رُوبير سَاباتْيِي Robert Sabatier
ترجمة: مبارك وساط
–أَركض خلف عُمري–
أركضُ خَلْفَ عُمْري، فهل سألحق به، في الأخير، وتُصْبِحَ لي ملامح تُلائمه، بها تجاعيدُ
الحكمة وغُضونٌ على الجبين، مع تلك الابتسامة المتسامحة في وجه الحياة.
انتهى زمن النّظر إلى الفتيات بتلك النّظرة التي تعرف، زمنُ رِضَا المرء عن جَسَدِه وعن
الآخر الذي يُجيبُ بتواطُؤٍ رقيق.
سيلزم اكتشاف ألعاب أخرى، دراسَةُ مُناوراتٍ، من باب التّحلّي باليَقَظة للدّخول في ما لم تكن تنتظره وهو ينتظرك بلا ابتسامةٍ حَتَّى.
وإذا اخترعْتُ لهذه اللعبة قواعد أُخْرى؟
وإذا غشَشْتُ، ودمّرْتُ هذه القصيدة لأكتبَ أخرى تقول إنّ لديّ الوقتَ لانتظار أزهار الليلك
وإهدائها لجميلاتِ هذا الوقت؟
*
–لَدَيَّ أصدقاء–
لديّ أصدقاء أكثرُ جِدِّيّةً منّي.
لي عن الحياة إحساسٌ مأساويّ
أتكتّم عليه – بضحكةٍ في مواجهة خنجر،
الرّأسُ بارد والشّعلة بداخله
حين تكون كلّ الكلمات من حبر الدّموع.
أنا لا أُشْبِه أحدًا، حتّى ولا
مَثيلي المطابقَ لي: فهو يبكي حين أضحك
وحين يَصْرخ، يُسْمَعُ صَمْتي.
هل من حَقِّهِمْ أنْ يعتقدوا أنّ على الوجه أنْ ينْغَلِق مثلما بابٍ
أَسْوَدَ حين يطرقه الآخر طالبًا ملاذًا؟
لديّ أصدقاء، أنتقدهم قليلًا، أقلَّ ممّا أنتقد نفسي:
أؤاخذ نفسي بكوني لا أراهم إلا بعينين بعيدتين،
بالعينين المهجورتين لعابرٍ يَبتعِد.
**
–كلمات حُبّ–
كلماتُ الحبّ أبدا لن أسمعَ موسيقاها مستقبلًا.
سأشعرُ بالخوف من الصّمت، أنا الذي كنتُ أحبُّ أنْ يَرِين!
أوشوش أحيانًا لأعطيَ انطباعًا بأنّ آخَرَ هو
الذي يتكلّم، أتكلّمُ وحدي مُحَاوِلًا أَنْ أكون اثْنين.
الجدار عارٍ.
عليه أتملّى ظلّي.
شُكرًا يا ظِلِّي. يا رفيقي اللطيف! وأنتِ أيّتُها الذّاكرة، أنْعِمي عليّ بِذِكْرَى
فأرى حياتي كحلم: كلّ ذلك الماضي أتخيّله مستقبلًا.
–حين حانَ وَقْتُ…-
حين جاء وقت الاعتقاد، شَكَكْت.
لا تستطيعُ غير ذلك، فالشّكّ هو اعتقادُك.
الشّكّ يرتدي لباسًا لحفلةٍ راقصة، وهو شَرِس، ولا يرقص.
المنفى هو أن يفقد المرء الذّاكرة، أن يرى رُوحَه التي نسيت كلَّ شيء تهيم
بلا انتهاء في أبديةٍ
حيث العدم يُلَطِّخُ بِحِبْرِهِ ذكرياتك، تلك
الأشياء الواهية التي تجعلك تعيش.
تتحدّثٌ عن الرّوح وتقول إنّك تَشُكّ.
تناقض؟
كلّا! ما هي إلّا فاصِلةٌ أضاعتْ جُملتها بالخطأ، خُطّافٌ نَسِيَ أَنْ يُهاجِر، وربّما أنتَ
في هيئةِ نَمْلَةٍ حَزِينة.
– ما دُمْتُ أنا–
أمنحُ نفسي ما دُمْتُ أوجَد للقصيدة
المرأة التي تريد أنْ تُمْسِكَ بي هي هنا
سيّدتي
المَنِيّة، وهي سَيّدةٌ شديدة القدرة على الرّكض تجري دائما أسرع من قلمي.
إذا استضأتُ بمصباح الكلمات، تتراجع هي، فهي تخاف الضّوءَ لأنّها شبح، شبح يتبعني في انتظار أنْ يسبقني.
اطمئنّي، فحين سأمضي صوبك، سأكون عاريًا، ولن يكون معي سلاح القصيدة، سأحمل إليكِ كَمهْر ابتسامةً عَريضة أو حَرَكَة لَيٍّ للشّفتين تُلائِمُك.
أمّا القصيدة، فيمكنها أن تعيش من دوننا.
–أحيانا أكون–
أحيانًا أكون شجرة مُعَيَّنَة وأحيانًا أخرى أكون شجرةً غَيْرَهَا ويحدثُ أنْ أكون الاثنتين معًا
وأسعى جاهدًا إلى أن أفكّر باعتباري شجرة بلّوط، أو انطلاقًا من كوني شجرةَ قَيْقَبٍ – فلا أفكر.
لكيْ أحاكيَ الشّجرة عليّ أنْ أبقى بلا حراك لكنّ الشّجرة تمشي ونحن لا نعرف ذلك.
إنّها تمضي هائمة هكذا من فصلٍ إلى آخر لتتناغم مع كُلٍّ من الرّقصات.
فهل أنتجتُ ورقةً، هل أنتجتُ ثمرة؟
وعلى لحائي، هلْ احْتُفِرتْ أَسْماء؟
هل غادرتُ الغابَة؟
وإذا كان ظِلِّي يمنح حماية، فذلك لا يُقالُ لي.
لديّ العديد من الأعشاش في قلب أغصاني وعصافيرُ تُسَمّى أفكارًا والكثيرُ من الثّمار حدّ
أنّي أقوِّس ذِراعيّ في انتظار أنْ تُجْهِزَ عليّ الصّاعقة
*
–شَـعْبُ الشّمْس–
(مقطعان)
-1-
ينسابُ بين أصابعي همسُ العالم
لا أعرف هل هو حيّ
هذا الطّائرُ الذي أُمسك به
أم أنّه يريد أن يغفو
منعزلا في راحتِي.
في حاجة أنا إلى نشيده،
لا غنى لي عن تحليقه
هو أبيض، هذا الطّائر،
أسمّيه حمامة
إنّه المبعوث الوضّاء
لأسلحة الرّبيع
وأنا المجروح
من كلّ هذا الامتداد الأرضي وهذا الموج
أترك طائري
يحلّق في الزّمن.
-2-
حين أصارع الوحوشَ وأواجه الحروب
دونما شمس
سوى دِرع قلبي
ستتبعانني يا عينيّ إلى أعلى من الصّلاة
وأنتِ يا يدِي التي من لَهَب
ستقطفين
في مملكة الزّهورِ
الزّنابقَ والصّعترَ والسّمسق
ولطمأنة الآلهة
ستقطفين الموت.
حين أصارع الوحوش
وأواجه الحروب
ستتبعانني يا عينيّ
ستتبعُني يا جَسدي.
**
– القالَب–
في ذلك الزّمن، كان الكون يتدفّقُ
في كاملِ جسدي الذي يكون قد أصبح
من شمع رَخْو.
وكنتُ أصيرُ أوديةً، جبالًا، حقولًا، وأنهارًا
وفي نظام الكواكب، كنتُ أعلم
أنّه يكون بإمكاني أنْ أعيشَ مُجَدَّدًا،
كنجمةٍ زرقاء.
أيّتُها الطّبيعة، هل أنتِ بعيدةٌ إلى حدّ كبير عن طبيعتي؟
الأَعْلَوْن يَمضون في ضوء النّهار، مُلْغين
بكلماتهم مصائر الكون.
يبتسم إلهٌ بين الكائنات الزّائلة
من كونه لم يعد سوى آخر الفانين.
بين الشجرة وبيني تمتد أَفْضِيَةٌ
تزداد على الدوام اتساعا. أيّتها الأراضي البور المُمَزَّقة،
يداي الطّويلتان العاريتان هما الغُصنان الأخيران
لأُعْطِيَةٍ كاملة يَتَخلّى عنها الطّائر
وأمْضي إلى المدينة دونما جناحين.
*
– جرائم البحر–
على هاته الضّفّة حيثُ يهدأ الموج
يمضي الاطفال الذين كانوا قد انبهروا.
اِسْمَعْ صَرَخاتهم.
هنالك نساءٌ يُنادينهم.
يجيبُ الطّائر بأنّ الأطفالَ قد ماتوا
لأنّهم رغبوا في المشي في أعماق المياه.
هل عِشْتَ في قُصور الرّمال
حين كان المحيطُ يَضْحك
من كَوْنِه يلحسُ أطرافَهُم؟
إنَّ سُفُنًا سوداءَ حُمُولتُها
وحوشٌ كاسِرة مِن ذهب منتزعةٌ
من أغوار اللجّ
تُهَدِّد وَجْهَ السّماء.
البحر، البحر، له شريعة قِرْشٍ شديد الشراسة،
البحر، هذا الوحش الكاسر المتربّص باللحم،
من الذي كان يتغنّى به داخل المحار؟
هو الطّيّبُ جِدًّا بَلْ والذي يبسط حمايته
لمْ يكنْ مفعمًا سوى بالسّعار
وما يَنِدّ عنه هو أصواتٌ لبراثن.
ذُو رأسِ ميّتٍ هو البحر، ذو رأسِ قاتل.
قلبُ ثعبان تحت جِلْدِه المُتلامع،
تحت مظاهر جماله التي، على الدّوام
تُلْهِم شَفَتَيِّ الرّيح لتقول الأبديّة،
هنالك البحر الغول الذي يتربّص
بالسُّفُن الغريقة.
على هذه الضِّفَّة قد يبقى لساعات
لينصتَ للهمساتِ المُهَدْهِدَة
ذلك الشّاعر الشّيخ الذي يَشْدُو بأمداحٍ عتيقة
أما أنا فلا أرى إلّا موكبَ مَوْتَى
على الرّمل يطْرَحون عظامهم.
وأَشْتُمُكَ بكلماتٍ حجريّة
أيّها الشّيخُ ذو لباسِ البلاط البرّاق
الذي يَلِدُ الإنسان ليتغذّى عليه
مالذي يُلْقي في وجوهنا بِصُوَرِه المكرورة
التي هي بصقاتٌ في وجه النّهار.
………………………………
رُوبير ساباتييه: شاعر، روائيّ وكاتب فرنسي (1923-2012). ألَّفَ: “تاريخ الشِّعر الفرنسي”، في تسعة أجزاء. من مجموعاته الشِّعرية: “الأعياد الشّمسيّة”، “إهداءُ سفينة”، “الأسماك الشَّهِيّة”، “إيكارْ وقصائد أخرى”، “ضوء حيّ”… وفي مجال الرّواية، عُرِفَ خاصّة برائعته: “أعواد الثّقاب السّويديّة”، التي يتناول فيها طفولته في حيّ مونمارتر الباريسي – وهي الأولى من سلسلة روايات- وإثْر صدورها، اكتسبَ صاحبها شعبيّة كبيرة في فرنسا وخارجها .





