أيام مثالية لرجل يبدو عاديًّا في المدينة الوحيدة

فيلم أيام عادية
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

ليلى عبد الله

تستدعي الكاتبة «أوليفيا لاينغ» مؤلفة كتاب «المدينة الوحيدة» مغامرات في فن البقاء وحيدًا، ترجمة محمد الضبع. تداعي الوحدة على المرء في عالم شديد الصخب بقولها:«بإمكانك أن تكون وحيدًا في أي مكان، ولكن هناك نكهة خاصة للوحدة التي تعيشها في مدينة وأنت محاط بالملايين من البشر» فعلى الرغم من الحضور البشري الهائل يبدو الفرد وحيدا وبائسا.

لكن المخرج الألماني «فيم فيندرز» بالتعاون مع المخرج الياباني «تاكوما تاكاساكي» قدما أنموذجًا مغايرًا لوحدة فريدة من نوعها في فيلمهم المعنون «أيام مثالية» من خلال شخصية بطلهم الياباني«هيراياما» الذي يجسده الممثل الياباني «كوجي ياكوشو» وهو عامل نظافة لمراحيض طوكيو.

يبدو «هيراياما» الذي يعيش وحيدًا في شقة صغيرة في حي داخلي من أحياء طوكيو في العقد السادس من عمره. تمضي يومياته على النمط نفسه كل يوم وبالحس النفسي ذاته. يبدأ في الاستيقاظ من نومه قبيل طلوع الشمس. ومن خلال نافذة غرفته الوحيدة يستطيع المرء أن يتنبأ بحالة الطقس، مشمسا كان أم مبللا بأمطار غزيرة. يقطعها بخفة إلى ماكينة المشروبات الغازية القريبة من مسكنه ليسحب منها كل صباح مشروبه المعتاد وهو علبة قهوة اسبريسو الباردة، يكرع أول رشفة منها وهو خلف مقود سيارته ليمضي إلى عمله على نغم أغنية أمريكية كلاسيكية يختارها بعناية من مجموع شرائط الكاسيت المكدسة بترتيب ظاهر في أعلى ركن من أركان حافلته الصغيرة التي تفيض مقاعدها الخلفية بمعقمات وأدوات تنظيف المراحيض العامة. يسبر الشارع المكتظ مع كلمات أغانيه التي تفيض بالحيوية مع ابتسامة تجعل تقاطيع وجهه الباردة ودودة. تلك التفاصيل الضئيلة التي يتسّم بها روتينه تتّسع حتى في أثناء استغراقه لممارسة عمله في التنظيف الصارم حتى لأدق تفاصيل الأشياء، ليجهّز للعامة، للآخرين، العابرين مرحاضا يشع بالنظافة والتعقيم. ورغم جديته الصارمة في التنظيف يبدو ميالا إلى التنامي مع الناس والطبيعة من حوله مخففا من حدّة الغموض الذي يكاد يكون مكلّلاً بشخصيته. وفي طريق العودة يركن حافلته في مقابل شقته ليخرج منها سريعا حاملا معه سلة بداخلها منشفته الشخصية وعلى متن دراجته الهوائية يمضي إلى حمام سونا العام في شارع قريب. يسترخي في حوض يفيض بالمياه الساخنة مستمتعا بسكون الأرجاء من حوله. وحين ينتهي من حمامه اليومي يقود دراجته بيده تاركا إياها في وسط طريق قريب من مترو أنفاق يهبط سلالمها على قدميه ليتعمق في طريق محفوف بالأسواق الشعبية والمطاعم التقليدية. يتناول في إحداها وجبته وسط صمت مهيب رغم تدافع حماسة بعض الرجال من مشاهدة مباراة محلية يتفاعل معهم بابتسامة حيوية مُنهيا وجبته ومغادرًا إلى البيت ليسترخي في فراشه الأرضي وعلى ضوء أباجورة الخافت يقلب صفحات من روايات أمريكية الطابع كروايات فوكنر.

أما في يوم العطلة. فيشهد روتينه بتفاصيل أكثر ذاتية. ينهض متأخرًا قليلًا، يحمل ملابس عمله إلى المغسلة العامة ثم يعرج على مكتبة تديرها امرأة. تنحصر أغلب خياراته في روايات أمريكية الطابع وكتب أشعار لشاعرات من اليابان يغلب على أدبهن هواجس القلق والوحدة.

على هذا المنوال الذي يبدو رتيبًا وعاديًا يعيش «هيراياما» أيام حياته. رغم معايشته العادات نفسها مرة تلو المرة. لكنها لا تبدو وهو يمارسها بشكل يومي بأنها تفاصيل راكدة بل يمكن القول بأنه رجل يستمتع برفقة نفسه. هائم في عوالم خيالاته. مستغنيًّا عن العالم كله عبر خيارات تنعش أوقاته كقراءة القصص والكتب واستماع لأغان عتيقة من كاسيت قديم، أو جولة على دراجته الهوائية في الهواء الطلق. أو حمام سونا. والتجول في المكتبة.

ما يميزه أنه لا يمارس روتينه بطريقة آلية بل يبدو مستغرقًا في المتعة، مضمخًا بصفاء الذهن والسلام الروحي، سابرًا ومطمئنًا في وحدانيته وكأنه الكائن الوحيد في الكون.

حتى أن ابنة شقيقته حين باغتته بزيارة مفاجئة تآلفت مع طبيعة حياته كما تعلقت بعاداته اليومية بل أبدت فضولا تجاه كتبه ورواياته التي كان يستعيرها من المكتبة، وتحفزت لطريقة تفانيه في عمله وعاونته في تنظيف بعض المراحيض على الرغم مما قد يبدو للبعض بأن عامل تنظيف مراحيض عامة قد يكون محاطًا بالقذارة. ناهيك عن معاملته بالدونية ونحو ذلك، لكن تركيبة شخصية «هيراياما» أضافت بعدًا جماليًّا لعامل المراحيض العامة باعتبارها وظيفة كباقي الوظائف التي سيظل المرء يمارسها طوال حياته دون شعور بالعار أو النقيصة.

قدم الفيلم بشخصية البطل أنموذجًا مثاليًّا لوحدة مثالية، فالبطل وحيد لكنه سعيد. يعيش وحيدًا غير أن أوقاته ممتلئة. يستمتع بالمتع الصغيرة التي تآلف معها. قد يراها الآخرون عادية لكنها في وقتنا الراهن حيث البشر المحاطون بحيوات غاية في الآلية والجمود تكاد تكون نمط حياة «هيراياما» وعزلته مع ذاته وهواياته المتعددة والتي طبعت بطالع ثقافي مذهلة. حياة معافاة. خيالاته شاعرية لكنها ذات صلة بالواقع. نائيا كيانه الفردي عن حياة افتراضية ومتخففًّا من ثقل الأسماء المستعارة أو الحسابات الوهمية، حتى هاتفه لم يوظفه في الفيلم سوى لاستقبال اتصال مسؤوليته في العمل أو لاتصال طارئ بزميل عمله الذي عزم دون سابق إنذار أن يستقيل مسببا ربكة لطبيعة الدقيقة، ولشعوره بالمسؤولية المتفاقمة لإنجاز عمله على أكمل وجه.

وحين نعود لنستعرض وحدة الأشخاص الذين لامستهم مؤلفة كتاب «المدينة الوحيدة» نرى أنها انتخبت نماذج شوهتها الوحدة. شخوصا محاطين باضطراباتهم، أرواحهم قلقة، تلاحقهم هواجس الماضي الداكن. غريبو أطوار. قلبت الوحدة أحوالهم من الخارج. يبدون أناسا مهمّشين، يمارسون مهنا مهمشة، بالرتابة نفسها، صلاتهم لمن حولهم معدودة، بل تكاد تكون معدومة. يبدون من هيئاتهم خطرين أو مشردين، مثيرين للشفقة في آن، على الرغم من أن أعماقهم تصطخب إبداعا، منغمسين في مواهب فنية وإبداعية عالية وساحرة بل خارقة للعادة أيضا.

لكن وحدة البطل الياباني تبدو مثالية كأيامه. وحدة صحيّة، تكاد تكون منسية أو مفقودة. وحدة تصقل شخصية المرء، تجعله يبدو حقيقيًّا في عالم افتراضي، تكاد تلامس ما ذكرته الكاتبة الأمريكية «فيرجينيا وولف» في مذكراتها سنة 1992م حيث وصفت شعورًا بالوحدة الداخلية، وكانت تحاول أن تحللّه: «فقط لو أستطيع القبض على هذه الشعور: إنه شعور سماع غناء العالم الحقيقي، تأخذني إليه الوحدة والصمت لأبتعد عن العالم المليء بالبشر».
 

مقالات من نفس القسم