الحكمة المضادّة.. البنية الاِستبداليّة وتقويض بلاغة التجربة التاريخيّة

قيس عمر
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

د. قيس عمر

قلّة هم الشعراء الشّغيلة في مجال قصيدة النثر الذين أدركوا أنّ قصيدة النثر هي انعطافة ثقافية كبيرة بالعقل الشعريّ العربيّ، وأنها طريقة تفكير مغايرٍ يقوم على تحوّلات متواصلة، وإعادة تعريف لكلّ شيء، وأنها ليست فقط مجرد مغايرة وتفلت من قيود العروض وتكبيلاته الصارمة. قلّة هم من أدركوا أنّ قصيدة النثر ليست ضرباً من المغايرة الجمالية، وأقلّ من القليل من شعراء قصيدة النثر من أدرك  أنّ قصيدة النثر تعني الانعتاق المتواصل من كلّ سلطة جماليّة للآباء المؤسّسين، ومن مواصلة لا تروم تشكيل قطيعة كتابيّة بعد كلّ تجربة شعرية،  وأيضاً قلّة هم  من حوّلوا هذا الاِدراك في مشاغلهم إلى واقعة كتابيّة تتقوّم بالتحول والمغايرة المتواصلة، واستطاعوا تنويع مشغلهم بالتحوّل والقطائع.. ولعلّ تجربة الشاعر رعد فاضل الذي  يقف في مقدمة الشغيّلة الكبار من جيل السّبعينيات في العراق.

يتأسّس وفقاً لما تقدّم المشغل الشعريُّ لرعد فاضل على:

– فاعليّة المعرفة.

–  التحوّلات الجماليّة المتواصلة.

– الكتابة بمفهومها الثقافيّ بوصفها موقفاً من العالم.

– محور المتن الشعريّ هو إنسان العالم.

  ينهض المشغل الشعريّ لرعد فاضل على وفق فهم عموديّ لوظيفة قصيدة النثر بعامّة والشعر بخاصة، فقصيدة النثر لديه هي  (( واقعة ثقافية أكثر من كونها ارتدادة عروضية أو استكماليّة لما قبلها))[1]، من هذا المنظور لقصيدة النثر يمكن لنا مقاربة المشغل الشعريّ لرعد فاضل.

 إنّ مهمة قصيدة النثر هي اِعادة تشكيل الخرائط الذهنيّة لاسيّما للفرد العربيّ  ومحاولة تشيكل رؤية كونيّة تحاول تجذيرَ مقولات(إنسان العالم) بمعنى أن يكون النصّ ومفهومُ (الكتابة) منطلقاً من حجر زاويةٍ كونيٍّ هو إنسانُ هذا العالم في كلّ مكان وزمان، ولعلّ هذه المكوّناتِ أو أحجارَ الزاوية في مشغل رعد فاضل أتاحت له هذا الاختلاف والتحوّل والتنوّع في كلّ كتاب شعريّ جديد يدشّنه عبر رحلة من التحوّلات، فمشغل رعد فاضل ومتنُه الشعريّ يقوم على أساس الكتابة بمفهومها الكونيّ الكبير الشّامل، ويحيل للكتابة بوصفها ممارسة ثقافيةً أساساً، وليست ممارسة تزيينية أو كماليةً الغرضُ منها دفع الأنا نحو منصّات الظهور والشّهرة،  فالكتابة الشعرية عنده تمتاز بالصّحو التام، بمعنى أنّها كتابة شعريّة تمتح مكوّناتها من المعرفة وليس من الميتا لغوي، فتحوّلاته المتواصلة تكشف عن فهمه العميق للمرجعيّات التي تشكّلت منها مرجعيات القصيدة العموديّة وسلطتها التاريخيّة وقوّتها الضّاغطة لتتحوّل فيما بعد بفعل سلطة التّصنيم إلى هوية بحيث ربط البعضُ الهوية العربيّة بقصيدة العمود، فالكتابة الشعرية عند رعد فاضل واعية تماماً لهذه التفاصيل المندمجة بالمعرفة- دمج المعرفيّ بالسلطوي بحسب فوكو- الشعرية والخرائط الذهنية التي تكرّست منها عقلياتُ الأفراد عربياً، فالكتابة عند رعد فاضل  ليست غياباً رومانسياً وهروباً من واقع مرّ ومعاق ثقافياً، بل هي معارضة ثقافية بكلّ ما تحمله الكلمة من ثقل معرفيّ، فنصوصه الشعرية تعمل على تعرية مواضعات الكتابة الشعرية الزّاعمة انتسابها لقصيدة النثر أيضاً في حين أنّها واقعة تحت هيمنات صغرى ومتخفّية لقصيدة العمود، ولعلّنا ندرك تماماً أنّ قصيدة العمود العربيّة هي نمط تفكير وخريطة ذهنية ولعلّ هذا النمط الشعريّ التاريخيّ يمتلك سلاحاً يحتمي به تاريخياً وهو سلطة الفقهاء وحراس فهم اللغة لكن بالمقلوب.

إنّ قصيدة النثر عند رعد فاضل تتملّك قوّة المعرفة وتدرك أنّ ((الخروج على الشكل ليس مجرد خروج تشكيليّ، وإنما هو خروج شامل: من حالة وعي معينة إلى حالة أخرى، ومن رؤية إلى رؤية، ومن حساسيّة إلى حساسية، ومن لغة شعرية إلى لغة شعرية، ومن ثقافة وقيم إلى ثقافة وقيم أخرى، ومثل هذا الخروج ليس سهلاً: إنّه يستلزم القدرة الخلّاقة المحيطة))[2] وهذا الخروج سيولّد سعياً متواصلاً وعملاً قصدياً ووعياً نحو جعل التحوّل والمغادرة إلى زاوية اشتغال جديد، وهذا واحد من أحجار زوايا مشغل رعد فاضل الشعريّ الرئيسة، فالشاعر يعمل على وفق تجربة الكتاب الشعريّ الذي يكثف الاشتغال على موضوعة شعرية يتمّ رصد تشكلاتها وتعالقها واستطارتها بشكل جماليّ/ معرفيّ، وهذا ما أتاح للشاعر فَرشة شعرية واسعةً تمتلك خصوصية وفرادةً جعلته شاعراً قادماً من الأمام ومقيماً في التحوّلات التي تسعى إلى أن تكون ناجزة بالمعنى الجمالي.

خلخلة فعل (الإنجاز) التاريخيّ والإطاحة بالميثاق الدلاليّ (للحكمة):

 يعمد الشاعر إلى كتابة توصيف نظريّ شعريّ لمشغله في هذا المتن الشعريّ فهو يذهب إلى توصيف مشغله في هذا الكتاب بأنه ((ليس تنويعاً على الحكمة بوصفها قيمة ومعطى وفقاً للمفاهيم المتداولة ثقافياً وجغرافياً واجتماعياً إنّما هو تحريض للحكمة من جهة كونها مفردة حياة وثقافة وحبّ وتفكّر وتفلسف ..)) فالحكمة عنده ((من جهة الشّذرات هذه ليست استلهاماً أو وصايا وإنّما هي كما أزعم فكر شعريّ يحرّض الحكمة على الظنّ والشكّ ويزين لها ضلالات قد لا تنتهي))[3].

يدشّن رعد فاضل كتابه بهذا التوصيف النظريّ للحكمة، وهو بوصفه مثقفاً معرفيّاً يدرك أنّ للحكمة سلطة متواصلةً زمنياً، لا يمكن للعتاقة والتقادم محو سلطتها، فهي تجربة تمتلك سلطة (الحقيقة المطلقة)، وللحكمة في ثقافتنا العربيّة هيمنةٌ ضاغطة وكبيرة فهي شذرات تمّ تخليصها من الزوائد الحياتية واللغوية لتصبح نصّاً كثيفاً يقوم على ممارسة سلطة امتلاك (الحقيقة) القادمة من أعماق التجربة، وأنّها خلاصة تجربة منحها التاريخ والتجربة امتيازاً كبيراً في كونها حاملة (للحقيقة)، من هنا تتمتع الحكمة عربياً بالكثير من الرصانة والوثوقيّة والاقتصاد اللغويّ الذي يعمل على منحها كثافة بلاغيّةً تكون بمثابة شفرة متعالية تمنحها قدرة وثوقيةً متعالية، وكذلك  تتمتع بالكثير من الحقّ المطلق أحياناً، وهي شيء ثمين ومذهب ونادر وقليل ولا يحضر إلا في الأزمات والمعضلات. من هنا تشكّلت الحكمة بوصفها حدّاً فاصلاً بين الحقّ والباطل، ولو حاولنا الكشف عن النسق الثقافيّ للحكمة العربية سنجدها قد تكوّنت من بنيات ترتكز على التاريخ والتجربة.

 الإرغامات التاريخية للحكمة:

  • تقوم على اقتصاد لغوي.
  • تركيبتها اللغوية تقوم على الجزم والنفي والإطلاق.
  • تمتلك الحكمة العربية حمولة تاريخيّةً تستمدّ طاقتها من المجال التداوليّ لقدسيّة الماضي.
  • أغلب الحكم ترتبط بجذور حكائية وتحاول ربط منطلقاتها الحكمائيّة بالتجربة الواقعية التي تسوغها الحكاية.
  • إنّ المعنى اللغوي لمفردة الحكمة مشتقّ من الحكم، ومعلوم ماذا يعني المجال المعجميّ لهذه المفردة التي تحيل أيضاً على القطع والقرار الحاسم.
  • إنّ الحكمة تجربة فردية وتصدر عن الأفراد ثم تتحول إلى مقولة مجتمعية يستخدمها المجتمع، بمعنى آخر نقل المنظور الخاص وتحويله إلى العام ومعلوم خطورة هذا النقل والتحوّل.

الحكمة المضادة/ البنية الاستبدالية وتقويض بلاغة التجربة التاريخية:

  إنّ العتبة النصيّة للكتاب- العنوان – تضع القارئ أمامَ لحظة صدام عنيفة مع مرجعيات قارة وراسخة وإلّا كيف يمكن للحكمة بكلّ أبهتها وجانبها الحقائقيّ أن تكون في علاقة مجاورة لغوية مع (الضَّلالة) على المستوى البصريّ في الأقلّ  دون المستوى التركيبيّ للعنوان ( شذاراتُ حكمةٍ ضالّةٌ) مجرّدَ احضار النّقيض لمفهوم الحكمة(حكمة ضالّة)؟. يشكّل هذا عملية صدم لمرجعيّات المتلقّي من جهة أنّ الحكمة لا يمكن لها مجاورة الضَّلال حتّى لو مجازاً على المستوى البصريّ الغرافيّ على غلاف المتن الشعري، فالشاعر يعمد من خلال التفكير الشعريّ الخلّاق إلى اعادة النظر والتفكّر والتّـفلسف في عمائق هذه المفاهيم النّاظمة للفكر الحكمائيّ العربيّ، ومنها الحكمة بوصفها سلطةً ثقافية وثوقية لابدّ من تقويض مدلولها التاريخيّ وتعرية سلطتها الزّمانية في الأقلّ من جهة كونها مُرتهنةً لواقع تاريخيّ لم يعد ممكناً استحضارُه وذلك لاختلاف الواقع العربيّ الراهن. فالشاعر يعمد إلى ممارسة عزق وحراثةٍ للمرجعيات الناظمة لسلطة الحكمة وهيمناتها التاريخية، فربط الحكمة ولو تركيبياً واجلاسُها مع الضَّلال هو ضرب من التفلسف الشعريّ المحكوم بمرجعيات ثقافية واعية لهذا القلب المعرفيّ/ الجمالي.

 إنّ الشاعر يشكّل من خلال نصوصه في هذا المتن المضادّ بنية استبداليّةً للنسق الناظم لمصادر الحكمة وبلاغتها وصوغها التركيبيّ، وهذه المحاولة الإبدالية لنسق الحكمة التاريخيّ عملية خطيرة جداً تحتاج إلى ايجاد بدائل بلاغية تقوم على المعرفة لتقدّم البديل بعد أن مرغت أنف الحكمة وأنزلتها من برجها العاجيّ. نحن إذن أمام تجربة جديدة وفريدة في كتابة الحكمة لكنّها حكمة مضادّة تسعى إلى تقديم قراءة مغايرة للحكمة وكتابتها صوغاً ومعرفة.

  إنّ بلاغة العنوان وصيغته الإبداليّة تحاول حشد بلاغة مغايرة تقوم على سلطة البلاغة المعرفية لا على سلطة بلاغة تزوير الوقائع والتجارب، فبلاغة العنوان هنا تسحب المهيمنات التاريخية لحقيقة التجربة وأحاديّة حقيقتها وتطوّح بها لتقدّم الحكمة من منظار يقوم على القلب والإبدال والتجاوز، ومن ثم تشيّد بوساطة هذه المرتكزات حكمتَها الضّالة التي تمّ إفراغ حمولتها الدلالية لتكون ضالّة حقاً بالمعنى الجماليّ البلاغيّ/ المعرفيّ المتناغم مع الثقافيّ، والذي يمكن لنا تلمّسه من خلال توصيفات الشاعر رعد فاضل لهذه الشذرات الحِكميّة: ((إنّ الحكمة من جهة هذه الشّذرات ليست استلهاماً ووصايا ووو… وإنّما هي كما أزعم فِكْر شعريّ يحرّض الحكمة على الظنّ والشكّ، ويزيّن لها ضلالاتٍ قد لا تنتهي))[4]، إن توصيفه الدقيق هذا للشذرات هنا تندرج تحت موجّه قرائيّ هو (فِكْر شعريّ) وهذا الموجّه يستدعي التاريخ والوعي والمعرفة ومواثيقَ الأجناس الأدبية واعادة تعريف لحدود هذه المرجعيّات القارّة، فالحكمة تمتلك سلطة الحقيقة والحقّ فكيف يمكن عبر الشعر ولغته تفكيك وتقويض سلطتها وهذه الشذرات الحِكميّة ليست استلهاما لنمط كتابيّ تاريخيّ تراثيّ أو وصايا تمتلك سلطة التوجيه والإرغام؟، إذن هي عمليّة تحريض للوعي الحِكميّ على أنّ الحكمة الثقيلة العميقة الصحيحة دوماً يمكن لها عبر الفكر الشعريّ أن يُزيّن لها أن تكون ذاتيةَ النزعةِ نفعيّةَ الهوى، لكن هذا كلّه لن يتم إلّا عبر تشييد معمار دلاليّ جديد لمفردة الضّلالة التي تأتي بالمعنى الجماليّ وليس بالمعنى الدّينيّ، فالضّلال هنا هو فتح احتمالات الحكمة على مصراعها لتكون أكثر اختلافاً وأكثر تنوّعاً وأكثر ظنّاً وشكّاً ووسوسة.. لكنّها في النهاية ضَلالة جماليّة تمّ فيها سحب البساط من هيبة الحكمة تاريخياً واعادة تمريغ سلطتها القارّة بالتنويع والاختلاف والشكّ.. من خلال استنطاقها وغسل عمائقها لتكون قابلة لقراءات كثيرة وقابلة لكلّ تأويل، وبمعنىً آخر سيكسر البناء الخطيّ النسقيّ للحكمة ويتمّ تحويل خطيّتها لأشعة كثيرة متداخلة ومتعاكسة منكسرة حيناً ومستقيمة حيناً، وكلّ هذا عبر التّمركز في عمقها وتقويض مرتكزاتها والشّطب على هيبتها ومن ثم تزيين الاختلاف لها لتكون مشرعة لكلّ قراءة ناقدة فاحصة تروم الموضوعية وتخليص الموضوع من أبعاده الذاتية والإرغامات التاريخية.

 القيمة المعرفيّة للحكمة المضادّة:

    في هذا المتن الشعري الحكمائيّ الكاسر للسياق الخطي الحكمي في التراث العربي يذهب الشاعر رعد فاضل إلى توسيع أبعاد الحكمة وتفجير مرتكزاتها الغارقة  في الوعي الجمعيّ فالكتابة الشعرية هنا ليست تعبيراً جمالياً يتقوّم بتقانات الكتابة الشعرية لوحدها إنما هي (الكتابة) بالمعنى الفلسفيّ الذي يتقوّم بالمعرفة بوصفها تقانة تقوم على الرصد والنقد والمراجعة لتنتج معرفة (مضادّة)، فهي كتابة تحاول النهوض على بعد موضوعيّ عبر التّمركز في بنية الحكمة وتقويض مرجعياتها من جانب، واعادة بناء مرتكزات جديدة لها من خلال تزيين التنوّع الدلاليّ وتحويل أحاديّة الحكمة بوصفها حاملة للحقيقة إلى حقيقة متنوعة تقوم على الاختلاف الخلّاق الذي يستمدّ حمولته من تعدد القراءات للتراث ومراجعته نقداً وشرحاً وتحبيراً واختلافاً ايجابياً من جانب آخر.

(ما تقولينَ يا حكمة المشرق العربيّ ومغربهِ. ما قولُك الآن

أيّها الماضي الحارسُ لأنقاضِه لو أنَّ خيطاً جسراً كان  مُدَّ حقّاً

ما بينَ ابن رشد ٍ                  والغزاليّ؟.

تُسألُ الحكمةُ وهيَ تشرب أقداحاً من لهبٍ/ وتلهمُ تاريخاً

من الزرنيخِ والظّلام)[5]

في هذه الشّذرة ثمّة وعي وصحو، وثمة أبعاد موضوعية في التعاطي مع التاريخ واستدعاء تاريخ برمته يتمثّل في الصراع بين تيارين داخل الثقافة العربية متمثّلاً بالنصّ والعقل، فللعقل مرجعيات ناظمة له متمثلاً بابن رشد بوصفه خاتمة الفلاسفة الكبار، وبين الغزاليّ بوصفه  فيلسوفاً تراجع عن تيار العقلانيّة ودافع في نهاية مشروعه التنويريّ عن النصّ واعتنقه بوصفه مرجعاً نهائيّاً وحاسماً. في هذه الرؤية الحكمائية ثمّة تزيين دلاليّ يعمل على منح النصّ بعداً جمالياً متوتراً من خلال لغة سلسة تجنح نحو مفاهيم كليّة تشكّل أسَّ الخلاف التاريخيّ، هذا الخلاف الذي تمّ الانتصار فيه للنصّ على حساب تراجع تيار العقلانية لتنطمس فيما بعدُ كلُّ مشاريع التّنوير والتحديث تراثياً. الشّذرة الحكميّة هنا تقوم على مواضعات حكمية جديدة فبنية الحكمة هنا لا تقدم الحقيقة محروسةً بتجربة الأسلاف أو الآباء الكبار للمدوّنة التراثية شرقاً عربياً ومغرباً عربياً، فالغزالي المشرقيّ انتهى بتدمير مشروعه الفلسفيّ الطويل من خلال تحوّله الخطير ورجوعه إلى النصّ، ويقابله في الاتجاه الآخر ابن رشد ودفاعه عن المشروع الفلسفيّ للعقل، مكّن الشاعرَ من اقامة تواز يستمدّ طاقته من الجدل بين هذين المشروعين المتصارعين محاوِلاً تلخيصَ الجدل عبر لغة حجاجيّة مشفوعة بالندم حيناً وبالوجع حيناً. إنّ طبيعة الشذرة الحكمية في جانبها الكتابيّ تنهض على تعالق بين المعرفة بوصفها استدعاء للتاريخ النكوصيّ حين تراجع مشروع العقل العربيّ وتقدّم مشروع النصّ مكتسحاً المعرفة ومُنحّياً لفاعليتها عبر تأييد السلطة السياسية للنصّ إزاء العقل، وليست المحن التي مرّ بها شغيلة المغايرة في الثقافة العربيّة إلّا دليلاً على هذا النكوص والقمع، فجلّهم ماتوا  كمداً أو قتلوا بيد السّلطات بعد أن تمّ تأليب الغوغاء عليهم لتكون أفكارهم وحيواتهم مشرعة للقتل والتنكيل والتفضيح.

في الشذرة الحكمية التي يسعى رعد فاضل إلى تشكيلها والتي تقوم كما أوردنا على بعدٍ معرفيّ واستحضار معرفة مضادّة تقوم على فتح الاحتمالات التاريخيّة للحظة الانكسار الحضاريّ والصّدام الحادّ بين النصّ والعقل والشّاعر ( لو أنّ خيطاً مُدّ) هذا الخيط الذي يستدعيه الشاعر من الغياب ويحاول إنزاله إلى الحضور ليرى النتيجة المغايرة، لكنّها ليست سوى ممكنات ذهنيّة متعالية يستدعيها الشِّعر عبر تركيبة الحكمة غير أنّ ما يسوّغها أنّها الحكمة المضادة للقارّ السّاكن. 

 إن التاريخ يحضر من خلال الاستفهام الذي توجهه الحكمة له (ما قولُكَ الآنَ أيها الماضي الحارسُ لأنقاضهِ) فثمّة مساءلة للتاريخ بوصفه فعلاً ماضوياً في جانبه التوصيفي الموضوعيّ، لكنّه فعل ماضويّ يمتلك الدّيمومة عبر كثافة حضوره وفاعليته الاستنساخيّة داخل المتن الحياتيّ والثقافيّ العربيّ، فالتاريخ أو هذا الماضي لم يقم بحراسة الاختلاف والتشابه إنما ثمة بعد مطمور في هذا الماضي، فهذا الوعي القائم على قدسيّة التاريخ قدّم شيئاً على حساب شيء آخر، وليست هذه الشذرة إلّا محاولة لإعادة حراثة قيعان التاريخ القارّة وتقليب تربتها وإعادة رسم مواضعات الجدل التاريخيّ، ولكن الوجع المعرفيّ يغلب الشاعر هنا لأنّ هذا التاريخ ليس إلّا حارساً للأنقاض والهزائم والخسارات والتزوير والتقتيل.

إنّ البناء الحكمي عند رعد فاضل يقوم على ايجاد ممكنات أخرى للحكمة تجعلها متزنّرةِ بالوساوس والتعدّد، مقابل الفرادة والضّلال الجماليّ، مقابل الهداية المستترة خلفها حقيقة سلطويّة أو دنيويّة أو ذاتيّة، إنّها حكمة مضادة تماماً تستلهم تقاناتها من المعرفة ومن تعالق التعبير الشعريّ بالنثريّ. فاللغة الحكمائيّة هنا تمتلك تركيبة لغوية محمّلة بطاقة سرديّة هائلة تقوم على البرهان والحِجاج والتنوّع والاختلاف والموضوعية. ولعل إيجاد نسق كتابيّ مغاير ينعتق من سلطة الجاهز التاريخيّ والقناعات الثابتة يحتاج إلى نسق مضادّ عمقاً وسطحاً من مستوى التركيب اللغويّ وحتى عمائق الدّلالة الثقافية، فجملة رعـد فاضل الشعرية مركّبةٌ ومعقّدة وتجنح إلى الابتعاد عن الجزم والقَطع على عكس تركيبة الحكمة العربيّة الشّائعة التي تقوم على تقديم نفسها بوصفها حقيقة ناجزةً مقطوعٌ بصحّتها عبر أدوات اللغة النافية والقاطعة الجازمة، في حين تسعى هذه الكتابة إلى تشكيل كتابة مضادّة تماماً تقوم على التنوّع والتشتت والبعثرة، وكلّ هذا من خلال فتح الاحتمالات وتزيين الاختلاف في داخل متن الحكمة  لتكون حكمة موسوسةً لا تطمئنّ حتى لنفسها.

((حكمةٌ قراءةُ المستقبلِ أن تظلّ حكمةُ كتابةِ الحاضرِ                                         

في عقوق دائمٍ لأبوّة حكمةِ الماضي؟ ))[6]

في هذه الشذرة التي تنهض على الحكمة المضادة بالكامل للحكمة القارّة التي تراهن على الثبات والرجوع والإفادة من الماضي العربيّ، الحكمة التي مفادُها أنّ هذا الماضي كان ولا يزال منتصراً وسائداً حضاريّاً، هذا المعنى لا تزال الثقافة العربية تحاول ترسيخَه  وهي عمقيّاً إنّما تعمل على تنويم الوعي والدّعوة إلى عدم مجاراة ومعاصرة الواقع المتغيّر وعدم تحرير العقل والحاضر والقراءة..، هذا في الأقلّ ما تسعى إليه البنية الحكمائية في المتون الدينية والثقافية بعامّة، بينما حكمة رعـد فاضل المضادّة  تدعو إلى العكس تماماً، فلابدّ من تحوّل وخروج ناجز من ربقة الزّمن الحضاريّ الذي ظلّ ماضويّاً على الرغم من اختلاف الزمنّ الثقافيّ للعرب بخاصّة وللإنسان بعامّة، إذن لا يمكن أن تكون الحكمة(هنا) إلّا كشفاً رؤيوياً لكنّه في الوقت نفسه كشفٌ معرفيّ يمتلك أسساً موضوعيّة قائمةً على العقل والبناء البرهانيين، وإذن أيضاً لابدّ للحكمة المضادّة من ممارسة نوع من الإرغام والتسلّط المعرفيّ كونها  تمتلك سلطة الحقيقة، لكنها الحقيقة التي يمكن أن تتغيّر وتتحوّل وتنعتق من ارغامات التاريخ وسلطة الآباء المؤسّسين.

((تظلّ تهتفُ حكمةُ كتابةِ السّلفِ وقراءتِه: ليس منّي في شيءٍ                           

مَن نزعَ جبّتي

وخُفّيَّ وعَمامتي، وألقى عصاي ومسبحتي.

فيما حكمةُ الكتابةِ الضّالةِ

كانت كتبتْ مرّةً: كلُّ ضالٍّ الآنَ (مُستَقبلاً): مَزار.))[7]

في هذه الحكمة المضادّة تماماً أيضاً يسعى الشاعر إلى تشكيل حكمته الضّالة جمالياً من خلال تقويض وتفكيك الحكمة السّابقة التي لمّا تزل تراهن على الماضي الذي يرى أنّ نجاح الأمم لا يمكن إلّا من خلال حكمة السّلف التي هي في النهاية أحلام ماضويّة فقدت جُلَّ مشروعيّة حضورها حين نُعمِل العقل في مواضعات الفشل الحضاريّ الراهن، فالشاعر يعمل على إقامة تحريض جمالي/ معرفي يقوم  بتقويض سلطة الحكمة الماضويّة  بالمعنى التعاقبيّ، فالحكمة التاريخية لم تعد ناجعة الآن في مواجهة التحوّلات والتبدّلات الحضاريّة، ومن هذا التقويض يذهب الشاعر إلى منح حكمته بريقَ الحاضر والتعويل على المستقبل، فكلّ ضالّ الآن بالمعنى التزامنيّ هو مزار ومَحجّ وقِبلة للباحثين عن الكشوفات الجديدة التي تستدعي ضرباً من التأمّل العميق والموضوعيّ لراهننا العربيّ على مستويات انتاج الجماليات والمعرفة، بمعنى أنّ كلّ تحوّل وتبدّل وتغيّر راهنٍ يُنظَر إليه على أنّه ضلالة واضحة وبدعةٌ، لكنّه في القابل من الأيام سيكون مزارا ومحجّاً على اعتبار أنّ المستقبل للمختلف دائماً، وهذه هي سُنّة الحقيقة وجانبُها الموضوعيّ الذي تراجع على المستوى العربيّ كثيراً، فالشاعر هنا يسعى إلى تقديم قراءة تتسلّح بالتجربة الذاتيّة ليكوّن حكمته المضادة تماما التي تعمل على خلخلة معيار الحكمة القارّة وايقاف المراهنة عليه، الحكمة التي تتخذ من طوباوية الماضي حجاباً وتجربة يمكن الوثوق بنتائجها، لكنّ رعد فاضل هنا يسحب الحكمة من مجالها التاريخيّ والحياتيّ ثمّ يقوم بمحاكمتها بشكل علنيّ طارِحاً شقّها الموضوعيّ على بساط البحث والتأمل في نهاية المآل الحضاري الذي يثبت أنّ مواصلة تصدير التاريخ ومحاولة عيشه وفقاً لمقاسات الماضي ما هو إلّا ضرب من العبث واللاجدوى، لأنّ النتائج معروفة سلفاً. من هنا تتشكل الرؤية المضادّة تماماً فالحكمة التي يتغيّا رعد فاضل الوصول إليها في هذا النص هي جعل الحكمة مشرعة للتنوع والتعدد والاختلافات ومنح الحكمة هذا البعد الحواريّ الذي يصدم القارئ ويطيح بالمواثيق الجماليّة والتاريخيّة القارة في وعي المتلقّي.

إنّ الحكمة التي يستحضرها الشاعر وهي حكمة السّلف وتجربتهم كانت تنهض على التعبير شفاها (تظلّ تهتفُ حكمةُ كتابة السّلفِ وقراءتِه) بينما الحكمة المضادّة تستخدم الكتابة، وهذا فرق شاسع بين الحكمتين.

(فيما حكمةُ الكتابةِ الضّالةِ

  كانت كتبتْ مرّةً: كلُّ ضالٍ الآنَ (مُستَقبلاً): مَزار.))

ثمة تعارض وفرق فادح بين الحكمتين. ولأن الثقافة الشفاهية لا يمكن لها أن تكون معرفية بالمعنى الدقيق ولا يمكن لأيّ حضارة أن تنهض دون الكتابة والتقييد، فالكتابة من معايير وبدهيّات تشكّل وتطور كلّ حضارة، إذن نحن أمام وعي حادّ بالفروق الفاصلة والمضادّة للحكمة القديمة الأحاديّة من جانب، وبين الحكمة التي تزيّن الاختلاف والتنوّع  قراءةً وكتابةً من جانب آخر، فالشاعر يعيد تأثيث الحكمة بشكل مغاير مستخدماً تقانة واحدة هي المغايرة وخلخلة النّسق الشعريّ من خلال حمولة السّرد الشعريّة، وكذلك من خلال فكّ المعنى النّاجز للجنس الأدبيّ، ولاشك أن الميثاق القائم بين القارئ والجنس الأدبي يشكل بنية ارغاميّة مُرتهنة لذاكرة تاريخية تتعلق بطبيعة الجنس الأدبي ونوع الفنّ المقدّم للمتلقّي. ولأنّ الحكمة في الشّعر العربيّ كانت ترد بشكل نادر ومتناثرة في القصائد الطوال فكانت من هذا الجانب تتمتع بعامل النّدرة الذي يمنحها سلطة الإغواء والإيقاع بالمتلقي كونها خلاصاتِ تجاربَ مَعيشة وتمتلك وثوقيّة التجربة. ولعل الشاعر من خلال تنصيصه “الآنَ” بـ(مستقبلاً) يحاول دفع الحكمة ومنحها بعداً رؤيوياً كاشفاً عن فضاء المراهنة على المستقبل، فوضع هذه المفردة داخل أقواس التنصيص يجعل المفردة متهمة ولا تمتلك بعداً وثوقياً كما في حكمة السّلف التي تراه بشكل قطعيّ، فتنصيص المستقبل يحيل الدّلالة هنا على الشكّ والوسوسة.. التي تتطابق مع واقعنا بشكل كبير، فهل ثمّة مستقبل فعلاً؟!.

……………………………

[1] – شعرية الحدث النثري، محمد العباس ، الانتشار العربي ،ط1،  بيروت :

[2] –  أنترنيت :   http://thakafamag.comالحداثة الشعرية وهاجس اللغة،عمارة بو جمعة

[3] – شذرات حكمة ضالة ، رعد فاضل،  دار مومنت كتب رقمية _ لندن 2014: 7

[4] – شذرات حكمة ضالة: 7

[5] – شذرات حكمة ضالة: 38

[6] –  شذرات حكمة ضالة : 58

[7] – شذرات حكمة ضالة : 59

مقالات من نفس القسم