غاستون باشلار: اللحظة الشعرية واللحظة الميتافيزيقية*

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 33
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

 ترجمة: سعيد بوخليط

القصيدة ميتافيزيقا لحظية. يلزم قصيدة مقتضبة، تقديم رؤية عن الكون، كنه الروح، ثم الوجود والأشياء، جميعها خلال الآن ذاته. إن اقتفت ببساطة زمن الحياة، فالقصيدة أقل من الحياة؛ ولايمكنها أن تغدو أكثر من الحياة سوى إذا استطاعت تثبيت الحياة، كي تحيا فورا جدلية الأفراح الأحزان.

القصيدة، مبدأ تزامن أساسي ينتصر معها الوجود الأكثر تبعثرا، وتفكُّكا، لحيز وحدته.

بينما، تهيِّئ باقي التجارب الميتافيزيقية الأخرى مقدمات لامتناهية، ترفض القصيدة المقدمات، المبادئ، المناهج، الدلائل. تنبذ الارتياب. تحتاج غالبا إلى نبوءة الصمت. أولا، حينما تطرق كلمات جوفاء، فإنها تخرِس النثر أو الإيقاعات النغمية التي تترك لدى روح القارئ استمرارية الفكر أو الهمس.

بعد الإيقاعات الفارغة، تنتج القصيدة لحظة. هكذا، بفضل تأسيس لحظة متداخلة، وكذا وصلها بتزامن متعدِّد سيقوِّض الشاعر تلك الاستمرارية المألوفة ضمن زمن متسلسل.

إذن، يمكننا تلمُّس بين طيات كل قصيدة حقيقية، عناصر زمن توقَّف، لم يتعقَّب قط القياس، زمن ننعته بالعمودي حتى نميزه عن زمن مشترك، يفرّ أفقيا مع ماء النهر، وكذا الريح العابرة. من هنا ضرورة التعبير الواضح عن التناقض التالي: زمن القافية أفقي، بينما زمن القصيدة عمودي.

تكتفي القافية بهيكلة نغمات متواصلة؛ تنظيم إيقاعات، تدير الاندفاعات والعواطف، لكن غالبا، وياللحسرة بكيفية متأخرة.

حين استساغة نتائج اللحظة الشعرية، تتيح القافية إمكانية تبني النثر، الفكر المعلَّل، غراميات اختُبرت، الحياة المجتمعية، الحياة الجارية، الحياة المنزلقة، خطِّيا، دون توقف. لكن مختلف القواعد العروضية تظل مجرد وسائل عتيقة. يتجه الهدف صوب المنحى العمودي، العمق أو الارتفاع؛ لحظة راسخة يؤكد خلالها انتظام التزامن، امتلاك اللحظة الشعرية لمنظور ميتافيزيقي. لذلك فاللحظة الشعرية بالضرورة مركَّبة: تثير، تبرهن، تستدعي، تواسي، مباغتة ومألوفة.

حتما، اللحظة الشعرية علاقة متناغمة بين متناقضين. تضمر دائما لحظة الشاعر الشغوفة، شيئا من العقل؛ ثم في خضم الرفض المعقل، يكمن دائما شيء من الشغف. تروق للشاعر سلفا تلك التناقضات المتوالية. لكن فيما يتعلق بالانتشاء، الافتتان، يلزم تقليص تلك التناقضات إلى ازدواجية. حينها تنبثق اللحظة الشعرية. اللحظة الشعرية، ضمن حدودها الدنيا، وعي بالازدواجية. غير أنها، أكثر من ذلك، ازدواجية متحمِّسة، فعالة، ديناميكية.

تقتضي اللحظة الشعرية من الكائن أن يثمِّن أو يبخِّس. نتيجة وقعها، يصعد الكائن أو ينحدر، دون إقراره بزمن العالم الذي يحيل الازدواجية على التناقض، ثم يعيد المتزامن إلى المتعاقب.

يمكننا بيسر مقاربة هذه الصلة بين الازدواجية والتناقض، إذا توخينا فعلا التواصل مع الشاعر، عندما يتمثَّل بكل بداهة، خلال الوقت نفسه مصطلحي تناقضاته. لايستدعي الأول الثاني، بل يولدان معا. حينئذ، نعاين اللحظات الشعرية الحقيقية لقصيدة ضمن مختلف المحاور حيث أمكن القلب الإنساني تغيير وجهة تلك التناقضات. حدسيا أكثر، تتبدى الازدواجية المندمجة حقا تبعا لخاصيتها الزمنية: بدل الزمان الذّكَر والجسور الذي ينطلق كي يقوِّض، ثم عوض زمان ناعم، مذعِن، يتحسَّر ويبكي، تظهر لحظة خنثى. فاللغز الشعري أنثوي.

لكن هل لازالت تجسِّد زمانا، تعددية الوقائع تلك العالقة ضمن لحظة واحدة؟ هل يمثِّل زمانا، كل المنظور العمودي الذي يطلُّ على اللحظة الشعرية؟ نعم، مادامت مرتَّبة تراكمات تجليات التزامن. إنها تضفي بُعدا على اللحظة، عندما تمنحها نظاما داخليا. والحال أنَّ الزمان نظام ولا شيء آخر. كل نظام بمثابة زمان. بالتالي، يبلور نظام الازدواجيات خلال اللحظة زمنا.

يكتشف الشاعر هذا الزمان العمودي، حين رفضه الزمن الأفقي، بمعنى صيرورة الآخرين، والحياة ثم العالَم. هكذا، يتشكَّل ترتيب تعاقب التجارب التي يلزمها فكّ قيد الكائن المكَبَّل بزمن أفقي:

* الاعتياد بخصوص عدم إحالة زمنه الخاص على زمن الآخرين، تكسير الإطارات المجتمعية للديمومة؛

*الاعتياد بخصوص عدم إحالة زمنه الخاص على زمن الأشياء، تكسير الإطارات الظاهراتية للديمومة؛

*الاعتياد- تمرين صعب- بخصوص عدم إحالة زمنه الخاص إلى زمن الحياة، عدم معرفة إن كان القلب ينبض، والسعادة تحفِّز، أي تكسير الإطارات الحيوية للديمومة.

إذن، ندرك الإحالة على المتزامن ذاتيا، فقط ضمن نواة الذات نفسها، دون حياة محيطية. فجأة تنمحي كل الأفقية المسطحة. لم يعد يتوالى الزمان تباعا بل ينبثق.

قصد الإمساك أو العثور بالأحرى ثانية على هذه اللحظة الشعرية المترسِّخة، هناك شعراء كما الشأن مع مالارميه، واجهوا بحدَّة مباشرة الزمن العمودي، وقلبوا التركيب، بحيث كبحوا نتائج اللحظة الشعرية أو غيروا سبلها.

تلقي الأوزان الشعرية المعقَّدة بأحجار وسط مجرى نهر، كي ترشّ الأمواج صورا عقيمة، ثم تتهشّم الانعكاسات جراء الارتدادات المائية.

نختبر غالبا عند قراءة مالارميه، انطباع زمن قد تكرَّر حتى يتأتى له استكمال لحظات انقضت. لذلك، نحيا بكيفية متأخرة، لحظات يلزمنا أن نحياها: إحساس أكثر إدهاشا، بحيث لايضمر تحسُّرا، ندما، تأسُّفا، حنينا. لقد تشكَّل ببساطة نتيجة زمن تمَّ الاشتغال عليه، يعلم أحيانا كيفية وضع الصدى قبل الصوت والرفض بين طيَّات البوح.

شعراء آخرون أكثر سعادة، يتناولون طبعا اللحظة الثابتة. يرصد بودلير على منوال الصينيين، الساعة في عيون القطط، ساعة غير حسَّاسة حيث الشغف تامٌّ للغاية ولم يعد يكترث للتحقُّق:”أرى دائما بجلاء ساعة، داخل عيونها البديعة، باستمرار نفسها، ساعة هائلة، جليلة، كبيرة مثل الفضاء، دون تقسيمات للدقائق أو الثواني، ساعة ثابتة لاتكشف عنها ساعة حائطية”(1).

بالنسبة لشعراء أفصحوا عن تلك اللحظة بيسر، فالقصيدة لاتَحْدث، لكتها تتأتى بالترابط، تحبِكُ خيوطها مجموع تشابكات. لايتحقَّق مضمونها الدرامي. ألَمُها وردة هادئة.

خلال منتصف الليل، يحيا الشاعر توازنه وقد توقفت كل أشكال إصغائه لِنَفَسِ الساعات، ثم تخفَّفَ من أوزار شتى وقائع حياة غير مجدية، سيختبر حينها ازدواجية مجردة على مستوى الوجود واللاوجود. يتأمل بكيفية مثلى نوره الخاص في غضون الظلمات.

تتيح العزلة لهذا الشاعر إمكانية فكر منعزل، فكر يحافظ على مساره، يرتقي، يسكن إلى هدوئه بتحمُّس خالص.

يرتفع الزمن العمودي. أيضا، يغدو أحيانا داكنا. بالنسبة لمن يدرك كيفية قراءة قصيدة الغراب، لايدقُّ أبدا منتصف الليل أفقيا. يرنُّ داخل الروح فينحدر ثم ينحدر. نادرة، الليالي التي امتلكتُ خلالها شجاعة الذهاب غاية أبعد مدى، صوب الخطوة الثانية، والجرح الثاني، ثم الذكرى الثانية. هكذا أعود إلى الزمن المسطح؛أتقيَّد، ثم ثانية فأعود إلى حياة بجوار الأحياء. كي تمضي حياتكَ وتعيش، يلزمكَ خيانة أشباح.

تتنضَّد بين طيَّات الزمان العمودي- ونحن ننحدر- أسوأ الأحزان، أحزان دون سببية زمنية، أحزان حادَّة تخترق القلب من أجل لاشيء، دون ضعف يذكر.

تتوطَّد ضمن الزمن العمودي- بالصعود- مواساة دون أمل، ثم هذا العزاء الغريب الأصلي، دون حافظٍ.

إجمالا، يسكن اللحظة الشعرية، كل مايفصلنا عن السبب والجزاء، جلّ ما ينكر التاريخ الحميمي والرغبة نفسها، ثم يخفِّض قيمة الماضي والمستقبل في الوقت ذاته.

هل نتوخى دراسة شذرة صغيرة لزمن شعري عمودي؟لنستحضر اللحظة الشعرية عن التحسُّر المبتسم، خلال ذات لحظة إغفاءة الليل وتسيُّد الظلمات، حيث الساعات بالكاد تتنفَّس، والعزلة وحدها أصلا بمثابة تأنيب للضمير! تتلامس تقريبا، أقطاب ثنائيات التحسُّر المبتسم. أبسط تأرجح يستبدل أحدهما مكان الثاني.

التحسُّر المبتسم، أكثر الازدواجيات حسية بخصوص فؤاد مرهف العواطف. والحال، يمضي تطوره بكل بداهة تبعا لزمن عمودي. بما أنَّ تبلور سواء الابتسام أو التحسُّر، لايتحقَّق قَبْلِيا. إحساس هنا، تميزه قابلية الانعكاس، أو قصد التعبير بشكل أفضل، اكتست انعكاسية الكائن وفق نفس السياق منحى عاطفيا: يتحسَّر الابتسام ويبتسم التحسُّر، التحسُّر يواسي.

لاتشكِّل الأزمنة المنكشفة تباعا، مصدرا لبعضها البعض، مما يقدم دليلا على أنها لم تنكشف جيدا عبر الزمن المتعاقب، الزمن الأفقي. مع ذلك، هناك صيرورة بالنسبة للواحد أو الثاني، نختبرها فقط عموديا، بالصعود حسب انطباع مفاده ارتقاء الروح بالتالي اعتذار الشَّبح، نتيجة تخفيف عبء التحسُّر. حقا، يزهر الشقاء. هكذا، يتحسَّس ميتافيزيقي مرهف الحس بين ثنايا تحسُّر مبتسم، جمالية صريحة للشقاء. يستوعب بناء على سببية صريحة، قيمة التجرُّد حيث تبلور اللحظة الشعرية نفسها. دليل جديد على أنَّ العِلَّة الصريحة تجري بين طيات اللحظة، وفق معنى زمن عمودي، بينما تمضي السببية الناجعة أفقيا داخل الحياة والأشياء، من خلال تجميع لحظات ذات كثافة متعددة.

طبيعيا، بوسعنا في إطار منظور اللحظة، تجريب الثنائيات وفق أبعد مدى:”كل طفل، يكتنف قلبه إحساس شعوريين متعارضين: فظاعة الحياة وكذا نشوة الحياة”(2) . تؤدي لحظات تمثُّل هاته المشاعر مجتمعة إلى شلِّ الزمان، مادامت تُختبر دفعة واحدة موصولة عبر اهتمام مبهور بالحياة. إنها تهتدي بالكائن خارج الديمومة المألوفة.

لايمكن وصف ازدواجية حسب أزمنة متعاقبة، كأنها مجرد حصيلة عادية لأفراح وأحزان عابرة. تناقضات أيضا حادة، أساسية تنمُّ عن ميتافيزيقا مباشرة. نعيش تقلُّبها ضمن لحظة واحدة، من خلال اندفاعات منتشية وكذا مزالق ربما تتعارض مع الوقائع: يتأتى لاشمئزاز نحو الحياة السيطرة علينا في خضم الاستمتاع، كما الشأن حتميا مع الشعور بالزَّهو إبّان الشقاء.

لاتكشف تلك الأمزجة الدورية المتحقِّقة داخل ديمومة معتادة، وهي تتعقَّب القمر وكذا الحالات المتباينة، سوى عن محاكاة ساخرة للثنائية الجوهرية. وحدها مقاربة نفسية عميقة للحظة، بوسعها أن تقدم لنا خطاطات أساسية قصد استيعاب الدراما الشعرية الجوهرية.

من المدهش أيضا بأنَّ أحد الشعراء الذي تناول بزخم لحظات الكائن المفصلية، تشير إلى شاعر التطابقات. التماثل البودليري ليس مثلما، يُستعرض غالبا، باعتباره مجرد انتقال يصيغ رمز تناظرات ملموسة. بل يعكس حصيلة وجود ملموس خلال لحظة واحدة. غير أنَّ معطيات التزامن الحسية التي تحشد الروائح العطِرة، والألوان ثم الأصوات، تتيح فقط فرصة أمام انطلاقة أشكال تزامن أخرى أكثر بعدا وعمقا.

تنطوي هاتان الوحدتان أقصد الليل والضياء، على سرمدية ثنائية الخير والشرِّ. رغم ذلك، لاينبغي لنا استلهام رؤية مكانية، من ”الهائل”الذي يضمره سواء الليل أو الضياء. نستدعي الليل والضياء من أجل وحدتهما، وليس امتدادهما، وكذا لانهائيتهما. ليس الليل فضاء، إنه توعُّد للسرمدية.

الليل والضياء لحظات ثابتة، مظلمة أو مضيئة، كئيبة أو مرحة، مظلمة و مضيئة، كئيبة و مرحة. لن يتجلى قط اكتمال اللحظة الشعرية، سوى في مقطع شعري يمكِّننا في الآن ذاته من تحقيق التئام بين رحابة النهار والليل. لم نشعر تماما بمدى فيزيائية ازدواجية الأحاسيس، وكذا مانوية المبادئ.

عندما نتأمل بحسب هذه الوجهة، ندرك فجأة الخلاصة التالية: فورية كل منظومة قيم. بينما تؤسس ضرورتها القطعية للديمومة. لاتحتفظ بأيِّ سبب ملموس، أو تترصد نتيجة معينة. تأخذ وجهة مستقيمة، عموديا، ضمن زمن الأشكال والأشخاص.

إذن، الشاعر مرشد طبيعي للميتافيزيقي يتوخى استيعاب مختلف قوى الروابط اللحظية، الشغف بالتضحية، دون الانجرار خلف تقسيم الثنائية الفلسفية للذات والموضوع، وكذا الأنانية والواجب.

ينعش الشاعر جدلية أكثر حذقا. تكشف في الوقت نفسه، خلال ذات اللحظة، التلاحم بين الشكل والشخص. وضع يؤكد بأنَّ الشكل شخص والشخص شكل. هكذا، تصير القصيدة لحظة عِلَّة صريحة، وتجليا لقوة ذاتية. غير مكترثة بما يكسِّر ويذيب بين ثنايا ديمومة مبعثرة للأصداء.

تتوخى القصيدة اللحظة، ولاتحتاج سوى لهذه اللحظة. تبدع اللحظة. خارج إطار اللحظة، يوجد فقط النثر والغناء.

تعثر القصيدة على ديناميكيتها النوعية، عبر زمن عمودي للحظة جامدة. هناك ديناميكية أصيلة بخصوص قصيدة محضة، تتطور عموديا ضمن زمن الأشكال والأشخاص.

……………..

هامش المقالة:

المصدر:

Gaston Bachelard:Le droit de rêver(1970). P. U . F ;PP. 234-242.

(1) بودلير: قصائد نثرية صغيرة.

(2) بودلير: قلبي العاري.

 

مقالات من نفس القسم