إيمان تكتب الحلم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 6
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

ملكة بدر

تتغير كل الأشياء عندما تخرج من الصورة كونك أحد تفاصيلها لتشاهد كل شيء من الأعلى، كأنك إله لا يحكم على تفاصيل الآخرين وإنما يمارس الافتقاد، يعرف أهمية كل تلك التفاصيل، يحن إليها، وأخيرًا يكتبها فتخرج شعرًا، ليصل بك هذا الشعر الملئ بالحنين إلى التفاصيل الإنسانية، إلى المكان الذي تركت فيه جزءًا من روحك أول مرة.

هكذا هي إيمان مرسال، تكتب الحلم ليصبح واقعًا بديلًا، وتتذكر الأماكن التي تُركت وحيدة فينبت لها رفقة، والخيبات المغلفة بتقبل المصائر، فضلا عن التناقضات الأكثر منطقية فيما قرأته من شعر.

كتبت إيمان في ديوانها الأول على الإطلاق “ممر معتم يصلح لتعلم الرقص”، الصادر عام 1995، عن دار “شرقيات” تقول:

«التجاربُ الرائدة

تصنعها العقولُ الكبيرة»

هكذا كان يُمكن أن يصفني عابرون

وهم يتنزهون على الرصيف الأبيض

لشارعٍ يحمل اسمي٬

ولكن لكراهيةٍ قديمةٍ بيني وبينه٬

تركت أحجارُهُ علاماتِها في رُكبتيّ

ورأيتُ أنه غيرُ جديرٍ بذلك

ربما نرى هنا إيمان وهي تقول بملء فيّها «الأشياء التي أكرهها جديرة بحرمانها مني»، ظهرت في هذا الديوان وهي تضع أقدامها على الخطوات الأولى لتكون، وظهرت علاقتها بالأشياء، ولكن تلك العلاقة كانت قد انتهت بالفعل، أو في طور الاحتضار.

الديوان الأول كان استعادة لذكريات مختلفة ومتناقضة مع التفاصيل التي أصبحت ربما بعيدة، تظهر فيه نبرة ندم واضحة على أيام ضاعت بشكل ما في المعارك الصغيرة، وصعوبة في تذكر الأشياء القديمة لكونها مرتبطة بمرارة لم تذهب بالكامل، وآلام أخذتها إيمان التي ظهرت في ديوانها رغم الرحيل، معها.

«لن أحاولَ اكتشافَ طرقٍ جانبيةٍ

تساعدني على تفادي الألم٬

ولن أحرمَ نفسي من التسكِّع في ثقةٍ

وأنا أدرّبُ أسناني على مضغ كراهيةٍ

تقفز من الداخل.

وفي محاولةٍ للتسامح

مع الأيادي الباردةِ التي دفعتْني اليه

سأتذكّر

أنني لم أخدش أبيضَ الحمّام

بدُكنةٍ تخصُّني».

في «ممر معتم يصلح للرقص»، خرج من بين شخص إيمان، إيمان أخرى، على عالم جديد، ليس بالضرورة يوتوبيا تصورتها، لكنها تستكشف من بداخلها، وأدى ذلك الاكتشاف بالضرورة، وبعد أكثر من عامين إلى ديوان أكثر توحدًا ووحدة، أكثر نظرًا إلى الداخل، هو «المشي أطول وقت ممكن».

«جيدٌ

أن أعيد تأمُّلَ صور الطفولةِ

فقد أُزيح فكرتي المستقرّة

عن أنني كنتُ مشروعاً جميلاً لشخصٍ آخر

أفسدتهُ رهاناتي الناجحة».

هكذا ترى حياتها، رهانًا ناجحًا أفسد مشروعًا محتملًا آخر، رهانًا ناجحًا ربما خيب ظن آخرين رغم نجاحه. أما استعادة الذكريات في البلدة البعيدة التي تركتها الشاعرة ورحلت، فتحولت إلى إحساس بنفاد الوقت، أو أن كل الأحداث ربما أخذت زمنها وانتهت، قبل أن تبدأ الشاعرة في التعرف على ما يحدث بعد.

«لا أظنَّه الطريقَ الزراعيّ الذي يمرُّ ببيت أهلي

ولا الشارع الممتلئ بمقاهي النخبةِ

في وَسْط العاصمة.

الحرائقُ انتهت قبل أن أستيقظ».

في «المشي أطول وقت ممكن»، تضع إيمان قواعد الحياة منذ البدء، كأنها «زيارة» عابرة لها طقوس لا يمكن تجاهلها أو الاستهانة بها، فتقول:

«لابد من تنظيمٍ ما للتنفّسِ

عند الصعودِ لأعلى

من الوقوف بُرهةً في المنتصف

أما هبوطُ السلالم

فيكفي تتبّع الدرابزين

لتحاشي السقوط

ويُستحسن عند الخروج إلى الدنيا

أن يظلّ الرأسُ مرفوعاً

وألا نلتفت».

ويبدو الديوان بأكمله كأنه فترة انتقالية ما، تتأرجح بين النظر للماضي والتأمل في الحاضر، ويتضمن ذلك عنصر من عدم التصديق، الحلم والواقع، ما يحدث حقيقة ضد ما يجول في رأس الشاعرة كأنه عالم مواز له تفاصيله الخاصة للغاية، التي لا تبدو واقعية إلى حد كبير إلا لها.

وبعد فترة توقف طويلة استمرت حوالي تسعة أعوام، عادت إيمان إلى الشعر من خلال «جغرافيا بديلة»، وفيه يظهر بوضوح التأرجح بين الوطن والغربة، أو الغربة في الداخل وتلك التي نشعر بها في آخر العالم بعيدًا عن البلاد التي نشأنا فيها. في «جغرافيا بديلة» لم تستطع الشاعرة الهروب تمامًا من الذاكرة، أو الهروب من حالة الملل الرحيم بعيدًا عن قسوة الوطن:

«لا شيء جدير بأن تتمرد عليه. أنت مرضيٌّ وميت

والحياة من حولك تبدو مثل يدٍ رحيمة

أضاءت الغرفة لعجوزٍ أعمى

ليتمكن من قراءة الماضي»

لم يكن من الواضح في الديوان رغم ذلك أن إيمان استبدلت الغربة الخارجية تمامًا بغربة الوطن، ظهر ذلك التردد كثيرًا، حتى أن الموت لم يبد حلا نهائيًا للخلاص من الإشكالية، فقد كتبت:

«كأن الموت هوية ناقصة

لا تكتمل إلا في مقبرة الأسرة»

ومؤخرًا، في ديوانها «حتى أتخلى عن البيوت» الصادر هذا العام، استمر التأرجح بين «هنا» و «هناك»، بداية من أول قصيدة تحدثت فيها إيمان عن قريتها «ميت عدلان» الصغيرة التي مازالت تبحث عنها وإن بشكل افتراضي، مرورًا من اللحظات الضئيلة من الحكمة اليومية عبر الغرباء «هناك»، وتفاصيل «الشر» الذي ليس شرًا حقًا إنما هو نتاج التجارب المستمرة، واستعادة الذكريات مع الراحل «أسامة الدناصوري» بعد رحيله، والراحلين من بعده وإن ظلوا أحياء، وحميمية مفقودة ومتشظية بين الماضي والحاضر، وبين الوطن والوطن الجديد، تقول إيمان في ديوانها:

“أنا وهو”

سأقول لنفسي ذات يوم،

كنا هناك رهائن لرغبة كأنها اليأس،

وضعت غربتي مع اغترابه في ميزان الذهب فأصبحنا ثريين فجأة

تسلط كل منا على الآخر

بحثا عن حرية لم يبشرنا بها أحد

تعلمنا الحكمة بما يكفي لنتخلى عن النبوة ثم عدنا

إلى مواقعنا في المجتمع الحديث مواطنين صالحين،

تاركين جثتينا الجميلتين في قبو،

أظن أنه لم يكن غرفة فندق”.

ــــــــــــــــــــــــــــــ

*شاعرة مصرية

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم