“عبد لاثنى عشر عاماً”.. شريط سينمائي صارخ ووحشي

"عبد لاثنى عشر عاماً".. شريط سينمائي صارخ ووحشي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام
إبراهيم الملا يتتبع فيلم (عبد لاثنى عشر عاماً) من خلال رصد بصري مشوق وشائك، درب الآلام والعذابات التي خبرها جسديا وسيكولوجياً العامل الأسود سولومون نورثوب الذي تم اختطافه في أواسط القرن التاسع عشر من مدينة نيويورك إلى مدينة نيو أورليانز، وبيعه هناك في سوق الرقيق، قبيل نشوب الحرب الأهلية، كي يعمل مزارعاً وبأدنى شروط الكرامة الإنسانية، في حقول الإقطاعيين المتنفذين في عهد العبودية البغيضة والموسومة كعلامة خزي وعار لا يمكن محوها بسهولة من ميراث التاريخ الأميركي المعاصر.

 يستلهم فيلم (عبد لاثنى عشر عاماً) ــ المرشح بقوة لنيل جوائز مهمة في الدورة القادمة من حفل الأوسكار ــ مساراته الدرامية من قصة واقعية وأحداث حقيقية عاينها سولومون نفسه ودوّنها في مذكراته، ووثّق فيها الانعطافة القاسية في حياته بعد اختطافه من قبل مجموعة من التجار البيض الحاقدين، خصوصاً بعد حصوله على صكّ تحرير من العبودية، وهبته إياه السلطات الرسمية في نيويورك، وهو الصك الذي ساهم في صعود نجمه كإنسان حر ومتمتع باستقلالية مهنية وعائلية وبقدرة على منافسة الرجل الأبيض في التعليم، وحيازة قدر معقول من فنون القراءة والكتابة والعزف على الكمان، وهي فنون كانت تؤدي في ولايات أخرى إلى لف حبل المشنقة حول رقبة الرجل الأسود المتوفر على هكذا مهارات ثقافية محرمة على الملونين من غير البيض. الفيلم من إخراج ستيف مكوين المولود في لندن العام 1969، والذي يعتبر واحداً من أهم المبدعين في مجال الفنون البصرية في بريطانيا، وسبق له إدارة عدة أفلام مثيرة للجدل، وسببت الصدمة للكثير من المتابعين لنتاجاته. فهذا السينمائي متفرد في صياغاته الأسلوبية وفي انتقائه لمواضيع حساسة ولمحطات حرجة في التاريخ البريطاني والأميركي، ونذكر من هذه الأفلام فيلمه الصادم ( الجوع) الذي يمثل باكورة أعماله الروائية الطويلة، وتناول فيه معاناة السجناء والموقوفين بتهمة الانتماء لحزب العمال الأيرلندي إبان تولي مارجريت تاتشر رئاسة الحكومة البريطانية، وهو الفيلم الذي حصد في العام 2008 جائزة : «الكاميرا الذهبية» في مهرجان كان السينمائي في فرنسا، كما عرض الفيلم في مهرجانات عديدة من بينها : «سيدني» و«تورتنو»، وقدم مكوين فيلماً مهماً آخر حول الحيرة الوجودية للإنسان في الأزمنة الحديثة، وحمل الفيلم عنوان (العار) ورشح لجائزة البافتا في العام 2011. عرضت أعمال مكوين في عدد من المعارض والمتاحف حول العالم، كما فاز بجائزة «تيرنر» عام 1999، إضافة إلى منحه لقب «التميز البريطاني» عام 2002 وهو أعلى مستويات التكريم في بريطانيا.

وفي عمله الجديد هذا يميط المخرج مكوين اللثام عن حقبة انطوت على الكثير من الخبايا والأسرار المتعلقة بتجارة الرقيق في أميركا والظروف الوحشية واللاإنسانية التي تخللتها، وخلفت وراءها ذكريات داكنة مبتلة بالدموع وملطخة بالدماء والصرخات المنسية في أقبية ودهاليز الأرشيف المبعثر والممزق حول عنصرية الرجل الأبيض ونشوء العبودية في أميركا.

 

المسكوت عنه

يلتقط مكوين هذا الخيط الدرامي الملتهب كي يقحم المشاهد ومنذ بداية اللقطات التأسيسية في (أوديسا الجحيم) مع الشخصية الرئيسية في الفيلم (سولومون)، والتي يجسدها هنا الممثل الأميركي (تشويتيل إيجيوفور)، لينقل وفي مزيج متداخل من الآلام الجسدية والمعاناة الروحية والإدانة التاريخية ما يمكن أن نطلق عليه: «التابو السينمائي» الذي لم تجرؤ الكثير من أفلام هوليوود على التطرق إليه بمثل هذه الجرأة وبمثل هذا الوضوح والانكشاف الصادم الذي رأيناه في الفيلم. إن هذا الأذى الفيزيائي الذي يعرضه لنا شريط قاس ودموي مثل فيلم (عبد لاثنى عشر عاماً) يبدو لصيقا أيضاً بأسلوب المخرج في نقل الضحية من مرتبة الخنوع والإذلال، إلى مرتبة أعلى تتشكل وتتسامى في أفق مضاد من التضحية والألق الوجداني، عندما يتحول الألم نفسه إلى رصيد مكثف من الخيالات البطولية التي تشبه الأيقونات الصاعدة وسط الخرائب والخطايا البشرية، حيث يبرز البطل سولومون هنا كمثال نقي للباحث عن الحرية ليس في كونها مطلباً فردياً فقط، ولكن في تعميمها كوهج ممتد نحو المستقبل ونحو الغايات المتحفزة لمئات الآلاف من المسحوقين تحت وطأة الخوف والانكسار والانهزام المؤقت. ورغم تباين واتساع كادرات التصوير في هذا الفيلم مقارنة بفيلمي (الجوع) و (العار) التي انحاز فيها مكوين للفضاء المحصور والحيز البصري المغلق، إلاّ أن تقاطع الثيمات العامة لهذه الأفلام الثلاثة، ظلّ حاضرا في تصوير بشاعة الاستبداد من خلال اللقطات المقربة التي تكاد تلامس المتفرج في الصالة، خصوصا في المشاهد التي تنقل جلسات التعذيب عند جلد العبيد وتمزيق لحومهم تحت وقع السياط، وكذلك عند تصوير الهلاوس والكوابيس المتجسدة التي تعكس بشاعة وتسلط الإقطاعيين والتي يمثلها هنا وبسطوة مرعبة الممثل (مايكل فاسبيندر) الذي شارك كممثل رئيسي في أفلام مكوين السابقة، وكان له حضور باهر ومميز فيها، حيث يحمل هذا الإقطاعي السادي وصاحب مزارع القطن الشاسعة، الكثير من الذرائع الدينية التي يقتبسها من (الإنجيل) ليمنح فعل العبودية ما تستحقه من شرعية مقدسة، ولكن سلوكياته الشهوانية المنفرة تجاه إحدى العاملات السود والتي ينظر إليها في الوقت ذاته ككائن مسخ لا ينتمي للنوع البشري، يعبّر عن إشكالية نفسية مريضة، ويؤكد على مدى التناقض والجنون المسيطر على مثل هذه الشخصيات السيكوباتية وغير القادرة على خلق فاصل معقول حتى بين تلك الهوة العميقة التي تفصل بين العبد والسيد أو بين الأجير ورب العمل.

 

متاهة العذاب

يتتبع الفيلم أيضاً الكثير من المشاهد المروعة التي اختزنها سولومون في ذاكرته طيلة 12 عاماً قضاها في متاهة فائضة بالبؤس والقهر، ومن خلال خبرة متراكمة صنعت في داخله طاقة متأججة من التمرد الوجودي والبحث عن خلاص من الأسر المجحف الذي فصله عن عائلته، والذي بدا في لحظات كثيرة مثل أفق مغلق وسجن لا نهائي بات يعزله تدريجياً عن شخصيته الحقيقية ليتحول الانسحاق أو الكبت إلى عنوان ملوث لمن يدخل نفق العبودية ولا يجرؤ على الفكاك منها. يجمع فيلم (عبد لاثنى عشر عاماً) هذا الحس السينمائي الملحمي الذي يزاوج بين الأضداد، ويكسر الحاجز الافتراضي بين التوصيفات الثنائية كالرهافة والعنف، والرهاب الشخصي وجماليات الطبيعة، ومن دون أن يتخلى الفيلم عن رغبته في فتح الملفات المغلقة حول مآسي العبودية وإعادة الاعتبار لضحاياها المنسيين، وهو أيضاً عمل يسعى للتوليف بين النسق التسجيلي للوقائع والأحداث المرة التي حفلت بها القصة الأصلية، وبين التداعي الفني الحرّ، والانفلات وسط حقول زاهية من الحلم الإنساني المغروس مثل وتد لامع بين الذاكرة كأصل، وبين الصورة السينمائية التي تحتفي هنا بأهميتها التاريخية والفنية رغم بشاعة الواقع المحيط بها، ورغم الاضطهاد البشري، الذي لا يمكن له أن يستمر للأبد.

مقالات من نفس القسم