إيقاع … مزج سردي بين الموسيقى والطائفية

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

خالد عبد العزيز 

يستكمل وجدي الكومي في روايته إيقاع ( دار الشروق – القاهرة - 2015 ) مشروعه الروائي الذي بدأه في روايته خنادق العذراوات ( دار الساقي – بيروت – 2013 ) ، ذلك المشروع المُستند على أعادة أكتشاف التاريخ و تحديدا ً تاريخ منطقة بين السرايات . و الأهم إزاحة الأتربة العالقة ببعض الحوادث التاريخية التي قد لا يعرف عنها القارئ شيئا ً . هنا يقوم الكومي بإعادة كتابتها و تغليفها في قالب روائي مُحكم و إن كانت جرعة السياسة زيادة وتفيض . 

يطرق صاحب شديد البرودة ليلا ً في هذا العمل دربا ً شائكا ً دون خجل أو وجل ، يقتحم طريق الفتنة الطائفية و اضطهاد المسيحيين في مصر . يسأل سؤالا ً … هل فعلا ً يوجد أضطهاد للمسيحيين في مصر؟؟ الأجابة بين صفحات الرواية … نعم يُعاني الشريك الاخر في الوطن من ما يُمكن أن يُطلق عليه دون مواربة ” عنصرية ” .

اعتمد الكاتب أثناء كتابته للرواية على تقنية الرواه المتعددون . و أعتقد بالإضافة أن هذه التقنية تتيح للكاتب سهولة التعامل مع شخصياته أنها فتحت نوافذ قلوب الشخصيات على مصراعيها ، فأصبح القارئ يرى الشخصية بكافة جوانبها و يتعرف بسهولة على مكنونها . كل شخصية لديها ما تُخبئه عن الأخرى ، تحوي بداخلها شيئا ً ليس بالضرورة سرا ً قد يكون جانبا ً يُضيف بُعدا ً آخر للحكاية ، لا تكتمل هذه الجوانب إلا مع انتهاء الرواية و مع وصول الحكي للصوت الأخير المُمسك بيده كل خيوط المشكلة أو الفاعل لها .

تبدأ الرواية بجزء من وصية الخديوي اسماعيل لخادمه بقطر الجاولي التي تقضي بمنحه أراضي عزبة الوقف الواقعة بين سرايات أبنائه ( منطقة بين السرايات حاليا ً ) . ” سمحت إرادتنا أن نمنح خادمنا بقطر الجاولي و أفراد أسرته الصغيرة مشمول حدائق و فدادين عزبة الوقف البالغ مساحتها ألف ألف ذراع في بقعة من أروع بقاع الجيزة الغناء الواقعة بين سراياتي أبنائي البرنسات حسن و حسين و أمام حقول و جنان و بساتين ابنتي البرنسيسة فاطمة ” . هنا يكمن حجر أساس الرواية الذي ينطلق منه الحكي .

قسم الكاتب الرواه أو الأصوات إلي تسعة أصوات بدأها بالفصل المُعنون بــ ” العصافير ” تروي العصافير التغيير الذي طرأ على منطقة بين السرايات عبر تاريخها المُمتد بدءا ً من عصر الخديوي اسماعيل حتى عصرنا الحالي مع رصد كافة التبديلات التي جرت . هذا الفصل أو المدخل موفق لرواية شائكة . قد يُخدع القارئ في هذا المدخل الذي يبدو حالما ً نوعا ً ما ، لكن بُمجرد عبورنا المدخل ، سنطأ منطقة مغايرة وعرة .

المُلفت في هذه الرواية أنها تلقي الضوء على موسيقى ما يسمى بالــ ” المهرجانات ” . من خلال شخصية أحمد خريشة ساكن بين السرايات القديم ، ذلك الكهل الشاهد على عصر فات و بداية عصر جديد . يعتبر المنطقة إرثه ، مما يجعله يتدخل في شئون الاّخرين . فيلتقط بعينه ما يسعى حسبو و حمزة أبو نور إلى عمله في المنطقة من شراء المنازل و تهجير أهل الحي بايعاز من حمزة ابو نور زوج شفق ابراهيم الراغبة في استعادة أملاك جدها . مثلما كان خريشة شاهد على العصر هو ايضا ً شاهد و مشارك و في محاولة إفساد الذوق العام بموسيقى المهرجانات . بمعنى أدق هو نفسه دليل على الأنحدار الذي وصل إليه المجتمع .

أما المهندس عزيز بطرس فيني طليق السيدة شفق ابراهيم حفيدة بقطر الجاولي صاحب أراضي عزبة الوقف ( بين السرايات ) فهو ضحية الأب المُتعدد العلاقات النسائية و الخادم الأنيق المُتشدد ، فبدا كأنه بين طرفي مقص ، كل منهما يُشذب و يقص في شخصيته و فق أهواءه . و كنتيجة لتلك التربية الغير سوية يعتقد عزيز في المرأة بوصفها كائنا ً لتفريغ الشهوة وليس أكثر ، حتى نظرته لزوجته السابقة شفق قبل أن يتزوجا لم تخرج بعيدا ً عن هذا الإطار . يعود عزيز لمصر بعد سنوات من الغربة ، لينغمس في مشروعاته و يكاد ينسى زوجته ، لتتعقد العلاقة بينهما مع أزدياد حجم فكرتها المجنونة باستعادة اراضي جدها من الدولة . لنجد أن المشاكل المشتعلة بينهما ما هي ألا انعكاس للتغييرات و الأضطرابات التي تجري في المجتمع  قبل بدء ثورة 25 يناير .

و كما ذكرنا أن الرواية ترصد معاناة الأقباط ، نأتي للفصل الذي يحكي فيه الأنبا الذي رفض ذكر اسمه فنجده يحكي عن شفق التي غيرت دينها و لجوء عزيز للكنيسة التي لم تنصفه . و حينما يسعى للزواج مرة أخرى بأعتبار أنه الان غير متزوج بعد اسلام زوجته السابقة و تزوجها من الداعية حمزة ابو النور ، ألا أن الكنيسة ترفض أيضا ً . المهم في هذا الفصل غير أنه يرصد مشاكل الاقباط حتى مع الكنيسة ألا أنه يلقى الضوء على العلاقة بين الأنبا – الذي يحكي الحكاية مُضيفا ً لها جانبا ً اخر – و البابا شنودة ( طبعا ً لم يتم الأفصاح عن اسمه ) . كل منهما مُتمسك بمبدأ مُخالف للأخر . الأنبا يدعو للتجديد و القبول بالطلاق ، والبابا يرفض كما اقتضت التعاليم الأولية للكنيسة .

شاندور عالم الأثار الالماني الذي يزور مصر للعمل كأستاذ زائر لفترة مؤقتة في كلية الأثار جامعة القاهرة . الذي بمجرد وصوله لمصر يقع ضحية عملية نصب مُتقنة . أسهب وجدي الكومي في وصف واقعة النصب التي تعرض لها شاندور أستغرقت حوالي ما يقرب من 30 صفحة بالأضافة لسرده عن زياراته للمناطق الأثرية . الحكي ممتع لكنه كان سيكون أكثر أمتاعا ً لو كان أقل بعض الشئ . يروي أيضا ً ذلك العالم المشكلة بين شفق و عزيز لكن من منظوره هو ، فينقشع الضباب شيئا ً فشيئا ً مما تتضح الصورة أكثر .

من أجمل شخصيات الرواية جوجو أو أيوب لويس مسيحة . هنا يكتمل الموزايكو ، نكتشف بعدا ً آخر للأزمة . جوجو الذي يهوى الموسيقى يرتيط بقصة حب مع دميانة التي تُختطف على يد زهران العضو في تنظيم خطف البنات المسيحيات و إجبارهن على الإسلام، لعل من أجمل مشاهد الرواية المشهد الخاص بثورة 25 يناير و جوجو مُمسك بالأوراق التي تحوي صور دميانة و تاريخ تغيبها . يقوم جوجو بالقاء الأوراق في الهواء فيلتقطها البعض ، لكنهم هذه المرة لا يمسحون بها عرقهم . عبر هذا الفصل يتضح سر عنوان الرواية ” إيقاع ” . نغوص مع جوجو مع فكرة هذه الموسيقى و بدايتها و طريقة أدائها .

التضاد الكامل الذي يُبرز المعني و يوضحه يتضح في شخصية زهران و الشخصية المضادة لها حمزة أبو نور . فنهاية زهران بعد ثورة 30 يونيو دامية تُشير إلى أن الضحايا دوما ً من الشباب أو المضحوك عليهم بأفكارعن قيادة و أستاذية العالم أفكار سيد قطب المُتطرفة، وعلى الجانب الاخر شخصية حمزة أبو نور الذي رغم سجنه ألا انه في زنزانة مُجهزة و يستدفئ ببطانية على عكس الضحايا الشباب الملقون في الاستاد أو الذين ذهبت أرواحهم سدى .

بوصول السرد إلى شفق إبراهيم نصل لأول و آخر المشكلة ، هنا تتضح خيوط اللعبة بالكامل ، وللحق نجح صاحب خنادق العذروات في جعل القارئ متشوق ليعرف المزيد عن هذه السيدة اللغز فجعلها في نهاية الرواية ليضمن استمرار القارئ في القراءة . شفق إبراهيم سيدة قبطية متزوجة من المهندس عزيز بطرس تجري وراء سراب استرداد اراضي جدها بقطر الجاولي بعد أن قرأت الوثيقة التاريخية التي أحتفظ بها جدها و تركها لها . تسرد شفق المفارقات التي تجري لها بوصفها مسيحية و تذكر بعضا ً من التاريخ قبل دخول العرب مصر . لنستنتج أن محاولات شفق استرداد بين السرايات ما هي ألا رمز لفكرة أعمق لاسترداد مصر أو يمكن أن نقول إعادة كتابة التاريخ . المشهد الخاص بتغيير شفق لدينها من اهم المشاهد ، الحيرة التي تنتابها مع دخولها الإسلام ، حتى يُصبح الدين بالنسبة لها أعتياد بعيدا ً عن كونها مُقتنعة به أم لا .

جاء مشهد النهاية مُعبرا ً للغاية أو من الممكن أن نقول أنه يتنبأ بعصر ما لا أدري إن كنا سنراه أم لا ، جوجو الذي يسافر إلي المانيا لعرض ذلك النوع من الموسيقى بُمساعدة شاندور ، في إشارة إلى عصر تتعاظم فيه موسيقى المهرجانات و انتشارها عالميا ً .

الرواية مُمتعة للغاية و تُمسك بتلابيب القارئ ، وتجعله ينجذب لعالمها الشديد الواقعية ، وإن كان جمالها لا يمنعني أن أهمس في أذن وجدي “أرجوك خفف من جرعة السياسة ، فالسياسة لعبة قذرة لا تلوث بها سردك الجميل” . 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قاص وكاتب مصري 

مقالات من نفس القسم