤيتهم الفنية ليتدارك ما يمكن أن يصبح سيرة منسية، كأن كل عنوان هو مدخل للوعي أكثر منه تأريخا، وإن اعتبرنا أن حياة الفنان ليس ما يعيشه، لكن ما ينتجه من متن فكري وإنساني يجد عبره صيغة لواقعه، فإن عيد عبد الحليم قد سرد في كتابه ما نجهله من سيرة غير خاضعة للتاريخ، لكنها وبأداة اللغة يمكن أن نستنتج منها حياتهم.

 

مقالات من نفس القسم