جزمة واحدة مليئة بالأحداث ..أبطال هامشيون في وطن بلا ماكياج

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 42
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

طارق إمام

تبدو المجموعة المسرحية ( جزمة واحدة مليئة بالأحداث ) لباسم شرف ، و الصادرة مؤخراً عن دار ” ميريت ”  تجربة صادمة تماما لقارئ المسرح التقليدي ، و ذلك بدءا من عنوانها الغريب الذي يزاوج بين مفردة عامية هي ( جزمة ) تحتل صدارة عبارة فصيحة ، و هو ما تؤكده النصوص القصيرة التي ينتظمها الكتاب ، و التي يبدو سؤال القطيعة فيها مع التراث المسرحي السابق عليها على نفس الدرجة من الأهمية مع سؤال التواصل .

العنوان يعد  متلقيه ـ بشكل مُضمر ـ بالعديد من الأحداث الزاخرة التي تحتويها ” الجزمة ” ، وعلى جانب آخر يأتي العنوان الفرعي ، المكمل و المتمم للعنوان الرئيسي ، ليخاطب المتلقي المفترض بشكل مباشر و بضمير المخاطَب ( أرجوك ما تتحركش ) .. كأنها دعوة لألا يغادر القاريء / المشاهد مكانه ، لأن يظل ثابتا منتبها .. كونه بالضرورة شريكا في إنتاج النصوص ، مكملا لفراغاتها و مساحات الغياب فيها و ليس محض مستهلك عابر عجول .

 

النصوص ـ مبدئيا ـ لا تبدو معنية بالتأكيد على مفردات المكان أو الديكور أو الإضاءة أو  الشكل الخارجي ـ الفيزيقي ـ للشخصيات .إنها تستبعد مفردات كثيرة تبدو جوهرية لتقدم العالم النفسي الداخلي لشخوصها . الشخصيات تبدو وفق هذا الطرح  أصواتا أكثر مما تبدو شخصيات حقيقية و هو قدر من التجريد يقرب هذه النصوص من العالم الشعري لقصيدة النثر العامية التي قدمت منجزا هاما منذ تسعينيات القرن الماضي .ربما لهذا السبب يبدو الحوار ، أو المونولوج ، مفارقا للشخصيات بشكل متعمد .. ذلك أنه لا يخضع لقانون المحاكاة الواقعي بقدر ما ينحو نحو تكثيف الواقع : (غرفة بسيطة الأثاث و لكن تبرز منها مرآة كبيرة بها كسور واضحة يقف أمامها شخص و يقول :  أكتر واحد بخاف أقابله هو أنا . لما أشوفه في مرايا أو جوا حلم ، لإن عنده قوة غريبة قوي في إنه يكسرني و يخليني قاعد خايف ، و أحس ان وجودي ملهوش معنى غير بإرادته هو حتى و إن كانت غلط ، علشان كده لازم أكسر المرايا ، و أقطع النور عنِّي في الحلم . ” ثم يكسر المرآة ” . إظلام تام ) . إن هذا النص على سبيل المثال ، و المعنون ب ” مرايا مشروخة ” يبدو نموذجا دالاً على ما أسلفت من اختزال للشخصية في الخطاب و اتكاء على الجانب الفلسفي من المشهد اليومي العابر المتاح و استبعاد لتفاصيل المكان و الزمن بمنطقها المُدرك الإتفاقي .

النصوص أيضا تتألب على منطق التصنيف الضيق لتنفتح على أشكال مختلفة في التعبير ، و هو انفتاح يسم الكتابة الجديدة إجمالا بحيث تتنوع مفاتيح قراءتها ، بما يجعل من مفردة ( نص ) تعبير مثالي على حالة هي جماع من القصة و الشعر و الفن التشكيلي . و الكثافة هي السؤال الجمالي  لهذه المجموعة : كيف يمكن استحضار عالم كامل في نص قصير قد لا يتجاوز سطراً واحداً و يكون قادراً رغم ذلك على فتح إحالات ميثولوجية و رمزية بلا حصر ؟ و لننظر مثلا إلى النص الإفتتاحي في المجموعة ” المهدي المُنتظر ” : ( المهدي المنتظر : أنا مش جاي . إظلام مفاجيء ). إن سطرا واحدا يغدو نصا مسرحيا ، في شطط تجريبي يدفعنا للتساؤل بشدة عن التصنيف اللائق لنص كهذا ، و إمكانية تمثيله مثلا ، فحتى الشخصية الإفتراضية هنا غير موجودة ، هي شخصية مستقبلية تمثل أحد رموز نهاية العالم .

ربما يمكن رد التأثيرات الرئيسية في هذه النصوص لمنجز مسرح العبث أو اللا معقول ، و الذي نشأ في شروط افلاس العقل البشري و هزيمة الإنسان الحديث الذي أنهكته الحرب ، و التي يرُدَّها باسم شرف هُنا لسياق اجتماعي و اقتصادي و نفسي خربته الديكتاتورية و نخره الفقر الذي امتد للروح فخلق حالة من الخواء و اللامبالاة  عند الفرد العادي ، و اختصره لشبح فقد أهليته . ربما لذلك يختفي ( البطل ) من النصوص ليحل محله  ( اللابطل ) أو البطل الضد ، الذي تم تجريده من أية ملامح تخصه ، المنفصل عن أي سياق ملحمي . هكذا ستعثر على العديد من النصوص التي تتبنى منطق ” البارودي ” ـ المحاكاة التهكمية ـ في التعليق على الواقع المعاش و مقاربة أبعاده السياسية و الاجتماعية في كوميديا سوداء ، تعيد استخدام حتى تقنية ” الكورال ” المسرحي بطريقة جديدة ، مخلصة إياه من مهابته التقليدية كصوت للضمير الإنساني . كذلك تحضر دائما المفارقة ـ المنسجمة مع عنوان الكتاب ـ  بين عناوين النصوص الفصيحة و حوارياتها العامية ، و العكس .

إجمالا ..هذه نصوص لن تعثر فيها أبدا على شخص منتصر أو نهاية سعيدة ، نصوص تدور أحداثها داخل أذهان شخوصها المتوحدين و المنفصلين قسرا عن إنسانيتهم : ( جوا المترو الناس بتمارس العادة السرية بملامح وشوشهم لما يشوفوا بنت واقفة و ساندة ضهرها على الباب ).

جزمة واحدة مليئة بالأحداث .. نصوص طالِعة من الواقع السفلي ، الهامشي، بلا رتوش و لا ماكياج ثقيل يجمل وجهها .. و ربما كان هذا ـ بالذات ـ سر جمالها ! .

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم