الفجوات السردية في نص جيمس جويس:”قضية مؤلمة” 

ناس من دبلن
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

جاد قرقوط

ساهم جيمس جويس في تطوير حَركةِ الحداثةِ في الأدب فِي مطلع القرن العشرين، وتعدّ مجموعته القصصية “أهالِي دَبْلِن” (1914) من الأعمال العالمية المهمة. وتتمحورُ معظم قصصها حولَ سكّان المدينةِ العاجزينَ عن التّغيير – سَواء كانَ هذَا علَى صعيد شخصياتهم أو على صعيد مدينتهم. فالاثنانِ يرتبطانِ ببعضهمَا ارتباطاً وثيقاً – المكان والزّمان والشّخصيّة يتفاعلونَ في فضاء سرديّ متكامل يضيءُ بإشعاعاتٍ ترميزيّة مُتعددة. إذ يعبّر جويس عن إحباط وعجز الشّخصية عن طريقِ الإشارةِ إلى البيئةِ المُحيطة/المكان. ومثال ذلك وصفه لشخصية إيفلاين الّتي ((جلست عند النافذة تراقب المساء يغير على الطريق. رأسها منحني على ستائر النافذة، وفي خياشيمها عبق الكريتون المغبر. كانت مرهقة)) (جويس، 37). فالغبارُ واللّون الأسودُ والرّماديّ والبنّي كلّها تعبّر عن وهن الشّخصيّة، وهذا النّمط يتكرّر في جميعِ القصصِ الجويسيّة. نراهُ في قصّة “متأنقان” التي يبدأها بوصفِ “دبلن” وحُشود البشر فيها من بعيد، ثم تقتربُ الكامِيرا أكثرَ فأكثر من الشّخصيات الرّئيسيّة. ويتميّزُ هذا الوصف بالرّتابة المملّة المكرُورة: ((حط المساء الحار الشاحب من آب على المدينة…))، وأرسلَ ضوء المصابيحِ ((همهمة رتيبة، لا تتوقف في المساء الدافئ المغبر)) (جويس، 51). الـ ((همهمة الرتيبة)) تحاكي جملة ((عبق الكريتون المغبر)) في قصّة “إيفلاين” وكل هذه الصّفات تشيرُ إلى “الشّلل” الذي تعاني منهُ مدينة “دبلن”.

لا نستطيعُ دراسةُ كتابِ “أهالي دبلن” دونَ معرفةِ “دبلن” عن ظهرِ قلب. فالمكان والزمان يشكّلان عاملانِ رئيسيّان في تكوينِ الشّخصيّات، والقصصُ لديهَا ((تركيز جغرافي)) كمَا ذكرت النّاقدةُ مارغوت نوريس في دراستها عن جويس (33). فالبيئةُ المحيطَة في العالمِ الجويسي هي امتدادٌ للبعدِ النّفسيّ لدَى الشّخصيّات، وكلاهُمَا يؤثّر في الآخَر. ويمكننَا ملاحظةُ هذا في مطلعِ قصّة “قضيّة مؤلمَة” حيثُ ((عاش السيد جيمس دفي في تشابليزود لأنه أراد أن يبتعد ما أمكن عن المدينة التي كان فيها مواطنا…)) (جويس، 117)، واستخدامَ جويس الزّمن الماضي في الجملة السّابقة – لا الحاضرِ – ممّا يجعلنُا نشعرُ بالفصلِ بينَ الشّخصيّة والحياة الّتي يعيشهَا. لنتخيّل النّص السّابق بطريقة أخرَى: ((يعيش السيد دفي في تشابليزود)). الفرق بينهمَا هو أنّ الزّمن المضارع يجعلُ القارَئ يختبرُ مشاعر الشّخصيّة، ويجعَلها على تماس مباشر مع الحيّز المكاني. إضافة إلى ذلك، هذهِ المقدّمة تدلّ على أنّ “دفي” يشمئزّ من ضواحِي “دبلن” الّتي تعكس بدورها طبيعةَ السّكان الطّبقيّة والثقافية. ولكن البعد الزّمكاني، في هذه القصّة، يسحرنا بغيابهِ بدلا من وجودهِ، بالرّغم من أنّ ((الجغرافيا يجب أن تكون شيئا موجودا بشكل قاطع بدلا من غيابها…)) ( نوريس، 34). فكأننا نغيب في الفكر ما لا يمكن تغييبه في الواقع. هذَا الغياب يتمثّلُ في تنقّل “دفي” من ((مكان إلى مكان)) ووصف الأماكن ((بمصطلحات سلبية)) (نوريس، 34). دعونَا لا ننسَى أن “دفي” يقطنُ ((في بيت عتيق كئيب، يطل من نوافذه على معمل التقطير المهجور، ويسعه أن يطل بعيدا على طول النهر الضحل الذي قامت دبلن على ضفافه)) (جويس، 117). كلّ هذهِ الصّفات السّلبية (المهجور والضّحل) تشيرُ إلى غيابِ المكان، التي تعكسُ وتساعدُ بدورها في تكوينِ شخصيّة “دفي”؛ إذا، يمكننا الاستنتاج أيضا، بما أن المكان يمثّل الشّخصيّة، أنّ “دفي” ((ليس هناك حقا)) (نوريس، 35)، وأن ((هذا الإحساس بأنه ليس موجودا حقا في جسده ينطبق أيضا على تصوره العقلي عن نفسه، كشخص متوفي، ميت)) (نوريس، 35). مثل مصنع التّقطير ونهر “دبلن” “دفي” غير موجود بشكل فعليّ، بل إنّ هناك فجوة تغيّبه عن ماهيّة ذاته ويتجلّى هذا في وصف لون وجهه الذي يشبه ((لون شوارع دبلن))، وشعره ((الأسود الجاف))، وشاربه الـ ((أسمر مصفر لا يغطي تماما فما غير جذاب)) (جويس، 118). نرى أن جويس يجد علاقة بين “دبلن” و “دفي” من خلال تشبيه أحدهما بالآخر. ولكن، إذا كان هنالك فجوة في “دفي” و”دبلن،” فما هي إذا؟

النّص مليء بمثل هذه الفجوات ونستطيع أن نستدل عليها من خلال نظرة “دفي” إلى نفسه، حيث ((كانت له عادة ذاتية غريبة جعلته يؤلف في عقله…جملة قصيرة حول نفسه…بلسان الشخص الثالث وصيغة الزمن الماضي)) (جويس، 118)، مما يبعده عن مشاعره الذّاتيّة، إذ أنّه يخاطب نفسه بصيغة الشّخص الثالث لا المتكلّم. بالرّغم من أننا نلتمس هذه الفجوات التي تبعده عن نفسه وعن “دبلن”، إلا أننا، لا نعرف السبب الحقيقي وراءها، إلى أن نلتقي السيدة “سينيكو” لتملأ حياته ببعض المغامرات.

لقاؤه بالسيدة “سينيكو” في أمسية هو ما سوف يكشف لنا عن أسباب هذه الفجوة. عند دراسة شخصيّة السّيدة “سينيكو” عن كثب، سوف تتبيّن لنا شخصيّة “دفي” أيضا. فتخبرنا النّاقدة نوريس أن أول حوار بينهما يظهر أن السّيدة “سينيكو” تعاني أيضا من الفراغ ولكنها ((واعية، على عكسه، أنه يمكن أن يسبب الحزن والشوق)) (نوريس، 37).

السيدة “سينيكو” سوف تكشف لنا عن مواطن الضّعف في شخصيّة “دفي”. على عكسه تماما، فقد ((كان ]وجهها[ بيضاويا ذا تقاطيع قوية التحديد)) (جويس، 119)، و ((جاكيتها الاسترخان…عبر عن التحدي بوضوح أكبر)) (جويس، 120).

وربّما هذا ما يحتاجه “دفي” – امرأة جريئة تحثه على اتّخاذ القرارات التي يخشاها. علاوة على ذلك، فنحن على وشك أن نستمع إلى قصة رومانسية ربما تنحرف إلى الزنا ((على غرار كلاسيكيات القرن التاسع عشر العظيمة مثل مدام بوفاري وآنا كارنينا))، ولكن ما سوف يتشاركانه هو ((جوهر الحياة الباطنية)) (نوريس، 37). وهنا تبدأ شخصيّة “دفي” بالظّهور أكثر بالنسبة للقارئ، والسيدة سينيكو هي التي سوف تملأ ((الصالة المقفرة)) وحياة “دفي” المملّة والكئيبة والرّوتينية وهي التي سوف تملأ الفجوات التي تركها لنا جويس عند وصفه لشخصية “دفي”. فالذات تعرف نفسها بالآخر.

ويصف جيمس جويس علاقتهما بأنّها مغامرة: ((ولم يكن هو أو هي قد مرا بمغامرات كتلك من قبل، ولم يع أيا منهما بوجود تنافر بينهما)) (جويس، 120). بالرّغم من أنّهما يلتقيان بنوع من السّرية – أي هنالك شعور بقليل من المغامرة – لكن هذا يدل على تحول “دفي” من شخصية متشبّثة بالرّوتين والأعمال العاديّة إلى شخص قادر على التّحرر من القيود وخوض المغامرات ولو كانت مغامرات عادية جدا. ومن غير السيدة سينيكو يستطيع أن يحث “دفي” على القيام بالمغامرات؟!

إذا، ففجوات “دفي” التي نستطيع رؤيتها في شوارع “دبلن” والأماكن التي يترتادها، هي فجوات عاطفيّة، وما كنا ننتظره من “دفي” هو أن يقف إلى جانب “سينيكو” حتى يتخلّص من هذه الفجوات.

لم نصِل بعد إلى نقطةِ التّحول في حياة “دفي” ولكنّه مستعدّ للبوح عن أفكارهِ، وهذا جليّ من خلال جلساتهم إذ ((راحا يتبادلان الأفكار، فأعارها كتابا، وزودها بالأفكار، وشارك كل منهما صاحبه بحياته الفكرية)) (جويس، 120). على الأقل، هنالك ((مستمع متعاطف)) يشارك “دفي” في حياته (نوريس، 37).

من المُضحك أنّه ((حين قابلها للمرة الثالثة مصادفة، وجد الشجاعة ليحدد معها موعدا)) (جويس، 120). كلمة الشّجاعة تذكّرنا بمصطلح “الشّلل” الّذي يصفُ فيه جويس أهالي دبلن، وهي على نقيض تام مع كَلمة الشّجاعة. ولو أنّ “دفي” ذو فكر تقدمي، فهو يعاني من الشّلل أيضا، كما سوف يتبيّن لاحقا.

إلى الآن، طابعُ العلاقة بين “دفي” و”سينيكو” هو فكري وليس رومانسي. إذ لا يزالُ “دفي” متحفّظا اتجاه أي نوع من العلاقة العاطفيّة فـ ((كان يكره الأساليب الماكرة، ولما وجد أنهما مضطران للتقابل خفية، أجبرها على أن تطلب منه الحضور إلى بيتها)). (جويس، 120). هنا يبدأ “دفي” بوضع الحدود لعلاقتهِ مع السّيدة “سينيكو” ونراهُ ينسحبُ رويدا رويدا. لكن هذا لا يعني أنها لم توفر له فرصة التعبير عن ذاته ((حتى ظن أنه في عينيها سيرقى إلى مرتبة الملائكة)) (جويس، 122). وبما أن “دفي” منكفئ على ذاته، ببعض من التخوف من الحميمية، فإن النقطة التي أنهت هذه العلاقة كانت عندما ((ضمت السيدة سينيكو يده بولع، وضغطتها على وجنتيها)) (جويس، 122)، ثم إعلانه بعد أسبوع من الانقطاع عن زيارتها أن ((كل رباط هو رباط يؤدي إلى الحزن)) (جويس، 122)

هذا النّص، كما ذكرتُ سابقا، مليء بالثّغرات، ولا يسعنا أن نعلّلَ، على سبيل المثال، سببُ انسحاب “دفي” المفاجئ من علاقة جعلته يرتقي أكثر، وجعلتنا نحن القرّاء نفهمهُ بشكل أفضل كلما استطعنا أن نملأ بعض الثغرات ونسدّ الفجوات السّردية في النص.

بعد شهرين فقط من انفصالهما، يكتب “دفي” على قصاصة ورق واحدة من أهم الجمل التي تعوض النّقص السّردي: ((الحب بين رجل ورجل مستحيل لأنه لا يجب أن تقوم بينهما علاقة جنسية، والصداقة بين رجل وامرأة مستحيلة لأنه يجب أن تقوم بينهما علاقة جنسية)) (جويس، 94). ماذا يقصِد؟ هل هذا ما دفعهُ إلى الانسحاب من العلاقة مع السّيدة “سينيكو”؟ هل يمكننا أن نعزو الفجوة داخل “دفي” لمثليته الجنسية؟

أفادت الناقدة مارغورت نوريس أن “دفي” ((يحتاج… إلى علاقة حب مع رجل، سواء يعترف بهذا أو لا، وهو الشيء الوحيد الذي لا يمكن أن يحصل عليه في حياته في الفترة التي شهدت فضيحة ومحاكمة وسجن رجل إيرلندي آخر، هو أوسكار وايلد، بسبب الحب بين رجل ورجل))(نوريس، 40). لقد وصلنا إلى بيتِ القصيد – “دفي” غير قادر على ممارسة حياته بشكل طبيعي، كما تعجز “دبلن” عن منحه هذه الفرصة، فمشاعر “دفي” وعالم “دبلن” يرتبطان ((بالأعراف والضوابط الاجتماعية التي لا يمكن حتى الاعتراف بها)) (نوريس، 48). بالتالي، تمثل السيدة “سينيكو” بالنسبة إلى “دفي” الامرأة الشّجاعة التي تستطيع القيام بعلاقة غرامية محرّمة، وهذا ما يحتاجه في حياته، أي إلى شخص قادر على خرق الأطر الاجتماعية لمدينة “دبلن”. وانتحار السيدة “سينيكو” يؤدّي إلى الوعي المفاجئ الذي يحلّ بـ “دفي”.

أوّلا، حين علم بخبر وفاتها، انتابهُ شعور بالاشمئزاز، ولكن لو نظرنا إلى البيئة المحيطة، لعرفنا أنه يشعر بالفراغ، فالرّاوي يعيدنا إلى ((النهر….بالقرب من معمل التقطير الخالي)) (جويس، 126)، الذي يرمز، بشكل أو بآخر، إلى مشاعر “دفي” البائسة. فالراوي يشير إلى البيئة المحيطة، لكي نستدل بأنفسنا على حالة “دفي” النفسية. الأمر المضحك والسّاخر أن “دفي” يصف السيدة “سينيكو” بـ ((أنها لم تكن مؤهلة للعيش، بلا أية قوة هدف، فريسة للعادات، واحدة من المحطمين الذين قامت عليهم الحضارات)) (جويس، 126)، ولا يعي أنه هو أيضا فريسة للعادات. فبدلا من أن يغيّرا “دبلن” قامت هي بتغييرهما. وربّما يصلُ “دفي” إلى هذه القناعة في نهاية القصة حين يدرك أن ((حياته هو أيضا ستكون متوحدة حتى يموت، ويندثر، ويصبح ذكرى – إن كان ثمة من يذكره)) (جويس، 127). وها نحنُ نعود إلى نقطة البداية – إلى الوحدة والروتين و((الشجر الكالح)) و((الممرات الموحشة)) (جويس، 127)، وكل ما تقتضيه الوحدة من ألم وحزن. ويشير الراوي إلى لحظة وعي الشخصية – ما يسميه جويس بال “Epiphany” أو لحظة الإلهام/الإدراك – من خلال كلماته الأخيرة: ((لا أحد يريده، لقد أقصي عن وليمة الحياة)) (جويس، 128).

……………………………..

1- جويس، جيمس: “أهالي دبلن” (ترجمة أسامة منزلجي). دار الحوار للنشر والتوزيع،2000.

 2- Norris, Margot. “‘No There There’: Place, Absence, and Negativity in’A Painful Case.'” Rethinking Joyce’s Dubliners, edited by Culleton, Claire A., and Ellen Sheible, Palgrave Macmillan, 2017.

3- Joyce, James. “A Painful Case.” Dubliners, edited by Gabler, Hans Walter, and Walter Hettche, W.W.Norton and Company, 2006.

 

 

 

 

مقالات من نفس القسم