تُزهر برفْق..نَصٌّ جريمته الغياب

تزهر قليلًا وبرفق
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

عاطف محمد عبد المجيد

لحظة أن قرأت عنوان ديوان الشاعرة دعاء زيادة “تزهر قليلًا وبرفق”، الصادر عن الهيئة العامة للكتاب منذ سنوات، ظننت لوهلة أولى، أنني أمام ديوان يتسع لسعادات شتى، يُشع أملًا وحبورًا، يفيض إزهارًا ولذة، متبنيًا في هذا وجهة نظر مَن يرون أن العنوان ما هو إلا عتبة للنص، توحي ولو من بعيد بما في داخل دهاليز النص.

غير أن النص، في هذه المرة، خذل وجهة النظر تلك، إذ جاء مغايرًا للعنوان، إن لم يكن عكْسه تمامًا، حين بدا نصًّا شديد الإيلام، تكابد فيه الذات الشاعرة جراح غيابات شتى، لم تصل بعْدُ لأن تبرأ منها، ومن آثارها الجانبية، وقبلها الداخلية، التي لا تزال ملازمة لها.

(1)

في ديوانها هذا، تمنح دعاء زيادة قصائدها من وهج روحها، وجسدها الذي يتعذب صامتًا، دون أن يجد من يَطْمئن للبوح أمامه، والفضفضة بين يديه.هذه المعاناة هي التي جعلت هذه النصوص طازجة تتمتع بحيوية، وتتشكل مفرداتها وتأويلاتها على عتبات الجسد والروح.إنها تكتب نصها بصدق، وكما يحلو لها، مُعبرة عما يحدث في أعماقها من مشاعر وأحاسيس، من دون أن تخشى رقيبًا داخلي أو خارجي.تكتب زيادة عن القُبلة المشتهاة، عن لمسات أصابع الحبيب لنهدين متعطشين للمسة في الغياب، وعن شئون الجسد الأخرى.إلى جانب هذا تتعاطى مع نصها مثلما تتعاطى مع ذاتها، لا فرق ولا فارق بينهما، حتى إنها، هي ونَصها، يبدوان متماثلين تمام التماثل، درجة أننا إذا ما أردنا أن نعثر على عوالمها وتضاريسها، فما علينا إلا أن نقرأ نصوصها التي يضمها تزهر برفق.

(تسكرني القُبلة

السر ليس في تلامس الشفاه

ولا في عناق اللسان

بل هو النَّفس الحميم

تلك اللحظة التي تسبق كل شيء

تطوي ضجر العالم

تزيح فداحة الحياة

ببراعة أسرع من كأس).

(2)

يظهر الجسد في المقدمة، معلنا احتفاء صاحبته به:

(من حمالة صدري يرجف زغب الحنين،

يلوذ بجلدي كي يبوح نهداي بالخفايا،

وتجيب يداك طراوة السؤال.

………….

إنها الثالثة عطرًا،

توقيت الحرائق والعناق والقبل العنيفة

والتنهدات).

 ومن حقل مفردات الجسد الأخرى التي تتكرر في معظم القصائد: ظهورنا، الشفاه، الرقص الحميم، حمالة صدري، جلدي، نهداي، عنقي، جفوني، جبيني، لحمي، أنثى، شَعري، وغيرها. كذلك نجد حوارًا، يمتد بامتداد قصائد الديوان، ما بين الشاعرة وذاتها من ناحية، وما بينها وبين الآخر / الحبيب / المُنتَظَر، والذي يلفه غيابه عنها أو يلفها غيابها عنه وتنتظر قدومه من بعيد من ناحية أخرى.

(3)

كذلك نرى أن الغياب / الغربة يتربعان على طليعة المشهد في معظم قصائد هذا الديوان، غير أن الغياب هنا يَحْضر بمعناه الشامل، الذي يعني غيابات عديدة لا غيابًا وحيدًا.يغيب الحبيب في الزحام، الحبيب الذي تحاول أن تداوي غيابه بالموسيقى، يغيب الفرح الذي تتعثر بغباره ولا تمسك به، تغيب المتعة والإحساس بملذات الحياة.حتى أنه يمكن اعتبار نصوص تزهر قليلًا وبرفق نصًّا واحدًا تبوح فيه الذات الشاعرة بما يكدر صفو حياتها، من عيش في الغربة، إلى غياب الحبيب، إلى غياب أشياء كثيرة تفتقر الذات الشاعرة إلى وجودها في عالمها الخاص، إلى غياب دواء ناجع يخلّصها من أوجاعها، إلى أقسى أنواع الغياب: غياب الحرية.بل وصل بها الحال لأن تسمي هذا الغياب بالغياب الفسيح، موحية بما له من آثار عليها وعلى طقوس حياتها.

( من كان غريبًا فليتبعني،

نادت بها الأوطان بعد أن أحكمت غلق حقائبها

وبضجر نبي لا يكف عن الحزن أعد الهواء،

فيشرد جمال الخطايا بغمازتيه

 وراء أسيجة من الخيال).

هذا ويبدو نص دعاء زيادة مثقلًا بالأوجاع والآلام التي سببها الحنين إلى لحظة مبتغاة، بعد أن تعلن الذات الشاعرة ظمأها لقُبلة من حبيب تنتظر لمسة من يديه تهديء لهفة جسدها الذي يحترق لوعة في غياهب الانتظار.كل هذا الحب وما زال قلبها يشتهي أن يطهو المحبة لمحبوبها على نار هادئة.

(4)

أما الغربة المكتملة فتعيش تفاصيلها الذات الشاعرة في ترحالها وتنقلها من مكان إلى آخر، ومن بلد إلى غيره، حاملة أوراقًا ثبوتية لا تشبهها، يشدها البعاد من إخمص الروح بعد أن تلْفظها الحدود وتتلقّفها الغربة من مدينة إلى أخرى فيما لا يناديها الوطن (قصيدتها ما يقوله المساء للغريبة).بل يزداد مؤشر التأثر بالغربة في الارتفاع حتى يصل الأمر إلى أنها لا تقطن في الغربة، بل الغربة هي التي تقطنها بكل جدارة:

( أقلم أظافري، وأدير القناة من الأخبار الحامضة

إلى حفل مسجل لأم كلثوم على قناة أخرى،

هذا ما يفعله الغريب

في منتصف الوحدة تمامًا

بعد أن أدمت قلبه صور الشهداء في بلاده

ولعن كل مقدمي التوك شو الذين اتخذوا

من المأساة مزادًا آخر للمتاجرة بالوطن ).

(5)

كذلك تقترب الذات الشاعرة، في سعيها نحو الابتعاد عن عذابات الغياب والوحدة، من اليومي المعيش، علّها تجد لديه ما يعزيها، أو يخفف عنها، ولو قليلًا، مما هي فيه، مستخدمة مفردات من قبيل: علبة سجائر، منفضة، كتاب، هاتف، جهاز ركض منزلي، الطاولة، نبيذ، ورد، انفجارات بعيدة، أزمة انتخاب.ربما تحاول الشاعرة هنا أن تُغْرق ذاتها في هذه التفاصيل كي يساعدها هذا في نسيان ما يُلم بها من غربة متوحشة تنهش جسدها وروحها من دون شفقة.غير أن ما قد يفعل بها هذا لن يكون سوى حضور الحبيب الغائب الذي تناديه روحها قائلة له:

( تعال وتمهل قليلًا

قبل أن تمطرني قُبل محبتك

فأنا لست بخير

ولا شيء منك يجبر خاطري

قلقي عليك وفزعي

في بعادك

غير حضورك ).

وبعد، هذه نصوص لم تزهر سوى ألم، غياب، غربة، ووحدة، كتبتها دعاء زيادة لتعزي نفسها من جهة، ولتنضم، من جهة أخرى، إلى قبيلة الشعراء الذين عانوا كثيرًا من الغربة سواء خارج أوطانهم أو داخلها، وهذه هي الغربة الأقسى.

 

 

 

مقالات من نفس القسم