غاستون باشلار: من عامل بسيط إلى عالِمٍ كبير

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 33
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

ترجمة: سعيد بوخليط

ولد غاستون باشلار يوم27 يونيو1848، في منطقة بار- سور – أوب(Bar-Sur-Aube)، إقليم شامبانيا، وسط عائلة من الاسكافيين.

اتسم مساره بطابع استثنائي، بحيث انتقل من وظيفة متواضعة كمستخدم رهن إشارة البريد، صوب أرقى مواقع الأستاذية المرموقة لفلسفة العلوم داخل جامعة السوربون.

قضى طفولته في “مقاطعة شامبانيا الجبلية”، وتابع دراساته الثانوية في مؤسسة (بار-سور-أوب)، قبل أن يصبح معيدا في ثانوية سيزان بين سنتي 1902- 1903، حيث اختبر أولى تجاربه البيداغوجية.

انضمّ سنة 1903، إلى إدارة رجال البريد في منطقة روميرمون (إقليم فوج)، كموظف مؤقت، ويستعيد باشلار هذه الفترة البعيدة حيث انصبت مهمته على وزن الرسائل”بعناية إدارية”.

قضى فترة سنة في الخدمة العسكرية كخيَّال للتلغراف داخل الفيلق الثاني عشر لفرسان مدينة بون- أموسون، بعدها عيِّن سنة 1907 في مكتب بريد العاصمة.

باشر دراساته العليا وحصل سنة 1912 على شهادة إجازة في الرياضيات تضمّنت أيضا خلال تلك الحقبة شهادة في الفيزياء العامة.

انتمى باشلار إلى هيئة موظفي البريد والتلغراف في باريس، لكن ينتابه هاجس الاستقالة من وظيفته لفترة قصد الانكباب على تحضير مباراة الطلبة المهندسين في مجال التلغراف، غير أن ترشحه أخفق.

حين عودته إلى منطقة بار- سور- أوب، تزوَّج يوم 8 يوليوز 1914 من أستاذة شابة تدعى جين روسي. لكن اندلاع الحرب الكونية الأولى، حرمه مبكرا من الاستمتاع بالدفء العالي:هكذا تعبَّأ يوم 2غشت. 1914 سياق أرغمه على قضاء سنوات عديدة في جوف الخنادق، فحظي بصليب الحرب تكريما له على خدماته نحو الوطن، وتنويها بنظام فرقته.

أنهى مهمته العسكرية، يوم 16مارس 1919، ثم تحوَّل إلى التدريس كأستاذ للفيزياء- الكيميائية في ثانوية بار- سور- أوب، شَغَل هذه المهمة غاية 1930 . أنجب ابنته سوزان شهر أكتوبر سنة 1919، شهور قليلة قبل وفاة زوجته شهر يونيو. 1920

حصل باشلار على إجازة في الفلسفة، بعد سنة من الدراسة. ثم شهادة التبريز سنة 1922، وكذا تدريسه في نفس الوقت الفلسفة والعلوم التجريبية، بهذا الخصوص رسم في نفوس طلابه ذكرى خالدة، تشهد على كرمه وإنسانيته.

استطاع سنة 1927، نيل درجة الدكتوراه في الآداب من جامعة السوربون، بأطروحتين تحت إشراف ليون برانشفيك و أبيل ري.

مقابل أنطولوجيا الثابت وكذا واقعية المعطى، دافع باشلار بين ثنايا فصول أطروحته الأساسية:”دراسة المعرفة التقريبية”، عن ”لااكتمال جوهري للمعرفة”، وديناميكيتها المبدئية، ثم تطابق”التصحيح المستمر للفكر أمام الواقع”مع”سمة الحقيقة الديناميكية والعضوية”.

سنة 1927، صار أستاذا محاضرا في كلية الآداب بديجون. يقدم دروسا حول تاريخ الفلسفة والعلوم طيلة سنوات 1930 و1940 . حقبة خصبة جدا، بحيث اصدر أعمالا ملهمة على مستوى القطائع التي اقتحمت العلم. هنا تكمن دلالة كتابه”الفكر العلمي الجديد”(1934)، الذي أثار الانتباه نحو تعقُّد بناء المعرفة.

يقترح باشلار”إبستمولوجيا لاديكارتية”، تهتم باكتشاف المعقَّد خلف البسيط، والمركَّب تحت البديهي، وليس العكس. شكَّلت الانقلابات الناجمة عن الهندسات الجديدة وكذا فيزياء ميكانيكا الكمِّ، خلفية لتأملاته، الساعية إلى استخلاص النتائج الفلسفية لتلك المستجدَّات.

لقد طوَّر تأملا ذا خاصية ميتافيزيقية حول الزمان مع كتابه”جدلية الوقت”(1936)، في خضم استمرارية لنفس الأطروحات التي بلورها كتابه الآخر”جدلية اللحظة”(1932).

عرف مسار باشلار منعطفا نتيجة اشتغاله على مؤلفات حاسمة كما الحال بالنسبة ل”تشكُّل الفكر العلمي” و”التحليل النفسي للنار”(1938)، واتخذ منحى جديدا بإصغائه لمحوري العلم والشعر، مع احتمال مجازفة فصل المسار إلى ”رافدين”.

سنة1940، نال استحقاق أستاذ كرسي لتاريخ وفلسفة العلوم في جامعة السوربون، ثم مديرا لمعهد تاريخ العلوم والتقنيات، غاية تقاعده سنة1954 .

انطوى انتقاله إلى حياة المدينة على كثير من التلكؤ، لكن باشلار خلق أجواء الريف وسط العاصمة الفرنسية تحديدا حي شارع موبير. تصوِّره الأسطورة الشعبية طوعا وهو بصدد خوض أحاديث مع أشخاص عابرين أو متشرِّدين إبان ساعات ذهابه إلى السوق، فنستعيد معه فترة سقراط.

سحرت دروسه الطلبة وكذا المهتمين، أيضا أحاديثه الإذاعية فتحت المجال أمام جمهور كبير تطلع نحو اكتشاف صاحب هذا الصوت الأجشّ بلكنته التي تشي بانتمائه إلى منطقة بورغون.

تركز اهتمام باشلار بين سنوات 1942 و 1948، حول الحُلُمية المرتبطة بالعناصر الأربعة، و رمزيتها الطبيعية فيما يتعلق بإبداع الشعراء. ثم، جاء منجز أربعة كتب قصد إتمام العمل الأول المخصَّص لخيال النار. لم يتنازل رغم ذلك عن”النزوع العلمي للروح الإنسانية”. بالتالي، استمر إصداره عدَّة كتب حول فلسفة العلوم بين سنوات 1949و. 1953

بعد تقاعد باشلار، مع استمرار تعلق رغبته بمواصلة الدراسة والتعليم، فقد اتجهت تأملاته نحو”وعي الشاعر المبدع”، من خلال مؤلفاته ”شاعرية المكان”(1957)، و”شاعرية التأمل الشارد”(1960). كتابات توجَّته سنة 1961، بالجائزة الوطنية الكبرى للآداب، عن آخر كتبه”لهيب شمعة”. مقاربة صغيرة لأنطولوجيا العزلة، تمجِّد”طاولة وجود”الفيلسوف المتأمِّل.

نتيجة معاناة جراء مضاعفات نخر وتقرُّح دوالِّي، مع تمسُّكه بحيوية”وعي رجل، بصدد الاشتغال غاية آخر نَفَسٍ”، توفي باشلار يوم 16أكتوبر 1962 في باريس. بعد انقضاء ثلاثة أيام دُفن في مقبرة بزاوية في شامبانيا، بحضور أقربائه، والعديد من المعجبين، التأموا كي يلقوا نظرة الوداع الأخيرة.

*العلم والفلسفة:

ظهر مصطلح إبستمولوجيا في انجلترا خلال القرن التاسع عشر، لكنه اكتسى دلالة حاسمة منذ بداية تداوله داخل فرنسا، بداية القرن العشرين.

استثمر باشلار”التقليد الفرنسي”: اعتبار الابستمولوجيا فلسفة للعلوم تتشكَّل، وليست نظرية عامة للمعرفة أو فلسفة علمية. ينبغي على الفيلسوف الاهتمام بمجال العلم في خضم تبلوره، لأنّ”العلم يخلق فلسفة”، ”وحدها فلسفة متأهِّبة قادرة على مواكبة تحولات المعرفة العلمية الجوهرية”. يتعلق الأمر باقتفاء أثر حركة العلوم المحايثة، ورفض التَّحديد القَبْلي للمبادئ والمنهجيات على ضوء نظام فلسفي.

إذن، يكمن الخطأ عند باشلار في السعي إلى إعطاء الابستمولوجيا وظيفة مؤسَّسة، أو تبرير وكذا وصفة، إزاء العلوم التجريبية. لقد اتبع بهذا الخصوص مسلكا تأمليا، وعثر على مادة ذلك من خلال مستجدات مجلات عصره ومضامين الأبحاث الدقيقة.

يقترح باشلار الاشتغال على معطيات علمية واستخلاص دلالتها. يرصد تطور المعارف الموضوعية، يتحاشي من جهة الإقرار بمبادئ عامة ومطلقة، أو مجرد سلسلة نتائج، لذلك ناهض باستمرار مختلف تجليات فلسفة تراهن على الاختزال لصالح عقلانية منفتحة، ومتعدِّدة.

قصد وصفه العمل الخيالي للعلم، اهتم باشلار بقضايا محدَّدة، وأمثلة معيَّنة، بغاية تحديد وظائف العقل النظري ووقائع تجريبية على مستوى بناء المعرفة.

وضع باشلار لائحة وظائف أمام فلسفة العلوم:

*إدراج الفلسفة ضمن فكر علمي معمَّق؛

*إبراز المساعي التي وفقها ينتزع العالِم ذاته من المعرفة المألوفة كي يؤسِّس موضوعه؛

*التركيز على البعد الإجرائي والأداتي للبحث؛

*إظهار العلم بمثابة ورش جماعي، ضمن سياق كتبه، مجلاته، مؤسساته البحثية والتعليمية؛

*إدراك تخصص البحث.

لانقصد بهذا، عدم ضرورة اهتمام الفلسفة بتلخيص تدفق النشاط العلمي، بل الكشف عن تحولاته المعقدة. يستتبع هذا العمل إعادة تصميم توظيف المقولات الفلسفية. بدل تجريبية تختزل المعرفة إلى سلسلة وقائع، ثم عقلانية تدرج الواقع ضمن مبادئ عامة قبلية، تدعونا الابستمولوجيا الباشلارية كي نتأمل جدليا الحوار بين الفكر والحقيقة، النظرية والتجربة، الاستدلالات والوقائع، الأدوات الصورية والآليات التقنية.

هكذا، توضحت عدّة روابط وفق نموذج”عقلانية تطبيقية”، أزاحت إلى الوراء فلسفات ذات صبغة أحادية(المثالية، الواقعية، الوضعية، إلخ)، قصد تسليط الضوء على نواة العلم المركزية، والتداخل الحتمي بين العقل والتجربة. إنه معنى مفهوم”الظاهراتية التقنية”:لاتستثمر فقط الواقعة العلمية بناء نظريا، لكنها أيضا نتاج مختبر بفضل الأجهزة. الفيزياء المعاصرة”علم التأثيرات”:لاتقبل الذرَّة الملاحظة الطبيعية، بل يتم التفكير فيها رياضيا، انطلاقا من معادلات، ثم ترصد تجريبيا بواسطة الأجهزة.

إن حدَّدت أولوية الفكر الرياضي الموجِّه الابستمولوجي، الذي ينطلق من عقلانية الواقع حسب باشلار، مع ذلك لايمكن فصل المعرفة الموضوعية عن المجهودات التجريبية، التي تعيد إدماج”واقعية تحقَّقنا منها”.

باشلار مهووس بالتعاون بين ملهمي النظريات وكذا التجريبيين داخل الحاضرة العلمية. يبدو واضحا مثال جسيم النيوترينو: جسيم أبدِع سنوات 1930 بهدف إدراك معطيات تجريبية تتعارض مع مبدأ الاحتفاظ بالطاقة، فرضية أدرجتها نظرية رياضية صورية، وضعت ملامح برنامج، لم يُختبر سوى عام 1950 .

*تشكُّل الفكر العلمي:

 بعد فحص باشلار منطق العلم الموضوعي، اتجه إلى الاهتمام بالشروط النفسية للتقدم العلمي، مما قاده نحو إبراز الرواسب النفسية-الوجدانية التي تعيق حتما بناء أو اكتساب المعرفة الموضوعية. ذلك، أنَّ الفكر العلمي، مجال العقل الفاعل، لم يتخلَّص كليا من العمل الخفي للتأثيرات العاطفية.

يؤكد باشلار، ترسُّب العديد من طبقات الدلالات إبان تطور مفهوم علمي. هكذا، مثلا، التعقيد التدريجي لمفهوم الكتلة، في الفيزياء المعاصرة، وارتقاء مستوى تجرده، لم يخفِ دلالاته الموضوعية البالية. فواقعية الكتلة الساذجة، التي قادت نحو تثمين الكمية الضخمة، استمرت بكيفية ما ضمن تطورات العلم، نتيجة إلحاح التأمل الشارد الواقعي”أمام بناء أفكارنا الواضحة”، “يستعيد دائما التأمل الشارد التيمات الأولية، رغم نجاحات الفكر المتطور، وضد مضمون التجارب العلمية ذاتها”.

يوضح باشلار قضية احتفاظ العالِم أو ذاك الفيلسوف الأكثر صرامة، دون انتباه إلى آثار الواقعية الساذجة. يتعلق كل شيء باعتقادات حميمة بين الذات و تاريخها الشخصي، و ينبغي فهم اختصاصات النشاط النفسي الملموس، المتعلق بذوات متجسِّدة ومنطوية على رغبات.

إذن، يبحث باشلار في كيفية تشكُّل الفكر العلمي. من ثمَّة، سعيه بخصوص سرد”العوائق الابستمولوجية”، التي هي خاصة عوائق داخل الذهن أمام التقدم العلمي:”تتبدَّى حميما، بين طيات المعرفة نفسها، تباطؤات واضطرابات وفق ضرورة وظيفية”. بالتالي، لم يتوقف تشديده على ضرورة انتشال النشاط العلمي من تربص التأملات الشاردة البدائية، الاهتمامات العاطفية، الاعتقادات الباطنية التي لم نتفحصها قط، المنطوية عليها تجربتنا المباشرة.

تكمن مرجعية هذه الدراسات، في تصورات باشلار بخصوص ذات عارفة، ترفض توهُّم فكر تأسَّس مبدئيا جيدا ولم يعد يحتاج سوى لوصف معطى أو تنظيمه. لذلك، تبنَّى باشلار أولوية الخطأ بدل تلك الحقيقة الأولى التي يحبها كثيرا فلاسفة التقليد: تنمّ أصلا مرتبة المعطى عن إشكالية، نتيجة الترابط الأولي بين المعطيات المباشرة وكذا منظورات ذاتية خاصة. بالتالي، ضرورة الحاجة إلى”تطهير فكري ووجداني” وكذا ”تحليل نفسي للمعرفة الموضوعية”، باعتبارها عناصر ثقافة علمية أصيلة.

أشار باشلار في نهاية المطاف إلى سمات ثلاث للفكر العلمي الحسي:يتمثل التطهير في القطع مع المعرفة العامة، استيعاب”أصول التربية”للثقافة العلمية، ثم دمج”المعيارية”لمبادئ المعرفة العلمية.

لقد طرح دائما إلى جانب وظيفة الإبداع وظيفة أخرى تضمر الحذر، تتجلى من خلال التجريد، التنشئة الاجتماعية، ومراقبة الذات.

يمكننا، بفضل شكلانية المعادلات، فصل ارتباط الفكر عن التجربة الفورية، ثم تأثير بصمة عاداتنا ومشاعرنا الوجدانية، وكذا التغلب على تدفق أولى مثيرات اندهاشنا أمام العالم.

بهذا الصدد، أوضح باشلار، تبعا لمثال المصباح الكهربائي، إلى أي مدى، يمكننا استيعاب وظيفته المرتكزة على اللااحتراق، في إطار صيغة مجردة(قاعدة من الجبر)ضد الحدس الملموس للإضاءة بالنار(احتراق مادة). تؤجِّج شعلة قنديل وكذا نار الموقد تأملاتنا الشاردة خلال لحظات انعزالنا، وأيضا المصباح بدوره حصيلة العلم والتقنية، نتيجة، حقا، خيبة أمل حيال العالم. علاوة على ذلك، يقتضي باستمرار البعد التجريبي للبحث “الحاضرة العلمية”:ليس المصباح الكهربائي ممكنا سوى بفضل وجود المختبرات، والصناعة. يسترعي انتباه باشلار، البعد الاستطرادي، المنطوي على صلة مجتمعية:”أمكن دائما لكل نظرية موضوعية إخضاع معرفة الموضوع إلى رقابة الآخر”.

مع ذلك، بعيدا عن كل نزعة اجتماعية للمعرفة، يؤكد اختبارنا الفرضيات والقناعات، جراء مواجهة الآخرين والنقاش النقدي:”تتجلى ضرورة التحليل النفسي، إن تجاوزت بين طيات المعرفة، حصيلة القناعات الشخصية خلاصة مابوسعنا توضيحه، تعليمه، وكذا إثباته. ينبغي على التحليل النفسي لرجل العلم، النزوع بوضوح صوب تحليل نفسي معياري؛ورفضه شخصنة معرفته؛ في المقابل، يلزمه السعي نحو إضفاء طابع اجتماعي على قناعاته”.

يستدعي ذلك، استبدال كبرياء رؤيته الشخصية والفكر الأصلي، بمعرفة أخرى غير شخصية تتقاسمها كل الهيئة العلمية. هكذا، يصبح الكوجيطو”كوجيطاموس”(Cogitamus)، توافقا استدلاليا والتزاما مشتركا بين العقول.

نهتدي إذن صوب”الرقابة الفكرية على الذات”لتصور باشلار في كتابه العقلانية التطبيقية، وقد أضحت ممنهجة في الفكر العلمي، ثم تمرين السخرية مثلما تبلور تصميمه ضمن صفحات عمله الآخر التحليل النفسي للنار: ”بعيدا عن الاندهاش، يجب على الفكر الموضوعي ممارسة السخرية”. يتعلق الأمر باستيعاب معايير الاختبار النقدي وكذا الفحص المنهجي، اللذين يؤسِّسان الصرامة العلمية، كي تغدو طبيعة ثانية، واستعدادا جديدا.

*استكشاف المتخيَّل:

سعي باشلار قصد استجلاء الدور المشوِّشِ للصور على المعارف، وتأمل العوائق الابستمولوجية، اهتدى به صوب الوعي بالدور الجوهري للمتخيَّل. إذا وجب على رجل العلم، تقويم كل الراسب المتخيَّل، سيقدم له الفيلسوف حيزا غير مسبوق ضمن المجال الشعري- الحُلُمي، ويكشف عن أهميته قصد هيكلة الذاتية وكذا علاقة الإنسان مع العالم.

دون تخلي باشلار، رغم ذلك، عن المقتضيات العقلانية، سينهض منذئذ بعمل مزدوج، أظهره دائما باعتباره إشكاليا سواء لدى شارحيه، وكذا في علاقته بنفسه. لقد أكد اكتشافه المتأخِّر ل:”الوعي الجيد ضمن عمل تناوبي بين الصور والمفاهيم، نمطان من الوعي ذلك المتعلق بواضحة النهار، ثم الذي ينحاز إلى الجانب الليلي للروح”.

هكذا، ضاعف عمل الفيلسوف بخصوص تأمل تطورات العلوم التجريبية، توجُّه ثان انصب على هيرمينوطيقا نتاج الخيال الشعري:”أساسا يكمن تعارض بين محاور القصيدة والعلم. بالتالي، كل مابوسع الفيلسوف توخيه، جعل الشعر والعلم متكاملين، وتوحيدهما كمتعارضين بكيفية جميلة”.

استثمر باشىلار ثانية التمييز الكلاسيكي بين خيال يستنسخ وآخر يبدع. لذلك، فصل بين خيال منحصر ضمن معطيات إدراك حسي، يستعيده في صيغة تصورات إيمائية، ثم خيال قائم بذاته، وليس مجرد حصيلة معطيات تجريبية:”بمجرد اختيار شاعر لموضوعه، تتغير كينونة الأخير لأنه ارتقى صوب الشعري”.

قصد تبيان القيمة الخصبة ل”الخيال المتكلِّم”، ركَّز باشلار على البعد الفعال للتأمل الشارد الشعري، الذي لايكتفي بتقليد الحقيقة، بل ينقل إلى مستوى اللفظ”شذرات الواقع المرئي”، ”ذكريات الواقع المعاش”.

إذا ظهر اقتفاء القصيدة لأثر الواقع، باستعارتها لمادته، فإنها تترجم حقيقة إنسانيا هذا الواقع من خلال القول الشعري.

أمكن باشلار إذن إعلان:”انتصار خيال اللفظ حول الخيال المرئي، أو ببساطة، انتصار الخيال المبدع على الواقع”. لاندرك الأشياء أولا(نراها جيدا)حتى نتمكن من تخيُّلها ثانية(الحلم حقا). يتحدَّد الخيال باعتباره:” مَلَكَة لتغيير معنى الصور التي يقدمها الإدراك، وتحريرنا من الصور الأولى”. يجعلنا الخيال الشعري نتلمّس تجربة جمالية حقيقة، ويفتح حقلا جديدا أمام الوجود.

أبرز باشلار وظيفتين نفسيتين، ضرورتين الواحدة مثل الأخرى بخصوص توازن الذات:”وظيفة الواقع”، ”وظيفة اللاواقع”. بما أنَّ الخيال المبدع تغذِّيه:”حُلُمية الأنماط الأصلية المترسِّخة داخل الفكر الإنساني”، يمكننا الاعتقاد بخضوع الإبداع الشعري لتقييم نوع من الاستقصاء الأركيولوجي وفق اتجاه نزعات بدائية للذات وكذا اندفاعاتها اللاواعية. لكننا نتذكَّر استحضار الشعرية الباشلارية لمنعطفين أساسيين، عبر مدخلي التحليل النفسي عند غوستاف يونغ ثم المنهجية الظاهراتية.

يسعى تركيز باشلار على أنماط الخيال المثالية، العامة و الحسية، قصد فهم القيمة الحاملة لبعض الصور، بغية”العثور داخل الصور على عناصر ميتا- نفسية”. لكن من جهة أخرى”ليس اختزال النفسية إلى دوافعها العميقة من يمنحنا إمكانية تفسير تطورها بين طيات صور متعددة، مفرطة، متجدّدة دائما”.

تقتضي دراسة الصورة الأدبية، تناول وجودها ضمن خصوصيته. لذلك يقترح باشلار تناول ماتكشف عنه الصورة، وبالصورة، عبر نشاط الشعراء المبدع. يلفت الانتباه، بأنَّ الصلة بين الصورة الشعرية الجديدة وكذا النمط الأصلي اللاواعي، ليست من طبيعة نظام استدلال منطقي أو علاقة سببية، بل تفهم حسب معطيات ”الرَّنين”أو”الصدى”. يتعلق الأمر، بإدراك البعد الأصلي للصورة الشعرية، دون البحث عن تجديدها ضمن نطاق ممكناتها السالفة.

يوجِّهنا باشلار بالتموقع عند”محور قصدية” الشاعر، وجهة العثور ثانية على حضور غير مسبوق لصور”اللاوعي المتخيَّل”، ونتقاسم معها ديناميكية”الخيال المبدع”. انطلاقا من صور تطويها الكتب، يوقظها تعاطف القراءة، سيوطِّد باشلار شعريته-التحليلة للأعمال الأدبية. قاد تضخم هذا الاهتمام، كي يبلور أيضا هيرمينوطيقا بخصوص تواصل الإنسان مع العالَم، لأنه”إذا أتاح لنا التأمل الشارد الكوني إمكانية استيطان العالم”، يمكننا أيضا فعليا تذوق رفاهيتنا بفضل تأمل ومشاركة صور الهدوء والاستراحة.

*ميتافيزيقا الزمن:

استعاد باشلار في كتابه جدلية الوقت، تأملاته حول الزمن، مستندا على نقد لمفهوم الزمن البرجسوني. استشرف الهدف الميتافيزيقي لكتابه توطئة وتمهيدا ل”فلسفة الراحة”. يتعلق الأمر بتقديم دلائل عن فكرة مفادها أنَّ الاستراحة حق للفكر، تشكِّل إحدى عناصر صيرورته. بدل مكان ومجال زمن وحيد موصول بظواهر متجانسة، يلزم بالأحرى التركيز على استعادة زمن الظواهر ضمن مستويات عديدة.

بناء على وجهة نظر هذا الحدس الميتافيزيقي الجديد، التي تمضي وفق سياق أبرزه برجسون، تصبح أسباب استمرارية الكائن ثمرة عمل، مادامت:”ظواهر الزمن قد أرستها إيقاعات. قصد بقاء الزمن، ينبغي الائتمان لإيقاعات، بمعنى أنساق لحظات”. أن نأخذ بعين الاعتبار إيقاعات خاصة بكل ظاهرة، وتناغمها. يتيح إذن مفهوم ”الإيقاع”إمكانية التوفيق بين الديناميكية و الانتظام، الوجود والصيرورة، الأشكال والتحولات.

اشتغل باشلار ثانية على صياغة فكرة”التحليل الإيقاعي”التي استعارها من الفيلسوف البرازيلي لوسيو ألبيرتو بينهيرو دوس سانتوس.

ليس هذا التصور محض تخمين حول طبيعة الزمان، لكنه يتبدّى مثل ممارسة تركز على تنسيق التباينات الزمانية التي تؤسِّس الفرد. إنها إشكالية تتعلق بالتأثير على النسيج الزمني للروح، قصد إعادة تنظيمه بفضل حياة وفكر إيقاعيين. الجدلية حسب هذا المنظور، ليست منطقية ولكتها زمنية.

يدعونا باشلار، وفق سياق إيقاعه المعمَّم، الذي يحيل على”مفهوم جدلي للزمن”، كي نتأمل الطريقة التي نحيا في خضمها على إيقاعاتنا الخاصة، مع أنها محدَّدة تبعا للحتميات البيولوجية ومقتضيات الحياة المجتمعية، ستكون الديمومة النفسية حصيلة سيرورة، وليس معطى مباشرا للوعي، بحيث يمكن فهم المعرفة العلمية والتأمل الشارد الشعري، في إطار منظور جدلية تضبطها الحياة الروحية، تقتضي دائما بناء جديدا، يتأرجح بين توتُّر عقلانية تعمل وشعرية للراحة.

قصد تفادي”مجازفة أن نحيا زمنا مضادا”، ثم”تخليص الروح من أخطاء مستمرة، أزمنة غير صحيحة”. يتطلع باشلار نحو مداواة”الروح التي تتوجَّع من الزمان، السأم”، من خلال تبني تموجات سليمة لحكمة الإيقاع:”فلا يمكن لحياة وفكر التوطُّد والترسُّخ، دون انسجام، وجدلية منتظمة، و إيقاع: الراحة تذبذب سعيد”.

*راهن فلسفة باشلار:

يمكن الوقوف على منحيين بخصوص تلقِّي فكر باشلار داخل فرنسا:

من وجهة نظر إبستمولوجية، لدى مفكرين أمثال ألكسندر كويري، جورج كانغليم، ميشيل فوكو، فرانسوا داغوني، بل أيضا يان هاكينغ، التمسوا”إبستمولوجيا فرنسية”، حدَّدَت أسلوبا أكثر من نظرية التأمت حول جهاز من البداهات، ويكمن مأوى التقائها في الأهمية الممنوحة لتاريخية المعرفة وكذا مساعي العلماء الملموسة.

أما التلقي الثاني، للدرس الباشلاري، فيحيل على النقد الأدبي الجديد وكذا نظريات المتخيَّل، خاصة، كتابات جيلبير دوران، التي تمنهج دراسة منطقيات المتخيَّل، وكذا أعمال رولان بارت أو جان ستاروبنسكي.

انطوت دائما الرهانات الأكاديمية، لمشروع باشلار على أسئلة ميزتها باستمرار راهنيتها. خلال زمن تغيَّرت معه أكثر فأكثر شروط وجودنا نتيجة العلم والتكنولوجية، والاقتصار على”فلسفات الاختصار”، والأفكار الجاهزة، طرح باشلار نموذج فكر يتَّسم بالإلحاح، لاينقاد مجانا خلف خطاطات إقصائية، ويرفض كل فصل اختزالي، بين الثقافة العلمية والتقنية من جهة، ثم الثقافة الأدبية والإنسانيات من جهة أخرى.

تدشِّن الأنتروبولوجيا المركَّبة مشروعا ينهض على ثقافة مزدوجة، تزاوج بين العقلانية والخيال. لقد توخى باشلار التأكيد على انبجاس إنسان متكامل”إنسان أربع وعشرين ساعة”، ويطلب الربط بين مجهودات الوضوح العقلاني وكذا دوافع الخيال الشعرية، بهدف إتاحة ممكنات النفاذ غاية أصالة الكائن الإنساني ومباهجه.

بناء على وجهة النظر تلك، يظهر تمتُّع باشلار بحضور حاسم راهنا، يقدم إمكانيات تجاوز الإغراءات العدمية بخصوص وجود محبط، أوهام بروميثيوسية تسود العالم كليا، دون التكلم عن طوباويات تتوق إلى الماضي وتعارض العلم، وعودة إلى الأصل المفقود.

* هامش:

Julien Lamy:Bachelard Histoire de la philosophie. ellipses: pp: 571- 580 . 2013.

المرجع:

Au fil de mes lectures: 23 – 08- 2015

 

مقالات من نفس القسم