الجاحظ.. والبرصان والعرجان والعميان والحولان

الجاحظ
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

محمد سيد بركة

بروحه الساخرة وأسلوبه السهل الممتنع حكى عن نفسه قائلا: ما أخجلني إلا امرأتان: رأيت إحداهما في العسكر- بسامراء – وكانت طويلة القامة، وكنت على طعام، فأردت أن أمازحها، فقلت: انزلي كلي معنا! فقالت: اصعد أنت حتى ترى الدنيا.

وأما الأخرى فإنها أتتني، وأنا على باب داري، فقالت: لي عندك حاجة وأريدك أن تمشي معي. فقمت معها إلى أن أتت بي إلى صائغ يهودي، فقالت له: مثل هذا وأشارت إلي.. وانصرفت. فسألت الصائغ عن قولها، فقال: إنها أتت إلي بفص، وأمرتني أن أنقش عليه صورة شيطان. فقلت (الصائغ): يا سيدتي ما رأيت الشيطان، فأتت بك!

ويقول ساخراً من نفسه ومن مجتمعه: ذكرني بعض الناس للخليفة المتوكل لكي اعلم أبناءه الآداب، فلما رآني استبشع منظري وأشفق على أولاده من قبحي، فأمر لي بعشرة الاف درهم ثم صرفني!

ويقول ساخراً في موطن آخر: مره جاءتني أمي وأنا جائع، فوضعت أمامي طبقا من الكراريس بدل الغذاء، فقلت لها: ما هذا؟! قالت: الذي تجيء به عادةً. فخرجت مغتما وجلست بالجامع، وكان هناك موسى ابن عمران، فلما رآني مغتماً سألني ما شأنك؟ ثم أخذني إلى منزله وقدم إلي الطعام وأعطاني خمسين ديناراً. فذهبت إلى السوق واشتريت الدقيق وعدت إلى الدار، فتعجبت أمي وقالت: من أين لك هذا؟! فقلت لها ضاحكا: من الكراريس التي قدمتها إلي.

وكان يعلم تماما أنه ليس مثله شائه الوجه ولا قصير قامة ولا ناتئ حدقتين ولكنه في الوقت نفسه جميل الروح واللسان طيب المعشر..

إنه الجاحظ الذي ولد في البصرة عام 159هـ  وتوفي بها عام 255 هـ  صاحب البخلاء وصاحب الحيوان  وصاحب البيان والتبيين الذي كوفئ عليه بالآلاف الخمسة من الدنانير كما أنه صاحب عشرات الكتب والرسائل التي تشهد بطول الباع في كل فن يكتب فيه… سجل اسمه بين المشاهير على مستوى الإنسانية كافة ووصفه المحدثون من الشرق والغرب بأنه كان عبقرية كاملة..

كتب الجاحظ عن البرصان والعرجان والعميان والحولان وقد صرح بأن الدافع إلى تأليف كتابه هذا لم يكن إلا قراءاته لكتاب مختصر عنهم وضعه أبو عبد الرحمن الهيثم بن عدي الطائي وكان إخباريا لم يعجب الجاحظ كتاب الهيثم لأن كتابه كان في مثالب الأشراف من ذوي العاهات فكان حديثه عن هؤلاء المعوقين حديث المنصف فكان يورد أشعارهم وأمثالهم لمعرفة كيف كان يتهاجى ذوو العاهات بما عوقهم وكيف تمادحوا به وكيف جزع من جزع وصبر من صبر وما في ذلك من الأحاديث السائرة واللفظ المنمق والمعنى المتخير وكيف تبين ذلك النقص وظهر ذلك الخلل ولم يتبين البعض..

فمذهب الجاحظ في هذا الكتاب ليس مذهب السرد أو التشهير، أو ذكر المثالب كما عناه الهيثم بن عدي صاحب كتاب المثالب، وإنما كان مذهبه في هذا الكتاب الفذ أن يجعله ذريعة إلى بيان نظرة العرب في أدبهم وأشعارهم إلى هؤلاء القوم الذين كتبت عليهم العاهة، وتعاملهم الإنسانيّ الرفيع معهم بالقول والفعل، الذي قد يصل إلى الإسراف في مدحهم إياهم بما بدا عليهم من تلك المظاهر أو استتر.

يبحث الجاحظ في واحدة من أخطر القضايا التي كان نادرا ما جابهها الفكر العربي قضية التشوهات الجسدية والعيوب الخلقية، ولكن من موقع إنساني حضاري خالص.

فالجاحظ في كتابه لم يشأ أن يتوقف طويلاً في ذكره العيوب والعاهات ليسخر من أصحابها بل على العكس تماما، فقد رآه وقد قصد، حسب عبد السلام هارون محقق الكتاب أن يجلو صورة ناصعة مشرقة لذوي العاهات من الذين لم تكن عاهاتهم لتحول بينهم وبين تسنح الذرى.

كتاب البرصان والعرجان والعميان والحولان لأبي عثمان عمرو بن بحر بن محبوب الجاحظ كتبه بعد أن ذاع صيته وجاء في عدة أبواب متداخلة أكبرها وأميزها ما قاله في البرصان وفي أسمائهم وأنسابهم وصفاتهم وأقدارهم والشاهد عليهم بالشعر الصحيح والحديث المسند. وإطالته هذا الباب راجع إلى كثرة من أصيب بالبرص بكل أنواعه.

ثم يلي هذا باب العرجان ومزجه بعاهات أخرى فرعية أصابت تيار العرجان من أمثال الحارث الأعرج الملك الغساني والحوفزان بن شريك الشيباني والأقرع بن حابس وأبو الأسود الدؤولي والأحنف بن قيس وموسى بن نصير ومن تلك العاهات البخر والبلاهة والحول والعمى…

وينتقل الجاحظ في كتابه من فن إلى فن ومن حكاية نادرة إلى مثل أو حكمة أو قطعة شعرية طريفة على سبيل الاستطراد قبل أن يتحدث عن عرج الحيوان بذكر الكلب الظالع والكلب الأقزل والأقزال أسوأ حالا من كثير من العرجان وسواد منخره هو ومنخر الذئب وسيلان أنفهما.

ويختم الباب الثاني بقائمة العرجان الفقهاء والبلغاء والعرجان الأشراف والعرجان العبيد الشعراء والعرجان المتكلمين الدهاة كما يذكر العرج إذا عم أهل البيت وجرى القوم منه على عرق أو غير ذلك من العلل والآفات من أولئك بنو الحذاء العرج ذوو الأرجل الشديدة الاعوجاج فقال أبو الشمقمق صديق بشار بن برد:

رجل زيد بن عمارة …..مثل مفتاح المنارة

كما يذكر في إيجاز الأحدوداب وقطع الأيدي والأرجل والشلل وقصر القامة ويأتي الباب الثالث فيه ذكر من سقى بطنه من الأشراف كعمران بن الحصين الخزاعي وخباب بن الأرت وقبيصة بن المهلب وعثمان بن أبي العاص كما يذكر الوقص قصار العنق فيذكر منهم مالك بن سلمة وآسر حاجب بن زرارة صاحب الحاجبين الكثيفين والأوقصي السلمي جد خولة التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم ثم يأتي باب قصير في مختلف العلل التي لم تعق صاحبها عن تحصيل المجد وأسباب الرفعة كاللقوة – أي إعوجاج الوجه – والفحج – تقوس الساق – والفلج ( شلل نصفي) ومن المفاليج إدريس النبي وسطيح الكاهن الداهية وعبيد الله بن زياد الفارسي الخطيب المفوه وعامر بن مسمع سيد ربيعه قاطبة وأبان بن عثمان الذي يرد ذكره في الحولان والعرجان.

أما آخر أبواب الكتاب عقده الجاحظ في الأيمن والأعسر والأضبط وفي كل عسر يسر وبعد قائمة الأسماء من الرجال ذكر أن السباع كالأسد عسر وبهائم الأرض كافة إذا ربضت ربضت على شقها الأيسر وجميع الحيوان إذا سقط في الماء سبح ونجا إلا الإنسان والقرد والفرس الأعسر. ومن الأعسر اليسر عبد الله بن عمرو بن العاص وأما الأيمن فمثله الملوك والعلماء.

مقالات من نفس القسم