الخالِدُ الثاني

آلان واتس
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

آلان واتس*

ت: محمد عبد النبي

كان يا ما كان، كان هناك رجل عاشَ كما يعيش كل إنسانٍ آخَر. كان له زوجة وثلاثة أولاد ودُكان في شارع العصافير السعيدة* حيث يبيع الكعك والخضروات والمخللات السُكّرية*. كان يصحو وقتَ الفَجْر وينام مِن المَغرب؛ يأكل الأرز ثلاث مرات يوميًا؛ يدخن الغَليون مرتين كل ساعة؛ يثرثر مع جيرانه حول أمور البيع والشراء؛ ينكش أسنانه بعد الأكل ويجعل زوجته تهرش له ظهره في حَرّ الظهيرة. في الربيع يرقبُ العُشبَ الغضّ وهو يبزغ مِن بين الأحجار؛ وفي الصيف يرفع عينه نحو السُحب الكسولة؛ وفي الخريف يتابع أوراق الشجر المتراقصة في الريح؛ وفي الشتاء يصحو ليرى آثار أقدام الطير على الثلوج. وفي جميع المواسم، وبين الثرثرة وتدخين الغليون وبيع الكعك، كان يقزقز اللبَّ الأبيض*، ويتسلّي بجَدْل خيط الدوبارة على أصابع قدميه.

          وفي يوم من الأيام، عندما ذهب ليحرقَ بعض البخور في معبد التنانين الأليفة*، اقتربَ منه صاحبه الكاهن وهو يقول له: “العُمر يتقدّم بك وابنك الكبير في سِن مناسب ليرعى دكّانك. لن يكون من اللائق لرجلٍ مثلكَ أن يقضي بقية أيامه في أمورٍ فارغة، وفي الآخِر تنزل للقبر عديمَ القيمة والشأن مثل نفاية قديمة تُرمَى في النهر.”

أجابَه بائعُ الكعك: “ولماذا قد أشكو؟ أليس هذا نصيب كل إنسان؟”

فقال الكاهن: “معظم الناس مثل الخُضار في السوق. أمَّا لو أنكَ مستعد لتحمّل المشاق تستطيع أن تجدَ لنفسك مكانًا بين الخالدين.”

سأله بائع الكعك: “ومَن هُم الخالدون؟”

“هُم مَن لا يعتمدون على قواهم للبقاء أحياءً. الإنسان مخلوق ضئيل وحياته مثل نُدفة الثلج. لكنَّ الريح تهب وتهب إلى الأبد، والشمس والقمر كلٌ يدور في فلكه إلى الأبد، والأنهار تتدفق مِن بداية الزمان. الخالدون هُم مَن تعلّموا أسرار تلك الأشياء؛ وبدلًا من الاعتماد على قواهم الخاصة يُسلمُون أنفسهم فيحفظهم ويرشدهم مَن يحفظ الريح والشمس والقمر والأنهار ويرشدها.”

“لكن كيف للمرء أن يصبح مِن الخالدين؟”

فقال الكاهن: “سيكون عليكَ أن تجدَ خالدًا لتتعلّم على يديه، أنا لستُ حكيمًا بما يكفي لأرشدك.”

قال بائع الكعك: “إذًا، لا بدَّ أن أجدَ واحدًا. لكنّ العالَم ممتلئ بناس كثيرين جدًا، كيف عساي أن أميّز خالدًا من بينهم؟”

أجابه الكاهن: “لن تكون مهمة صعبة، فقد سمعنا أنَّ أنفاسهم تنظّمها الرياح، وأنَّ نور عينهم اليمنى يأتي من الشمس ونور عينهم اليسرى يأتي من القمر، وأنَّ صياحهم يسانده الرعد، وهمساتهم غمغمات الموج، وضحكاتهم خرير ينابيع الجبال. كما سمعنا أنَّ الأرض تحفظ لحمهم وأنَّ عظامهم من الصخر ونخاع عظامهم من الأمطار. أمَّا خواطرهم وأمزجتهم فيوجهها دوران الفصول والعناصر، وبما أنَّ مَن يُحرك وظائف أبدانهم هي كل تلك الأشياء الجبّارة المهولة فقد قيلَ أنهم أحرار مِن جميع القيود والحدود المعتادة وأنهم أشد بأسًا من الأرباب.”

قال بائع الكعك متأملًا: “ما أسهل أن أميز مخلوقًا بهذه الغرابة”، وعادَ إلى بيته في الحال، ورتّب جميع أموره، وأمرَ ابنه الكبير بأن يرعى الدكّان، وغادرَ المدينة في المساء نفسه ومضى في رحلته للبحث عن خالد. بعد أسابيع كثيرة سعيًا على الطريق بلغَ كوخًا فقيرًا يسكنه شخصٌ ذو هيئة حازمة صارمة، وبلغ من الكِبر عتيًا فبدت له سِنّه مائتي سنة على الأقل. تمس أطراف لحيته البيضاء ظاهر حذائه ويلتمع رأسه مثل مرفق معطف رث. وإذ رأى بائعُ الكعك مظهره الجليل المهيب، يحيط به هذا العدد الهائل من مُجلّدات النصوص العتيقة، اقتربَ منه في الحال وتوسّل إليه أن يتخذه مُريدًا ويرشده، معتقدًا أنه لا بدّ أن يكون أحد الخالدين، فلم يسبق له أن رأى إنسانًا أكبر منه سنًا. فقالَ له الموقّر: “لقد مضى زمنٌ طويل منذ أن سُئلتُ النصح والإرشاد حول أي شيء. فهذا زمانُ الانحلال، وإتقان مهارة الهيمنة على الحياة ليس في متناول مَن يخفق في مراقبة الفرائض الثمانية والأربعين، كما يخفق في اجتناب الرذائل الواحدة والتسعين. اجلس، وسوف أعلّمكَ كلمات الحكماء القدامى.” ومِن ثَمّ شرعَ يقرأ مِن النصوص العتيقة، وجلسَ بائع الكعك واستمع حتى غابت الشمس. وفي اليوم التالي قرأ المزيد، ومِن جديد في اليوم التالي ثم في اليوم التالي، وعلى هذا المنوال، وتوالت الأيام حتى كاد بائع الكعك أن ينسى عددها ويفقد إحساسه بالزمن. وكان يتعلّم ويمارس ضبطَ النَفس على سبيل الأعمال الفاضلة الثمانية، والأفكار الحميدة التسع والعشرين، وطقوس الشعائر الثمانية، والعلامات الاثنين والأربعين للنفس السامية، والأعمال السبعة والثلاثين لبر الوالدين والكفّارات الأربعمائة وثلاثة للأرواح القاسية. وطوال كل ذلك الوقت، زادَ وَرعُ بائعِ الكعك وحَكمَ مسلكه العقلُ السامي، واعتقدَ أنه يسعى حثيثا على درب الخلود. لكنه ذات يوم تذكر فجأة أنه ظلَّ مع العالِم الموقّر نحو عشرين سنة؛ وأنَّ أيام عمره آخذة في الانكماش، وحتى الآن لم يبلغ علما بأسرار الشمس والقمر والأنهار والعناصر. عندئذٍ ملأه الغيظ وفي الليل ذهبَ وسارَ على الطريق من جديد.

بعد بضعة أسابيع مِن التجوال في الجبال بلغَ كهفًا يجلسُ على مدخله كائنٌ غريب. كانت أطرافه مثل جذعٍ مغضّن لشجرة صنوبر، وشعره مثل خيوط دخان تنجرف مع الريح وعيناه محدقتين ومتقدتين مثل عيني أفعى. وفي الحال تأثر بائع الكعك كما هو مُنتظَر، ومرة أخرى تضرّع ملتمسًا الإرشاد.

قال هذا الشخص: “الخالدون، أنفاسهم الرياح، ولكي تتعلّم هذا عليك أن تتقن فن توسيع رئتيك. ولكن هذا فن لا يمكن أن يتعلمه شخص مثلك يقزقز اللب الأبيض ويدخّن الغليون مرتين في الساعة ويأكل ثلاث وجبات كل يوم. إن كنتَ تريد أن تكون أنفاسك هي الرياح فعليك ألَّا تأكل أكثر مِن حبّة أرز واحدة في اليوم وألّا تشرب إلا قدحًا واحدًا من الماء. عليك أن تنظف قصبتك الهوائية من الدخان، وتتعلم ألا تتنفس سوى مرتين يوميا. عندئذ فقط ستكون رئتاك قادرة على احتواء الرياح.”

وهكذا جلس بائع الكعك عند فم الكهف، ولم يأكل إلا حبة أرز واحدة ولم يشرب إلا قدحا واحدا من الماء كل يوم. وتحت توجيهات الحكيم استطاع أن يتحكّم في سرعة أنفاسه لتصير أقل فأقل حتى أحس بعينيه ستخرجان من محجريهما وأن طبلتي أذنيه يزعج طنينهما كلَّ طيور الغابة. لكنه ثابر على التدريب سنين عديدة إلى أن استطاع بالفعل ألّا يتنفس سوى مرتين في اليوم، وفي نهاية هذه الفترة رأى أنَّ جسمه أصبح عظما يغطيه الجِلد كما تغطي خيوط العنكبوت فروع شجيرة، فاتخذ مسلكًا ينم عن عدم انضباط بدرجةٍ تفوق كل حد إذ فرَّ هاربًا من الكوخ.

لعدة أشهر أخرى ظلَّ يبحث عن معلّم، وعندما لم يجد أي معلم بدأ يسأل نفسه لعله تهاون في المثابرة والانضباط مع معلمه، لذلك شرعَ يعود أدراجه نحو الجبال. وفي الطريق صادفَ أحد التجّار الطوافين، على كتفه عصا متينة علق في طرفها صُرّة ممتلئة بتشكيلة من القدور والخرز والأمشاط والدُمى ولوازم المطبخ وأدوات الكتابة والبذور المجففة والمقصات وعيدان البخور. رافقَ كلٌ منهما الآخَر لفترة، وهما يتحادثان حول مسائل تافهة مِن قبيل أحوال الحصاد، وأفضل طرق إبعاد البراغيث، ولذة سقوط مطر خفيف ناعم، وأنواع الفحم الصالحة لإشعال نار. حكى بائع الكعك للتاجر، متحدثًا بإسهاب، عن رغبته أن يعثر على خالدٍ يمكنه أن يعلّمه ويرشده، وسأله إن كان يعرف أيًا مِن هؤلاء الأشخاص. “خُذ قزقز لبَّ شمّام”، هكذا قال له التاجر وهو يمد يده بحفنة. صاح بائع الكعك: “الحقيقة… يؤسفني ألَا أستطيع ذلك، فإن قزقزة اللب سوف تسلبني قوى الرئتين الواسعتين.” هزّ التاجر كتفيه بلا مبالاة، ولبُرهة واصلا السير في صمتٍ لا يكسره إلَّا صوت قزقزة اللب بين أسنان التاجر – صوتٌ ملأ نَفس بائع الكعك بمشاعر عديدة متنوعة. مِن ناحية بدأ يشعر بدافع في داخله يحرضه على أن يطرح عنه التزامه وانضباطه، وأن يحسَّ مِن جديد بالطرقعة اللذيذة جدًا لبذور الشمّام الجافة بين أسنانه؛ لكنه من ناحية أخرى شعرَ بأن عليه أن يثابر ويتابع بحثه وسعيه، فسألَ التاجرَ عن الخالدين مرة أخرى، قائلًا في نفسه لعلَّ التاجر لم يسمع بالخالدين قبل ذلك قط، غير أنه ربما يمكنه تمييز مثل تلك الكائنات إن أخبره كيف تبدو. فقالَ بائع الكعك: “كنتُ أتساءل، تُرى ألم يحدث في جولاتك أن التقيتَ بأي واحد من مخلوقات ذات هيئة غريبة شديدة البأس، أنفاسها تنظّمها الرياح، نور عينهم اليمنى يأتي من الشمس ونور عينهم اليسرى يأتي من القمر، وصياحهم يسانده الرعد، وهمساتهم غمغمات الموج، وضحكاتهم خرير ينابيع الجبال؛ الأرض تحفظ لحمهم وعظامهم من الصخر ونخاع عظامهم من الأمطار، وخواطرهم وأمزجتهم يوجهها دوران الفصول والعناصر.”

فأجابه التاجر: “إي نعم، لقد رأيتُ كثيرين منهم. بل إنني أعتقد أنَّ اثنين منهم يسيران على هذه الطريق.”

صاحَ بائع الكعك: “ماذا؟! على هذه الطريق؟ فلنسرع إذًا حتَّى نلحق بهما!” وأخذا يحثان الخطى، وعندما حلَّ الليل لم يتوقفا ليستريحا، لأنَّ بائع الكعك أقنع التاجر الطوّاف بأنهما سيدركانهما بالتأكيد إن هما سَريا ليلًا. عند شروق الشمس وجدا أنهما قد بلغا رأس تل، كان يستطيعان من هناك رؤية الطريق أمامهما لأميال عديدة، لكنهما إذ أطلَّا عليه من أعلى لم يريا أحدًا في أي مكان.

قال بائع الكعك: “ربما نكون تجاوزناهما بينما نسير بالليل”

عندئذٍ نظرا خلفهما، ومن جديد تبدت لهما طريق لأميال عديدة خالية من أي إنسان. هُنا أصابَ بائع الكعك غمٌ شديد، فقالَ: “لا بدَّ أنهما اتخذا طريقا جانبيا في الجبال، بما أننا، على ما يبدو، الشخصان الوحيدان على هذا الطريق.”

فقال التاجر: “آخ، نسيتُ أن أخبركَ. عندما يسير اثنان منهما معًا فإنَّ أحدهما يكون على الدوام خفيًا. وأنت كنت تبحث عن اثنين يسافران معًا. فلنجرب النظر من جديد.”

ومرة أخرى أخذ بائع الكعك يحدق إلى الطريق من خلفه وأمامه، لكنه لم ير أي إنسان آخر عدا صاحبه، التاجر الطوّاف.

زفرَ بائع الكعك وقال: “لا، لقد غفلنا عنهما، فأنا لا أرى لا اثنين ولا واحدًا.”

أجابه التاجر: “متأكد؟ أعتقد حقا أنني أستطيع أن أرى واحدًا. انظر مرة أخرى.”

فقال بائع الكعك: “لا، أنا لا أرى أي إنسان آخَر على الطريق، سواكَ أنت.”

عند هذا شرعَ التاجر الطوّاف يضحك، وبينما يضحك بدا صوت ضحكاته لبائع الكعك مثل خرير ينبوع جبليّ.

صاح ملهوفًا: “أنت! أأنتَ من الخالدين؟ لكنك تبدو مثل أي إنسان عادي!”

فقال التاجر ضاحكا: “صحيح، أقر لك بهذا.  لكن افهمني، أنا أتجوّل متنكرًا لأنني إن لم أفعل لركض الجميع خلفي في كل مكان، وسيكون هذا شاقًا ومزعجًا لأبعد حد.”

سأل بائعُ الكعك: “وماذا عن صاحبك الخفي، أهو أيضًا هُنا؟ أهو يبدو مثل الخالدين؟ صِفه لي.”

أجابه التاجر: “بالتأكيد. إنَّ أنفاسه تنظمها الرياح، لكنك لا تلحظ هذا؛ نور عينه اليمنى يأتي من الشمس ونور عينه اليسرى يأتي من القمر، لكنك لا ترى هذا؛ صياحه يسانده الرعد وهمساته غمغمات الموج وضحكاته خرير ينابيع الجبال، لكنك لا تسمع هذا؛ الأرض تحفظ لحمه، عظامه من الصخر ونخاعها من الأمطار، لكنك لا تفهم هذا؛ خواطره وأمزجته يوجهها دوران الفصول والعناصر، لكنك لا تعي ذلك. وبدلًا من الاعتماد على قواه الخاصة يُسلم نفسه ليحفظه ويرشده مَن يحفظ الريح والشمس والقمر والأنهار ويرشدها، لكنك لا تدرك ذلك.”

هتف بائع الكعك: “عجيب جدا وسيكون التطلّع إليه أعجوبة من غير شك. أرجوك أن تطلب منه أن يصبح مرئيًا بحيث يمكنني أن أفهم أسراره.”

فقال التاجر: “من الأفضل أن تطلب منه أنت، لأنك أنت الوحيد القادر على أن تجعله مرئيًا. وهناك حيلة سحرية تستطيع بها أن تجعله يظهر.”

“أخبرني ما هي.”

فقال التاجر: “الحيلة السحرية هي هذه: في الربيع ارقب العُشبَ الغضّ وهو يبزغ من بين الأحجار؛ وفي الصيف ارفع عينك نحو السحب الكسولة؛ وفي الخريف تابع أوراق الشجر المتراقصة في الريح؛ وفي الشتاء اصحَ لترى آثار أقدام الطير على الثلوج. الحيلة هي هذه: أن تصحو وقت الفجر وتنام من المغرب؛ وأن تأكل الأرز ثلاث مرات يوميًا؛ وأن تثرثر مع جيرانك حول البيع والشراء؛ وأن تقزقز لب الشمام وتجدل خيط الدوبارة على أصابع قدميك.”

وهُنا اكتشفَ بائعُ الكعك الخالدَ الثاني.

*************

هوامش:

(1) Alan Watts، آلان واتس: (1915-1973)، فيلسوف وكاتب ومترجم بريطاني، عُرفَ بجهده ومنجزه في حقل تقديم عقائد الشرق الأقصى، مثل البوذية والطاوية وغيرهما، وترجمتها وتفسيرها للجمهور الغربي. القصة المُترجمة من كتاب له ضم مقالات متفرقة وأعمالا مختلفة ونشر بعنوان Become What you Are.

(2) الحروف الغليظة من طرف المترجم بديلًا للحرف الأوّل الكبير في بداية الكلمة في اللغة الإنجليزية الدال على اسم عَلم، وهكذا الأمر في بقية القصة.

(3) Sweet Pickles هو مخلل خِيار، أو ربما خضروات أخرى، يوضَع في محلول ملحي مركز يحتوي على السُكَّر، وهكذا تكون فيه لمسة حلاوة خفيفة.

(4) بذور الشَمَّام المجففة.

(5) هذا اسم معبد خرافي لا وجود له.

مقالات من نفس القسم