سردية مهجر المهمشين في قاع الشمس المشرقة

حنان سليمان
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

حنان سليمان*

“اللقا نصيب” وقد كان نصيبي أن ألتقي بميرال الطحاوي لأول مرة في روايتها الأحدث، درة أعمالها في رأيي وإن لم أقرأ لها من قبل.

شيء ما في ما تروي عنه جذبني. أدب المنفى والهجرة والاغتراب في العادة نخوض فيه رحلات الإنسان المكافح الذي ينجح رغم الصعاب في البلد الذي هاجر إليه، أو حتى يفشل بعد تحقق بسبب ما واجهه من تحديات ترتبط بهويته بشكل ما.

في “أيام الشمس المشرقة” المرشحة لجائزة البوكر العربية هذا العام، تتناول ميرال عالما شديد الخصوصية لم يُتناول روائيا من قبل على حد علمي، عالم المهمشين الذين هجروا أوطانهم البائسة عربية كانت أو إفريقية أو في أمريكا اللاتينية إلى أرض الأحلام بحثا عن رغد العيش، فلم يلقوا إلا التهميش مجددا، وكأن حياة القاع ختمٌ لا يمكنهم الفرار منه أينما حلُّوا، شارة تميزهم لا يستطيعون الفكاك منها مهما حاولوا وارتحلوا، عاشوا وسيعيشون في قاع البؤس أو قاع الأحلام أو قاع الشمس المشرقة، يقتربون من تلال “الجنة الأبدية” حيث يقطن الأثرياء، يتطلعون إليها ويبذلون من أجل الوصول إليها، لكنهم أبدا لا يطؤوها.

في الرواية نعيش مع الجزارين والحانوتية وعمال المناجم والجناينية وعمال تنظيف المراحيض ورعاة المسنين وخادمات البيوت والمقاولين الذين يعملون على شاحنات لإخلاء البيوت المنكوبة بعد إصابتها بالكوارث والحرائق. نرى عالمهم الفقير القذر حتى أن بعضنا قد يرجع لصفحات سالفة ليتأكد أن ما يقرأه يجري في الجنة الموعودة التي هاجروا إليها ليَحْيُوا الأبدية لا في دولهم القاهرة.

مثل هؤلاء يجيدون فنون التفحش والبذاءة من ألفاظ وإيماءات، رجالهم بين تسكع وسكر يعيشون على “عرق النسوان”، لكن ورغم كل شيء ربما يتسلل إلى القارئ تعاطفا معهم حين يختلط واقعهم بالخيال تشهيا لما لم تجُد عليهم به الحياة.

في وقائع “الشمس المشرقة” ألوان من العنصرية يتساقط فيها الناس بالرصاص على جدران المدارس وفي مساكنهم المبنية من البيوت الخشبية المتهالكة فإطلاق النار ظاهرة موسمية كما الحرائق. القيمة الإنسانية لهؤلاء تُقاس بوزنهم الدنيوي ومدى النفع الذي يجلبوه وعليه، لا يُعرف على وجه التحديد من الأوراق سبب الوفاة إن كانت سيارات الشرطة الواقفة بالجوار ضالعة في الحوادث قبل أن ترحل سريعا أم غير ذلك، فغالبا تُقيَّد الحالات كمشاجرات أو انتحار.

ليس من السهل أن يعترف المرء بفشله ولا أن يخيب ظن أهله وأصدقائه فيخبرهم أنه بدلا من الهجرة إلى السماء، هوت به الأقدار إلى أسفل سافلين، لهذا لجأوا إلى الحيلة والخداع.  

❞يحتاج البعض إرسال صورهم إلى عائلاتهم بخلفيات ومؤثرات محددة، مؤثرات بصرية تؤكد نجاحهم ونبوغهم، صور تؤكد أن الحظ رافقهم وأنهم قد حصلوا على ما طمحوا إليه في تلك البلاد، بعضهم يود إرسال صورة زوجته وأطفاله وهم يطفحون بالسعادة في حقل من الورد، وبعضهم يريد فقط أن يلتقط صوره من خلف هذا المكتب وهو يدخن مُدَّعيًا الثراء الفاحش، يجيء زبائنه مستعدين للصور، ثم يتركون لأبي عبد القادر صنع الديكورات اللازمة والمقنعة لخلفيات تلك الصور.❝

حتى المقبرة يحولونها في توثيقهم المزيف إلى حديقة..

❞ تصلح “حديقة الأرواح” بتدرُّجاتها اللونية وأشجارها وأزهارها الصحراوية منظرًا طبيعيًّا يعكس طبيعة تلك البلاد؛ بخاصة إذا التقطت الصور من بعيد ومن زوايا تجعل كشف حقيقتها مستحيلًا؛ تظهر المقبرة في عدسة “أبي عبد القادر” باعتبارها حقلًا من الأزهار والأشجار التي تحتضنها الجبال.❝

نعرف قصصا كثيرة عن “الجنة الأبدية”. بعضنا سمع من صديق أو قريب أو قرأ في كتاب أو صحيفة أو انتقل هو نفسه إليها وعاش الحلم. لكن ماذا نعرف عن حياة القاع في أرض الأحلام؟

❞معظم المهاجرين يموتون فجأة، وغالبًا لا يجدون لهم أُسرًا تتكفل بمصروفات الدفن أو الجنازات.❝

الشمس المشرقة وإن تناولت بلدا بعينه إلا أنها تصلح -بتفاوت بسيط- لسردية مختلفة للبلاد فاحشة الثراء والتقدم فدوما لها وجه آخر تعيشه أقلية داخلها في ظروف معيشية شديدة التناقض مع ما يشيع عن تلك البلاد. تُذكِّرك الشمس المشرقة بدبي مثلا حيث مساكن الخُدّام والعمال القادمين من آسيا طلبا لفرصة عمل، وبهونج كونج حيث يعيش البعض داخل أقفاص حديدية في أوضاع شديدة الضيق والقذارة. أما أمريكا، الجنة الموعودة وأرض الأحلام ومنبت الشمس المشرقة، فتشبه حياة الكوارتر فيها منطقة جنوب شرق العاصمة واشنطن دي سي.

للرواية بصمات تبقى معك عبر أسماء بعض الشخوص والأماكن. لن تنسى مركب “عين الحياة” التي تحمل المهاجرين وكأنها ملاذهم للعيش ولا “حديقة الأرواح” مقبرة الفقراء، ولا شخصيات مثل “نِعَم الخبَّاز” و”السيدة ذات الأوجاع” و”أمر الله”.

عقد كامل تقريبا هو الفارق الزمني بين روايتي ميرال الأخيرتين وكلاهما ترشحا لجائزة البوكر العربية. بعد ما يزيد عن عشر سنوات بقليل رأت وشهدت فيهم الكثير، عادت أستاذة الأدب العربي في أمريكا بعد غياب لتستأنف من حيث وقفت مع “بروكلين هايتس” وتضيف لبنة جديدة إلى مسيرتها الأدبية تقدم سردية مختلفة عن أبناء المهجر يحتفي بها النقاد والقراء احتفاء مستحقا. كان من رزق العام الماضي أني تعرفت على ميرال الكاتبة ذات الباع الطويل في الأدب والإنسانة الجميلة ذات الروح الطيبة، وقد حضرت لها مناقشتين في ورشة الزيتون وفي قنصلية.

أتمنى لهذه الرواية كل التوفيق في سباق الجوائز لأنها بالفعل تستحق بشهادة نقاد أثق في رأيهم قبل أن تكون شهادتي أنا.

……

*كاتبة وروائية من مصر

 

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم