الرمزية واستشراف المستقبل في قصص “مألوف” لابتهال الشايب

ابتهال الشايب
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

د. عزة رشاد

“مألوف” هي مجموعة قصصية للقاصة والروائية ابتهال الشايب، التي نالت جائزة الدولة التشجيعية عام 2014 عن المجموعة القصصية “نصف حالة”، وهي تهدي مجموعة “مألوف” إلى:  دبدوبي وأشياء لم تعد موجودة.

يوحي الإهداء بوجودٍ قد زال وتلاشى، وبرومانسية لم يعد لها مكان، كما يعبر الإهداء عن تاريخية ما، كمدخل لنصوص لا تمنح نفسها للقارئ بسهولة، لكنها تولى الاهتمام إلى فضح انعكاس أزمات عصرنا على الإنسان، وفحص أعراض معاناته: الاغتراب، الوحدة، الذعر، الارتياب في كل شيء، الانكفاء على الذات، فقدان المعنى والهدف من الحياة.. إلخ، تولي الاهتمام كذلك لانعكاس هذه الأزمات على رؤية الإنسان لذاته، وللبيئة من حوله، ولفضح قذارتها، بغرض إصابة القارئ بالصدمة، في الغالب، بطريقة مباشرة وفجة حد تعرية مخلفات الإنسان: بول براز عرق مخاط غبار نمل.. إلخ، في قصص جميلة تفتقر مفردات عالمها إلى الجمال التقليدي، عدا الفراشات الهاربة كالحلم في فصل أو قصة “عفوية”.

*تبدأ المغايرة من كُنه النصوص، وإن كانت قصصًا “غير تقليدية”؟، أم هي فصول، تشكل في تجاورها لوحة كلية؟ “تساؤل حول النوع الأدبي”، ثم تأتي *عناوين الفصول دوما مكونة من مفردة واحدة، نكرة: خارج، عفوية، لاشعوري، متكلم، مألوف، سوداء، احمرار. وهي عناوين مُحيرة، هل يُقصد منها أن تكون عتبة للنص، ربما لا تظهر الصلة بينها وبين متن الفصول بشكل حاسم.

_هناك أيضا عناوين فرعية، في فصل “عفوية”: نجد بداية 1 وبداية 1 مكرر تكفلتا بالمورفولوجي الجديد للشخص، تعقبهما نهايات.. من نهاية1 وحتى نهاية 9 حيث يُعبِّر “الشخص غير المرئي في الغالب” عن عجزه عن التواصل مع الفراشات ثم يكتشف أنها في مكان آخر، ويضطر للسفر بحثًا عنها، في نهاية 10، 11، حتى ينتهي أمله في الفراشات، وفي الكتابة على حائطه، نهاية واضحة.

_في قصة أو فصل “لاشعوري” لا توجد عناوين سابقة للنص “اللقطة”، بل توقيعات في نهاية الفقرة القصيرة، الفقرة التي تبدو حوارًا داخليًا ممهورًا بتوقيع صاحبه، سواء هو: لون حائط الورشة، أو مقعد، أو أو حوائط المطعم، أو أرضية المنزل، أو أظافر، أو أداة.. إلخ.

_يقسم أيضًا فصل “مألوف” إلى سبعة أقسام من يد1 إلى يد7 حيث تُظهر اليد عجز السارد “موظف”، وتصوره عن ذاته، ففي يد1 يرى ذاته.. “أنا كلب غير قادر على النباح”، في يد2 “أزقزق.. يشمئزون”، في يد3 “أنا ذبابة أئز”، في يد6 “صوتي نهيق”، في يد7 “أنا أسد عجوز أريد أخلع بنطالي، حزامي، لكني أخفق”.

*تُستخدم تقنية الميتاسرد في القصة أو الفصل الأول “خارج”، حيث يتناول القس نصًا مكتوبًا في دفتر الشخص “غير المرئي”، أي كتابة داخل الكتابة، مع تقسيم “مكتوب الدفتر” إلى: بضع صفحات فارغة، وبضع ملاحظات في صفحة 20 تعكس شعور الشخص بالوحدة والنبذ، وضلالاته البصرية: أصابع تسد البالوعات وخلافه، ثم تأتي كتابة على هامش الدفتر بنفس الحالة، ويمنحها ضمير المتكلم شعريته المؤثرة.. “حُفرت خدوش رفيعة في يدي أثناء عملي، تفرز قطرات دم قليلة، تتكاثر الكلمات في فمي وتتكاثر بالقرب من الفتحات الدقيقة جدا في الهاتف، يزداد البلغم مع السعال الذي يصيبني فجأة، تنتحر نوايا صالحة على الأرض..”. الميتاسرد موجود كذلك في فصول أخرى ومنها “على سبيل المثال” فصل “متكلم”: حيث يحرر السارد ذيله بالكتابة.

*ترسم في فصل أو قصة “عفوية” خريطة مورفولوجية جديدة للإنسان، حيث جسد الإنسان هو غرفة من الجلد يتدلى من تحتها الساقان، حوائط الغرفة جلدية، فيما تبرز الرأس من الحائط أمامي اعتبرته حائط المستقبل، ثم تظهر فتحتان يمتد منهما الذراعان وكف اليد، وعلى الجدار الخلفي يُعلق الماضي، الأحلام والأفكار جهة اليمين، والمشكلات جهة اليسار. 

*ساردو القصص: شخوص، وأشياء، أولا شخوص مهمشين في “خارج”: سبَّاك، موظف في “مألوف”، صاحب ورشة، يكررون عبارات ٍتشي بالشعور بالدونية والتجاهل من الآخرين:

_لا أحد يلتفت إليَ. لا أحد يحاورني. هل أصبحت غير موجود؟

وكلها تعكس الشعور بالاستبعاد، والتواصل المفقود بين الأنا والآخر. كما يعاني أحد الشخوص من ضبابية في الرؤية، أو ضلالات بصرية، في “خارج”، فيرى أصابع بشرية على هيئة أسياخ تخرج من البالوعات، أو تسد ثقوب جميع الأجهزة أو غيره، وقد يتمرد أحدهم مثل الموظف في “مألوف” فيقوم بتعليق مشانق لأعضاء مجلس الإدارة “الاجتماع”.

ثانيا: الأشياء: تصبح الماكينة موضوعًا مهمًا، تصبح مسرودًا عنها، تعيد لها قصة أو فصل “لاشعوري”، الاعتبار، وتمنح صوتًا للمحيطين بها ” واهتماما من المحيطين بها “لون حائط الورشة، أرضية المنزل، أو أظافر.. إلخ” ليسردوا مسار رحلتها.

*ثمة رموز قوية في إيحاءاتها، كما أن وجودها مهتز بين الواقعي والمتخيل والحُلمي: مثل الفراشات “في فصل أو قصة عفوية” ربما ترمز لبنات حواء، وهن مختلفات في ألوانهن وردود أفعالهن عندما يطلب منهن البطل الرسم على حائطه، أي قدراتهن على التواصل، التي تفشل في النهاية، إذ عندما يلمس فستان حائط مستقبل البطل السفلي، يكتشف أن حائطه رخو إلى درجة عدم الصلاحية للكتابة عليه، الكتابة على حائط الشخص ربما ترمز إلى تواصل منشود يمنح الحياة سعادة لكنه لا يتحقق. ثم يظهر الذيل، الذي ربما يرمز لإرادة مقموعة، يقاوم الشخص هذا القمع بالكتابة، ويحرر ذيله، ويصبح غير خائف، وعندما يربط أحدهم ذيله هذا، بحجرٍ ثقيل، يقوم بإلقاء أحذية المحل في الطريق “الصفحة البيضاء”، حتى يخف حمل الحجر، ويتخلص منه، ويتأكد من أنه ليس غبيًا، لكن يلاحقه غضب المدير، فيتكرس داخله الشعور بأنه بالفعل يملك ذيلًا.

*في فصل “متكلم”: تنكشف الأوهام، لكن التعبير عن هذا يتم بشكل مغاير، ألا وهو الذيل، ما يحتاج إلى تقسيم الفصل ارتكازًا إلى حالات شعورية: أنا خائف: هناك أمل، ركز، أنا لست بخائف/ أنا سيء: أكثر من خمسين شتيمة حولي، الذيل يخنقني، ركز، أنا لست بسيء. ثم، على نفس المنوال: أنا غبي، أنا لست بغبي، ثم أنا فاشل، التي تخرج عن السابق وتنتهي ب: أنا فعلا فاشل. لتعبر عن الإفلاس، اهتزاز اليقين والحاجة إلى الانقاذ من خيبة الأمل وخيبات كثيرة أخرى.

*وفي فصل مألوف: تعبر عن استلاب الإنسان من قبل النيوليبرالية المتوحشة، وأذنابها والمستفيدين منها محليًا.. إلخ، وتستخدم اليد كرمز قوي ومعبر عن هذا الاستلاب، من يد1 “أنا كلب غير قادر على النباح”، إلى يد6 التي يعبر عنها ب: “لا يستطيعون إسكاتي”، ويبلغ فيها مبلغ العنف: فيعد لهم أفران وعلب ثقاب، لكنها بدلا من أن تصيبهم، ترتد إليه تقريبا، لننتهي إلى يد7..  “أنا أسد عجوز، أريد أن أزيل الأشياء الضاغطة عليَّ بشدة، لكني أخفق”.

*في فصل “سوداء” يبلغ الرمز منتهاه، فهناك بقع سوداء فوق الأنف، وحشود نمل تخرج منه لاستكمال صورة الاختناق الذي يعانيه إنسان عصرنا

وأيضا تبلغ بهذا الفصل ذاته مراوغة الحقيقة حدها الأقصى، فبعد وصف الأنف بوصوف غريبة، ننتهي إلى أن البطل يكتشف: “أنفي طبيعية”، كما يتم تجاوز الواقع.. “تأخذ أنفي المصنع وتهرب بعيدا، فأنا لا أشعر بوجودهما ولا يظهران بالمرآة”، وفي صور كثيرة أخرى مشابهة وأغلبها تشير إلى التناقض بين تعَلُّق العامل بالمصنع والآلة الانتاجية، وبين كراهيته لعلاقات الاستغلال التي تفرضها النيو ليبرالية المتوحشة، لينتهي إلى التعفن في الفصل الأخير المعنون ب: “احمرار” حيث تحذر الكاتبة من إمكانية تهاوي حضارتنا وحياة الإنسان بشكل عام، لأن.. “الجروح التي لا تُعالج، تتعفن”.

 

مقالات من نفس القسم