صدمة العادى والاستثنائى فى رواية “67” لصنع الله إبراهيم

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

هذه رواية هامة تأخر نشرها طويلا لصنع الله إبراهيم. كتبها فى بيروت فى العام 1968، ونشرتها كاملة مؤخرا مجلة "عالم الكتاب" ( الإصدار الثالث ـ يوليو/ أغسطس 2015ـ العدد 90/91). 

إنها الرواية التالية مباشرة لصنع الله بعد “تلك الرائحة”، والسابقة على رواية “نجمة أغسطس”. تحمل الرواية المنسية والمنشورة أخيرا اسم “67”، وهو رقم أصبح عنوانا على مرحلة فاصلة، بعد  هزيمة عسكرية معروفة، وانكسار حلم جيل كامل. المدهش أن الرواية جيدة وجريئة ، وأراها حلقة أساسية فى استيعاب تجربة صنع الله إبرهيم، وفى طريقته للتعامل مع فن السرد وأدواته، ومحاولته اصطناع حالة من الحياد،  تتيح التأمل بقدر ما تصنع من الصدمة. فى “تلك الرائحة” استخدم نفس التكنيك، ولكن التفصيلات الدقيقة والعادية، كانت دوما حول شخص واحد، له تجربة خاصة، أما فى “رواية 67” فإن التجربة أوسع وأكثر تعقيدا، لأنه يتعامل أيضا مع الإستثنائى الذى يمس حياة الملايين، بنفس الطريقة المحايدة، التى يتعامل بها مع العادى.رواية 67

من العادى مثلا أن تصف يوما فى حياة رجل بتفاصيل روتينه اليومى: يستيقظ، يذهب الى الحمام، يأخذ دشا، يحلق ذقنه، يتناول إفطاره، يشرب سيجارته، يرتدى ملابسه، يركب المترو، يصعد سلم الجريدة التى يعمل فيها، يجلس الى مكتبه، يقرأ الصحيفة اليومية.. الخ، ولكن أن تضفر وسط هذه التفصيلات ، وبنفس الطريقة البسيطة التقريرية، انعكاس الغارات الجوية، وأصداء إنهيار الجيش فى عام 1967 على الناس، فأنت فى الواقع تصنع صدمة مضاعفة ومرعبة، وتكاد توحى بأن السارد الفرد المهزوم والمراقب، يبدو كتنويعة متنبئة بوطن مهزوم قادم. وحتى بعد وقوع الكارثة، فإن بطلنا المهووس بتسجيل أدق التفاصيل عن العادى والإستثنائى فى وحدة واحدة، يعود  من جديد الى روتينه اليومى، والى نفس علاقته دون تغيير.

ربما لا يكون هذا بالضبط ما ورد على خاطر صنع الله إبراهيم  عندما قرر أن يكون اختياره الفنى هو تلك  اللغة التقريرية المختزلة والمكثفة والمحايدة، وكأن السارد يحكى بلسان المتكلم عن أشخاص لايعرفهم ، بمن فيهم نفسه أيضا، ولكن هذا الإختيار الفنى أصبح له تأثير مروّع حقا، عندما تجاورت فيه محنة سارد مأزوم، مع محنة وطن منتكس. بدا لى حياد السارد كما لو كان حيلة فنية تستهدف ( ولو لا شعوريا) استفزاز القارىء، ودفعه حرفيا فى الإتجاه المعاكس، تماما كما تسمع منفعلا بيانا رسميا مختزلا عن حادثة مروعة أنت كنت أحد شهودها، وتعرف جيدا تفاصيلها، ومدى خطورتها. طريقة السرد تلك حققت فى رأيى ما هو أبعد من توثيق الحالة والحيرة والتخبط الذى عاشه السارد ، و كذلك الذين يحكى عنهم. لقد حققت الصدمة الضرورية لكى نتأمل جوهر ما حدث سواء على مستوى الفرد أو المجموع أو الوطن كله. أجزم أن مضمون التجربة هو الذى فرض شكل التعبير عنها، ربما حتى بأكثر وأعمق من التأثر بتجارب عالمية روائية، أو حتى بعيدا عن حلم جيل جديد ( كان صنع الله أحد أبرز ممثليه)  أن يكون له صوته الخاص والمختلف عن أصوات كبيرة سابقة. حساسية التجربة وعمقها ( عمل سياسى، سجن، خروج واكتشاف، هزيمة مروعة، سفر واكتشاف، تحول سياسى كامل فى عهد السادات) هى التى فرضت طريقة التعبير عنها. أصبح هاجس التوثيق الروائى الذى يحضر فيه الواقع والوقائع مهيمنا ومسيطرا، وتنوعت طرائق هذا التوثيق لتسوعب التغيرات الهائلة. ورغم حيادية شكلية مقصودة فى السرد، فإنك من المستحيل أن تصف السارد فى أعمال صنع الله بأنه غير مبال، بل الأصح أن نقول أن اهتمامه بما يحدث مبالغ فيه ومتضخم، وأن لديه هاجسا لا يمكن السيطرة عليه، لتسجيل أدق تفاصيل الصورة، سواء على مستوى بطله الفرد، أو على مستوى التغيرات التى تحدث حوله. إنه أشبه بفنان تأثيرى يخشى أن تفوته لمسة واحدة لأثر انعكاس النور على الأشياء، فيقضى يومه كله فى التسجيل والرصد، ولا يقنع إلا بالتقاط أدق التأثيرات، مستخدما باليتة ألوان واسعة.

تنضبط هذه المعادلة (مزج التفاصيل الواقعية بالخيال والمعنى) فى روايات صنع الله إبراهيم الناضجة، ويحدث الخلل أحيانا عندما تستغرق التفاصيل الكاتب، نكون عندها أقرب الى فكرة ( التفاصيل للتفاصيل)، أو كأن تأثير المشهد المرئى ، وانعكاس النور على الأشياء، لم يكن  فقط مجرد محرض على التعبير، ولكنه ابتلع الفنان نفسه، ذاب فى النور، فافتقدت اللوحة وحدتها وتماسكها. رواية “67” فى رأيى من أعمال صنع الله إبراهيم الناضجة، رغم أنها عمل مبكر، ورغم أنها حافلة بالتفاصيل الصغيرة، إلا أنها كانت ضرورية ومحورية فى رسم لوحة المأساة، وفى ربط أزمة الوطن بأزمة الفرد، وفى نقل حالة من بلادة وآلية الحياة قبل وبعد الهزيمة. أجد فى رواية “67” كل مظاهر الحياة دون جوهرها: طعام بدون تذوق، وجنس بدون لذة، وحركة فى الشوارع والمكاتب، ولكن بدون نتيجة أو هدف، وثرثرة ولقاءات بدون علاقات إجتماعية حقيقية. إنها حرفيا حياة منزوعة الروح، لم يكن من الوارد التعبير عن هذا المعنى دون  اللجوء الى هذا الشكل، بل إن صنع الله لو أغفل كل أسماء الشخصيات، مكتفيا بصفاتهم الشكلية، لما أحدث ذلك أى فارق، تماما مثل تجهيل اسم السارد، الذى يمكن أن نصفه بأنه رجل لا يشعر بطعم الحياة، يحكى لنا على أشخاص يعيشون بطريقة روتينية يومية، تفاجئهم كارثة الهزيمة، ثم يعودون الى نفس الساقية التى يدورون فيها.

عندما تنزع الروح والطعم، يصبح من السهل أن تتحدث عن الإستثنائى ( هزيمة مروعة/ غارات فى العمق/ قتلى وجرحى/ السارد يقيم علاقة جنسية مع زوجة شقيقه) باعتباره عاديا. أختلف الى حد ما مع توصيف السارد بأنه مهووس جنسيا، صحيح أن لقاءاته الحميمة مع زوجة أخيه تحتل مساحة معتبرة من الرواية، وصحيح أنه يتحرش براكبات الباصات والمترو، وصحيح أنه يحاول أن يقيم علاقة جنسية مع شابة تدعى عفاف، إلا أن حركته فى هذا الإتجاه، لا تختلف عن حركته فى اتجاه تدخين سيجارة، أو تناول كوب من الشاى، أو شرب زجاجة من البيرة. كل لقاءاته الجنسية تقريبا مجرد تعبير حركى روتينى وآلى أحيانا، وهى لذلك معرضة للنجاح أو الفشل وفقا للظروف والأحوال، فيها الكثير من فكرة التعود وليس الهوس، ولذلك يعود سريعا الى زوجة أخيه، بعد أن اتخذ قرارا بالإبتعاد عنها، وتعود هى إليه فورا، دون أن يتكلما عن خلاف سابق، وكأن العادة أصبحت أقوى من أى قرار، وهو أمر لا يمكن تفهمه إلا  فى إطار غياب الروح والمعنى.

يبدو الجنس فى رواية “67” تعبيرا عن حالة توتر وقلق داخلى لا يمكن السيطرة عليه، قلق عام وقلق خاص معا. الرواية ترصد فى وقت مبكر تحرشات وسائل النقل العام فى هذا الإطار الصحيح، بل وترصد ما يشبه التواطؤ بين الركاب أحيانا، وكأن طاقة التوتر المكبوتة، لا يمكنها الخروج إلا فى  شكل طاقة تحرش، بدعم من غريزة لا يستطيع الشاب إشباعها، الجنس فى الرواية ليس فائض فحولة، ولكنه فائض قلق، وهو لا يسفر عن لذة حقيقية، وإنما ينتهى الى تجدد التوتر، مما يستلزم بحثا جديدا عن الجنس، وهكذا دواليك.  كل شخصيات الرواية تراجع لديها الهم العام (بافتراض وجوده لديهم من الأساس) لتنكفىء على اهتمامها الخاص جدا: هذه تبحث عن عريس وريجيم، وهذا يتمنى الزواج قبل أن ينتهى العمر، وذلك يملأ شرائط بصوته يعبر فيها عن نفسه، وهذا صديق هزته الصدمة فدخل مستشفى الأمراض العصبية، وزوجة الأخ تقول  ساخرة إن لديها زوجا وعشيقا وابنة ولا تنقصها سوى السيارة، وهذا صديق آخر يطارد السائحات الجميلات من أجل لحظات فى الفراش،  وذاك يريد ترقية فى الجريدة التى يعمل فيها . هناك علاقات طوال الوقت، ولكنها جوفاء، وخالية من طعم الحياة الحقيقية، وهناك حركة ولكن حول الذات، ولدينا حوارات ولكنها مبتورة، وكل لقاء لا يأخذ  من  اهتمام السارد سوى دقائق قليلة، ثم تذهب كل شخصية الى عالمها الداخلى، وكأن البشر جزر منعزلة، رغم أنها متجاورة، بل ومتلاصقة أحيانا.

تسجيل التفاصيل وتكدسها ليس شكلا مجانيا لنقل المعنى، ولكنه المعنى نفسه، وكأن صنع الله يقول : دعونى أقدم لكم صورتنا  كمجتمع تتكدس فيه الأفعال دون أن يفعل شيئا، وتتوالى فيه الحركات دون أن يتحرك شىء. نعرف أن السارد كتب أشياء فى كراسته التى ترافقه من شقة أخيه الى شقة صديقه رمزى، ولكننا لن نعرف أبدا ما الذى كتبه بالضبط، ونعرف أن أحد أصدقاء السارد قد ملأ شرائط كاسيت بالكلام، دون أن نعرف بالضبط ما قال، وما باح به لجهاز التسجيل. هذا الإنتزاع المقصود للمعنى يصنع تأثيرا مروعا، يلامس حدود العبث، وكأننا نتفرج على فيلم تتوالى فيه المشاهد، ويتحرك فيه الممثلون، نعرف فقط أنهم مأزومون، ولكن أحدا لا يتوقف ليغير، أو حتى ليتأمل، ووسط هذه الحركة المتواصلة، يظل المعنى  شحيحا ومرتبطا فى الغالب بنماذج عابرة، مثل الصديق الذى قتل فى السجن، والذى يستحق مقبرة، ومثل الأم التى لا تعرف أن ابنها قتل فى السجن، وتنتظر أن يزورها، ومثل المناضل الأشيب العابر والسجين السياسى السابق، الذى يذوب فى مظاهرات رفض التنحى، هذه الومضات القليلة، تشير من بعيد الى أساس البلاء، وسبب الكارثة.

وإذ تبدأ الرواية ببهجة جماعية مصطنعة فى ليلة عيد رأس السنة، وتنتهى بوداع مصطنع من السارد لعشيقته ( زوجة شقيقه) بعد لقاء حميم، وتأمله لحانوت أشياء قديمة واثرية خال من الباعة والزبائن،  وإذ لا تزيد إجابة السارد عن كلمتين هما :” لا أعرف” , وإذ تتجاور فى اللوحة العريضة العجوز ذات الأصباغ مع البائع ذى الوجه الباكى، فإن أثر التفاصيل ( عن العادى والإستثنائى معا) يحفر عميقا فى الذاكرة، لأنه يعلن بوضوح أنها حياة خالية من الحياة، وأنه من المستحيل أن تصنع وطنا منتصرا ، من خلال أفراد مهزومين.

مقالات من نفس القسم