الذات كقصيدة ممتدة.. قراءة في “كأعمى تقودني قصبة النأي” للشاعر محمد حلمي الريشة

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

 

محمد سمير عبد السلام

الكتابة الشعرية تصير موضوعاً متواتراً لذاتها عند الشاعر الفلسطيني محمد حلمي الريشة؛ إذ لا يمكن فهم العالم الداخلي للشاعر، أو ظواهر العالم في نشوئها، وتحولاتها إلا من خلال الوسيط الشعري الفعال في الوعي، والتشكيل المتعدد للمنظور؛ فالذات تعاين بهجة العالم من خلال مرجعية شعرية تطمح إلى التوحد بنماذج الخلود، والأصالة، والترقي المستمر في شاعرية الوجود، وتحولاته التي تحاكي القصيدة، أو يكشف عنها الوعي في تكوينات الوجود نفسها. القصيدة تلج مدلول الأنثى، وتمنحه حضوراً اختلافياً ينتشر كدلالة مضافة للعلامات، والتكوينات، والصور المتجاوزة لدلالاته الأولى؛ فالشاعر يستنزف دلالة الأنوثة؛ لتصير أكثر اتساعاً في صيرورة الكتابة، وعلاماتها الأصيلة، والمعلقة في آن؛ إذ يضعنا الشاعر في سياق حوارية مفتوحة بين متكلم قيد التشكل في صور الكتابة، وأخيلتها التي تتخذ شكل أنوثة لا يمكن القبض على مدلولها أبداً؛ فهي الكتابة نفسها التي تناهض ثبات المرجعيات من خلال التحول، أو الترقي الروحي المجدد للهوية، والمتجاوز للموت معاً.

 

الكتابة تجدد شكول الحياة الطيفية، وتنتج عوالمها المحتملة، وتأويلاتها المتعددة للذات من خلال الإعلاء من القصيدة كتيمة تتمركز حولها العلامات، والضمائر، والمجالات الفنية المختلفة؛ ويبدو هذا التصور الجمالي واضحاً في ديوانه (كأعمى تقودني قصبة النأي)، الصادر عن هيئة قصور الثقافة المصرية سنة 2012؛ إذ تتولد حالة الكتابة من نماذج الوعي، وتناقضاته إلى توحده بالصور الطائرة التي تعيد تشكيله باستمرار في حوارية نصية متعالية، وتأويلية لقيمة الأصالة الكامنة في شاعرية الوجود.

ويمكننا ملاحظة أربع تيمات رئيسية في الديوان؛ هي:

الأولى: القصيدة بين الصيرورة الجمالية، وإعادة التكوين.

الثانية: ثراء الهوية الشعرية.

الثالثة: تفاعلية العوالم الإبداعية.

الرابعة: تعددية المدلول، وظواهر اللغة.

 

أولاً: القصيدة بين الصيرورة الجمالية، وإعادة التكوين:

للقصيدة حضور متعدد، وحي عند محمد حلمي الريشة؛ فهي تبدو كحالة إبداعية كونية تختلط بفعل الكتابة، وصيرورتها، وأخيلتها، أو كوسيط يؤسس لولوج المتكلم عوالم، وضمائر أخرى تؤول وجوده الشعري، وهي أيضاً الأنثى المحتملة، أو التمثيل المجازي لأنوثة القصيدة المكتوبة، كما تبدو كرؤية للشاعر تتجلى فيها علامات العالم، ومجازات اللغة؛ ومن ثم فهي تفسيرية، وأفكارها توازي جذورها الإبداعية داخل الذات، وخارجها.

يتحد الشاعر بالقصيدة كحالة تقع بين الذات، والكون؛ ومن ثم يكتسب قوة تلك الشاعرية الكونية المميزة للكتابة في نص (صدقة الغيظ في يد الموت)، ويتسع حضور الوعي في المشهد الحواري الذي يجمع بين الذات، وأخيلة النص، وامتداد الوعي في القصيدة الكونية.

يقول:

“أَيَّتُهَا القَصِيدَةُ..

لَا تَتْرُكِي الشَّاعِرَ يَكُونُكِ ثَمَرَةً عَلَى شَجَرَةٍ دُونَ قِطَافٍ”.

 

تبزغ القصيدة من الداخل، ثم يبدو ضمير المتكلم كأثر خيالي من آثارها، ثم يتسع الوعي ليتحد بإبداع العالم، وصيرورته الممثلة في القصيدة.

من الفاعل؟ من يقطف الثمرة في النص؟

إنه الشاعر في سياق القصيدة نفسها حين يكتسب قوة الظاهرة الإبداعية التي تقع في مسافة استعارية بين الداخل، والخارج؛ فالشاعر هنا يجمع بين الفاعلية الشخصية، والنموذج الإبداعي في تكوين يتجاوز قضية الانفصال بين الوعي، والموضوع. وقد تتولد القصيدة من رغبة الخلود، والتجاوز في نفس المتكلم؛ ومن ثم بالحضور الاستثنائي للأنا فيما وراء حدوده، وتكوينه؛ فدائرية الجمال في القصيدة تفترض وجوداً آخر متعالياً للمتكلم في سياقه النسبي نفسه؛ فالقصيدة تؤول تناقضات الحضور، والغياب في مسار التجاوز، لا الاتصال الروحي المؤقت.

يقول:

“لِأَنَّكِ غَيْرُ مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ،

تَظَلِّينَ تَنْتَظِرِينَ يَدًا عَارِفَةً مَذَاقَ عَيْنِهَا الثَّالِثَةِ”.

 

يعاين المتكلم صورة الفردوس في الوعي، ويتناص مع القرآن الكريم؛ إذ يؤول القصيدة من خلال أصالة الجمال، وامتداده فيما وراء الحدود الزمكانية، ويؤول وجوده من داخل تلك الزيادة المضافة لحضوره حين يتحد بها؛ فثمة (عين ثالثة) تتحد بالقصيدة، أو تكتب بها.

وقد يتصل المتكلم بتناقضات الموت، والخلود معاً في حواريته مع القصيدة، وكأنه يتجاوز بنية الحضور المتعالي من خلالها؛ إذ يزدوج الصوت النسبي بالقصيدة كمعبر متواتر للخلود.

يقول:

“تَقْصِفِينَ أَنْفَاسَ الشَّاعِرِ،

كَأَنَّهَا أَعْمِدَةُ سَنَابِلَ،

بَحْثًا عَنْ عُشْبَةِ الخُلُودِ،

رَغْمَ أَنَّهُ يَقْتَنِعُ بِوَرْدَةِ الفَرَحِ”.

 

تختلط بهجة القصيدة بمحو، أو تدمير يستنزف الموت من خلال بنيته في المشهد؛ فالموت هنا يشير إلى الخروج من أسر احتمالية الانقطاع في صور القصيدة، والتحامها المتكرر بالذات، إنه معبر للخلود المستعاد من اللاوعي الجمعي، ومن أصالة الجمال في بنية القصيدة المتخيلة. وتبدو الكتابة هنا كزيادة مستمرة مضافة للذات، والنص معاً؛ فهي في حالة تجاوز دائم للصوت، ولإشاراتها الأولى.

يقول:

“يَمُدُّ الشَّاعِرُ يَدَهُ الثَّالِثَةَ نَحْوَ اليَدِ الوَاحِدَةِ لِلْمَوْتِ

كَيْ يَضَعَ فِيهَا صَدَقَةَ الغَيْظِ”.

 

اليد الثالثة تشير إلى التحول الطيفي المجازي للصوت في المشهد؛ وكأن عنصري الاختفاء، والتمثيل يتجاوزان بنية الموت الأحادية؛ ويؤكدان الجمال الدائري للقصيدة داخل الوعي المبدع، وخارجه.

وتتعدد مستويات توحد الشاعر بقصيدته فيصير صوته مجموعة من الصور المجازية، أو تصير القصيدة صوتاً فاعلاً بداخله في نص (أَمُدُّ جَنَاحَيَّ.. أُحَرِّكُ هَوَائِيَ.. لَمْ تَعُدِ الأَرْضُ تُشْبِهُنِي)، وتظل هذه الحوارية ذات الكينونة المزدوجة قائمة بحيث تتحدث الأخيلة، ويكتب الأنا وجوده كقصيدة ممتدة.

يقول:

“لَوْ أَيُّ شَيْءٍ.. لَوْ كُلُّ شَيْءٍ

لَنْ يُجَفِّفَ دَمْعَةَ الوَرْدَةِ

الَّتِي سَالَتْ مِنْ عَيْنَيَّ”.

 

الشاعر يفكك بنية البكاء؛ فهو بكاء بهيج يقوم على تعاطف جذري مع صور القصيدة التي تمتد من الذات إلى العناصر الكونية المرحة في حضورها الخيالي، بينما تكتسب الوردة فاعلية ذاتية مضافة من ذلك الصوت الإنساني، ومن فعل البكاء، ولكن بصورة مجازية مضادة للألم؛ فالوردة تعيد تمثيله في سياق جمالي مضاد، واختلافي؛ إذ تؤول الحزن من خلال البهجة.

وقد تتعدد أطياف الصوت الواحد، وعوالمه الداخلية، وتتفاعل في لحظة الإبداع التي تعزز من الانتشار، والاختلاف، واتساع فضاءات اللاوعي.

يقول:

“تَدْخُلُ الأَنَا.. يَدْخُلُ الهُوَ

تَخْرُجُ الأَنَا.. يَدْخُلُ الهُوَ

يَطْعَنُ عِنَبَ جَنَّتِهِ”.

 

إن الجدل الحركي بين قوى الوعي، واللاوعي كما هي في تصور فرويد، وبحث الصوت عن اتساعه الحلمي في عالم القصيدة المجازي الفسيح، يؤكدان اتحاد الكتابة بالقوى الروحية للأنا، ودرجة تشكلها الأصلي في سياق الجمال الشعري الداخلي.

 

ثانياً: ثراء الهوية الشعرية:

القصيدة تعيد تشكيل الهوية، وتتجلى في صور، وشكول مختلفة في العالم الداخلي للمتكلم، ويمتد الأخير في آثار الكتابة؛ لتؤكد ثراء الكينونة الشعرية، وتطورها غير المعروف سلفا في الأخيلة، والعلامات المتجددة، والمتولدة من نماذج الوعي، واللاوعي، وأصالة الفاعلية الإبداعية، وتعدد مستويات الأنثى المحتملة في القصيدة، أو العناصر الكونية.

إن الاتصالية الإبداعية بين الأنا، والقصيدة، والصوت الشعري المتعالي، والأنثى المجازية تنتج حوارات نصية مفتوحة، ومضافة للحظة اكتشاف الأنا لذاته في لحظة الكتابة، واتحاده بعلاماتها المؤولة لصوته في نسيجها الخاص. وتبدو التفاعلية المعقدة بين الصوت، والكتابة في نص: (حُلِيبُ المَسَاءِ الزَّاجِلُ)؛ فثمة مسافة استعارية من الوجود الممتد من القوى الروحية الأسبق من تشكل الأنا، وعلامات القصيدة التي تؤكد استمرارية عنصر الاختلاف في الهوية، وامتداده في المجاز المتجاوز للحضور الساكن، والغياب معاً.

يقول:

” أَعْرِفُنِي؛

سَأَصْرُخُ فِي كَعْبِ خُرُوجِكِ المُفَاجِئِ

– بِكُلِّ مَا أُوْتِيتُ مِنْ قُوَّةِِ وَهْنٍ-

أُلَملِمُ مَا تَسَاقَطَ مِنْ إِيقَاعَاتِهِ السَّاكِنَةِ

عَلَى

جَفَافِ الصَّدَى

ثُمَّ لَا أَثَرَ إِلَّا لِرَائِحَةِ مَجَازِكِ فِي مِزَاجِي، ثُمَّ..

لَا أَثَرَ لِي”.

 

لقد اقترنت بنية الغياب في المقطع بحضور طيفي متجاوز للفراغ؛ إنه غياب للأثر لا للوجود؛ وكأن أصالة الفاعلية في عالم الشاعر قد اتحدت بالكتابة تماماً، واتصلت مباشرة بالاتساع الحلمي في اللاوعي، وأرى أن تفاوت درجات الحوارية الروحية في المشهد يؤكد فكرة الاتصال الأصلي بين الوعي، والنص، أو بين الفاعلية الشخصية، والنموذج الإبداعي الأكثر اتساعاً بين نوازع النفس، وصيرورة العلامات الكونية في الكتابة. ويؤدي توحد الضمائر في نصوص محمد حلمي الريشة إلى ثراء كل منها، ومساءلة مدلول الهوية في سياق إبداعي متجدد؛ فالأنثى المحتملة تزدوج بكل من الذات، والقصيدة في نص: (لاَ جَدَاوُلِي تَمْلَؤُهَا، وَلاَ بِئْرُهَا تُلْقِينِي) ؛ فالشاعر يشير إلى غواية القصيدة، وتشبيهاتها المؤكدة للجمال، والاختلاف في سياق حوارية الوعي، وشاعرية العالم.

يقول:

“تَدَفَّقِي الآنَ خَارِجَةً مِنْ مَلَاءَاتِ المَدَى

وَاغْطُسِي فِيَّ مَحْمُومًا بِضَرَاوَتِكِ النَّاشِزَةِ

أَرَاكِ كَأَعْمًى تَقُودُنِي قَصَبَةُ النَّأْيِ بَعْدَ النَّايِ

إِلَى حَوْضِ ظِلِّكِ الدَّلِيلِ”.

 

التجلي الطيفي للقصيدة يكتسب بهاء التشكل الجمالي للأنثى في أحلام اليقظة، بينما يتحد الأنا بجذورها الروحية السابقة للتكوين، أو التجسد؛ ومن ثم يغيب المتكلم في صور القصيدة، بينما يكتسب أصالتها، وقوتها الجمالية الأولى.

وقد يذوب المتكلم في صوته الافتراضي المتعالي، وتتسع حدود الهوية في في التجاوز في نص: (خُذْ حَجَرِي الَّذِي فِي القَلْبِ) .

يقول:

“بَيْنَ فَوَازِعِ التَّأْرِيخِ

غَصَّتْنِي مِيَاهُ النَّارِ فِي أَيْقُونَةِ الشَّهَوَاتِ

لكِنِّي عَثَرْتُ عَلَيْكَ:

بَيْضَاءٌ

هِيَ الْأَسْمَاءُ فِي مِعرَاجِكَ النُّورِيِّ

بَيْضَاءٌ

هِيَ الْكَلِمَاتُ فِي تَسْبِيحِكَ السِّرِّيِّ

بَيْضَاءٌ

هِيَ الدَّارُ”.

(…)

“لَسْتُ المُقِيمَ بِدَارَةِ الدُّنْيَا هُنَا… كْ

هِيَ أَسْكَنَتْنِي ضِلعَ إِمْرَأَةِ النَّشِيدَةِ”.

 

الهوية تعرف هنا بالتجاوز المستمر، أو التقدم الروحي الدائري اللانهائي؛ فقد تجسد معنى الخلود في أخيلة البياض، والنور، بينما صار المكان كقصيدة أنثوية طيفية؛ إنه الواقع الافتراضي فيما وراء الأثر، والعلامة، والحدود الزمكانية للهوية، وإن جاء من خلال رغبة المتكلم في الخروج من المعاناة الأصلية في كينونته. ويصل التوحد بين (المتكلم)، و(الصوت المجرد)، و(القصيدة- الأنثى) إلى مستوى تبادل المواقع، والتداخل بين العولم، والكيانات الإبداعية بحيث لا يوجد، أو يقوم عالم منها دون الآخر في حالة الكتابة التي تبدو كقراءة تأويلية للمشهد الحواري المؤسس لعملية الإبداع، وصيرورتها المعقدة بين النماذج الداخلية، والفاعل المدرك، والظواهر، والعلامات الكامنة في الوعي، والكون، والوجود الزمكاني النسبي، والاجتماعي معاً.

يبدو هذا التصور التأويلي واضحاً في نص: (الشَّاعِرُ وَالْـ(حَبِيبَتُهُ) العَالِقَةُ بِدِبْقِ نَجْمَةِ المَجَازِ).

يقول:

“مَن يُدْرِكُ مَن؛ هِيَ أَمْ أَنْتَ؟”

(…)

أَغْبِطُكَ جِدًّا لمَّا تَنْدَهُهَا..

أَتَمَنَّانِي أَنَا..

لكِنْ؛

كَمْ أَحْزَنُ حِينَ أَجِدُهَا غَرِيبَةَ غَابَةٍ عَمْيَاءَ بِدُونِكَ..

تَعَالَ..

خُذْنَا ثَلَاثَتَنَا مَعًا”.

 

ثمة انتشار إبداعي للضمائر، والتجسدات الطيفية، والرغبة في الارتقاء الروحي خارج حالة الانفصال، أو غياب الصوت الممثل للكينونة الشعرية في تداخله مع أنوثة القصيدة التي لا تزدهر سوى في العالم الداخلي للشاعر/ المدرك، وحين تلج عملية الإدراك نفسها.

 

ثالثاً: تفاعلية العوالم الإبداعية:

تتشكل الضمائر، والصور في نصوص محمد حلمي الريشة، وتتطور بحيث يعبر كل منها عن مجال، أو كون جزئي يقع في حالة تفاعل مع المجالات التصويرية الأخرى بصورة لا مركزية؛ فالفضاء الداخلي يختلط بأحلام اليقظة، والرؤى، والصور المؤسسة لمجالات محسوسة، أو كونية، أو طيفية. وقد تمثل مسارات الأكوان الاستعارية المختلفة في النص مسارات سيمفونية جمالية تعبر عن الجمع في الواحد المعقد؛ وهو (الأنا- القصيدة).

يقول في نص: (تَكَاثَفْ مَسْكُوبًا قَارُورَةَ وَحْدَكْ):

“إِلَّاكَ أَرَى فِي زُحَلِ سَمَايْ

مَا نَكْهَةُ رَفْرَفَةِ هُنَاكْ؟

آهٍ تَتَلَوَّى بَاذِخَةَ الصَّمْتِ

كَأَنَّ نَضَارَ اليَاقُوتِ عَجِينُ رُؤًى

لَا أَلْمِسُ إِلَّا سِرْبَ سَرَابٍ

تَاجًا مَحْشُوًّا قَشَّ هَبَاءٍ”.

 

لقد جمعت الكتابة بين أخيلة اليقظة ذات النزوع الكوني، وإيماءات الصوت، والصمت، والتجسدات السوريالية للصورة التي تتسع كفضاء، أو مجال جزئي جديد له إيحاءاته الخاصة، ودلالته في السياق النصي؛ مثل ملامسة السراب، أو التاج المزدوج بإيحاءات الفراغ، أو الصوت الممزوج بالمعاناة، والصمت؛ وتشير تلك التناقضات الداخلية إلى أصالة التعدد، مع الانحياز للتفاعلية المتجاوزة للمرجع الثابت؛ فالاتصال بين تلك الرؤى المتباينة والوعي المبدع يقوم على الاختلاف داخل السياق الشعري الواحد.وتتضاعف مجالات الرؤى الكونية، والجسدية، وحالات الأداء، وتتصل في السياق الجمالي لسؤال الكينونة، ودرجات تجسدها المتنوعة في نص: (تُنْزِلُ لِي سِيَاجَ حَقْلِهَا.. وتَشَرِّدُنِي)؛ إذ يمزج الشاعر التوحد الحدسي بالقصيدة بالإيحاءات الجسدية، وتفاعلها مع دوال البهجة الأرضية، في علامات الزهور، والاخضرار، والماء، وغيرها.

يقول:

“تُرَاهَا تَضِجُّ بِأُنُوثَتِهَا

شَجَرَةُ الخَوْخِ العَارِفَةُ/ لِتَشْتَهِيَنِي؟

(…)

بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَأَخْضَرَ وَاحِدٍ وَشَمْسٍ وَاحِدَةٍ

تُرْوَى الثِّمَارُ كُلُّهُا

إِلَّا ثَمَرَةُ الْجَسَدِ؛ بِارْتِكَابِهِ”.

 

لقد جمع الشاعر بين أخيلة البهجة الأولى للتجسد، والمرح، والإيماءات الروحية المستمدة من إيحاءات البهجة الجسدية نفسها؛ وهو ما يدل على الاتصال الجمالي بين تلك العوالم الشعرية المشكلة للأنا، وقصيدته.

 

رابعاً: تعددية المدلول، وظواهر اللغة:

تمتزج الضمائر، والأحاسيس المعنوية بمادية الصور، والدوال في النص؛ بحيث تشكل العبارة الشعرية مجموعة من الإيحاءات الجمالية اللعبية التي تجدد مدلول الذات من خلال الأثر المجازي المتولد عن حركية الصورة، وشكولها اللغوية التجريبية. وتبدو الإيحاءات التصويرية مختلطة بعنصر شخصي طيفي في نص: (رَذَاذٌ جَرِيحٌ حِينَ أَشْهَقُ عُصْفُورَةَ الظِّلِّ)؛ إذ تشرق الظواهر في مجالات مجازية مضافة لمدلولها الذاتي.

يقول:

“دُخَانٌ سَافِلٌ

وَقَهْوَةٌ عَاهِرَةٌ

يَتَعَاكَسَانِ مُرُورًا فِي قَصَبَةِ الصُّبْحِ”.

 

تتشكل العبارة الشعرية هنا من إيماءات الاختلاف في الصورة من جهة، وحركيتها السردية من جهة أخرى، وهو ما يمنح الأشياء وجوداً آخر في سياقها النصي، ويكسبها فاعلية جديدة تعيد تمثيل الوعي المبدع من خلال إنتاجيته الجمالية الخاصة؛ فالواقع السردي للصورة ينبع من الوعي، ويعيد تشكيل الظواهر المدركة بواسطته في الوقت نفسه. وقد تتفاعل الإيحاءات فيندمج المتكلم بقوة المادة، وطيفية الصورة في نغمات كونية متجددة.

يقول:

“لَا أَبْرَحُ شَجَرَةَ المَخْيَلَةِ؛

لَذَّةٌ تَرْتَدُّ إِلَى عُشِّ الشَّمْسِ

حِيْنَ أَشْهَقُ عُصْفُورَةَ الظِّلِّ”.

 

وتشكل شاعرية اللغة هنا مجالاً استعارياً جديداً يستنزف أبنية العناصر، والوجود المتكلم كمنتج للصورة؛ فهو يعيد اكتشافها في عالمه الداخلي كنغمة جمالية متحولة تستشرف الخلود.

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

محمد حلمي الريشة: “كأعمى تقودني قصبة النأي” – الهيئة العامة لقصور الثقافة – سلسلة آفاق عربية – عدد 144 –  القاهرة –  2012م.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

محمد سمير عبد السلام

ناقد – مصر

مقالات من نفس القسم