“أميلي”.. أن تسعى لإبهاج الآخرين فتسعى إليك بهجة الحب

أميلي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

يوسف نعمان

العزلة، والوحدة، بلا شريك، فى هذا العالم القاسى، هى أمور تراجيدية للغاية، تجلب الشجن تارة، والأحزان – إن شاءت –  مرات أخريات.

جرت العادة، عندما أتحدث أنا، وأنت، وهى، وهو، والسينما والرواية والمسرح، والعالمين، عن عزلة إنسان له  تاريخ أو حياة مضنية تملأها العزلة، أن تٌجلب إلى أبصارنا ومسامعنا مشاعر تغلبها التراجيدية، يمتزج بها البكاء، وتقتحمها الذكريات المؤلمة التى شكلت خوفنا، وربما بذلك تزداد عزلتنا، وتزداد معها رهبة الخوض فى البهجات التى تقترب إلينا، لما قد يعترينا من إحباط خشية زوالها.

إلا أنه كان مبهرا للغاية، ومبهجا بشكل كبير، أن تأتى سيِر العزلة والقسوة والتراجيديا، بلا تراجيديا، أن يُصنَع فيلم لا تملأه إلا البهجة، بالرغم من أحزان كل شخصياته، فنجد أنفسنا أمام عمل بديع، يأخذنا إلى بهجة مماثلة، لا نقوى إلا على الثبات أمام عناصره، ببصر ومسمع ينجذبان كفعل الجاذبية الفيزيائية على الأرض، لتثبت عليها أجسادنا.

هكذا كان “أميلى”، الفيلم الفرنسى الذى أنتج منذ عشرين عاما، لمخرجه جان بيير جانيت، ولممثلته البديعة ذات الوجه الملائكى “أودرى تاتو” ولكاتبه “جيوم لوران”.

مابين اللونين الأحمر والأخضر، نظل ساعة وسبعة وخمسين دقيقة لا نستشعر إلا ألوانا بديعة وشخصيات فى غاية الخفة والرشاقة، تجبرنا على الابتسام بمنتهى السعادة، نتمنى لها الخير والبهجة، كما حاولت أميلى أن تصل بهما إلى من حولها، تسرد الحكابات فى بساطة وخفة وعمق خفى، وتتسرب خلالهم موسيقى “يان تراسى” فتزيد جرعة البهجة وتنقلها إلى قلوبنا.

لوحات بصرية بديعة الصنع، وبهجة تملأ العيون والقلوب، ينقلها إلينا “جين بيير جانيت” فى عمل صنع بإتقان شديد وجدية فائقة، ليظهر خفيف الظل، فاتنازيا أحيانا، أوكاريكاتيريا ربما، فى النهاية هو جرعة سينيمائية حلوة المذاق، وخفيفة على القلب، بالرغم من جدية وصعوبة تنفيذها، جدية تتوارى خلف بهجة سرده وألوانه وموسيقاه

أميلى، الفتاة التى لم تحصل على قرب جسدى من أبيها، ولا أم هادئة الطباع، ولا حتى أصدقاء ولا تعليم يجعلها تنخرط مع أقرانها من الأطفال، فلا تعيش بهجة الطفولة كما ينبغى.

أميلى التى تموت أمها وتزداد عزلة أبيها بعد الوفاة، حتى سمكتها الصغيرة، تذهب إلى مياه أوسع من مياه الحوض المنزلى الصغير، لتتركها بلا أى رفيق، يبعث إلى قلبها ولوملامح من البهجات القليلة، كل هذه حكايات مأساوية للغاية، فكيف لفيلم أن يعبر عنها بإبتسامات متلاحقة !!

هكذا كان ” أميلى”…

فى لحظة واحدة تتغير حياتها، ولم تكن صدفة كما ظهرت بالفيلم، إنما تدبير كتابى من كاتبى الفيلم، ترى أميــلى خبر موت الأميرة ديانا (من كانت تبعث بالخير والبهجة وللبشر) فى تحطم سيارة، فى نفس اللحظة التى يتصادف معها حصولها على صندوق قديم، بسبب سقوط غطاء زجاجة على الأرض،  لتستكمل أميلى رحلة العطاء بعد ديانا، تحصل على صندوق قديم مخبأ من طفل صغير – منذ أربعين عاما –  به ألعابه وصورة،، فتأتيها الفكرة المبهرة، لتبحث عن مالك الصندوق، لترده إليه، ولتبدأ معها رحلة بعث البهجة للآخرين، لترى بداخلهم جميعا مشاعر الوحدة مثلها، وكلما اقتربت تُبهج الآخرين، كلما اقتربت منها السعادة.

ترد الصندوق للرجل، الذى يرى محتوياته، فيرى معه كل شيء من ذكرياته التى عادت إليه فى لمح البصر، فيقرر أن يبحث عن ابنته وحفيده اللذين تركهما منذ سنوات.

إنها  – كما يسرد حوار الفيلم  – لحظة رائعة مثل الضوء الخافت، تمتلئ أميلى بانسجام تام مع العالم، تستشعر نسيم العطر بهواء المدينة، تتنفس بعمق وترى الحياة بسيطة ووواضحه، ترى أن الحب الجياش هوالحافز لتقديم المساعدة للبشرية.

وفى مشهد بديع، تأخذ بيد الرجل الكفيف لتشرح له معالم الشارع، فى رحلة صغيرة تعبر به خلالها من الرصيف إلى الرصيف الآخر، تريه بعينيها ألوان الفاكهة  وملابس المارة والمحال التجارية، وضحكات الأطفال الرضع، وابتسامات بائع الزهور، تنقل له البهجة التى تعتريها بصورة وصوت، لا يملك منهما الكفيف إلا خيال الصورة.

فى مشاهد متتالية، تميل إلى الفانتازيا أوالطابع الكاريكاتيرى، أوحتى عبث الحكايات، يطرح كل ما هو تراجيدى ببهجة بالغة:

جورجيت الفتاة البسيطة التى كبرت فى العمر ولم تجد الحب ولا حتى تستطيع التعبير عنه، لا يفوت أميلى أن تؤتى به إليها، فتلعب ألعابها الرقيقة، وتقحمها مع يوسف، فى علاقة غرامية ينتظرها الاثنان بشبق الانتظار.

تدافع عن لوتشيان، البائع الفقير ذي الذراع الواحد، فتنتقم له من صاحب المتجر المتعالى الفظ، وينقل لوتشيان البهجة لجاره المسن ذوالجسد الزجاجى الهش، ليبتهج هو الآخر، ويستشعر لحظة من لحظات قلائل تنتقل فيها السعادة إلى روحه الحزينة المنعزلة.

تستمع إلى السيدة التى تنتظر زوجها المحبوب، والذى توفى بعد غياب دام سنوات طوال، تحبه وتعيش على هذه المحبة بالرغم من خيانته، فيهديها القدر، خطاب قديم مؤجل يعبر فيه الزوج عن حبه وطلب الغفران

حتى الكاتب الفاشل الذى لا يقرأ إليه أحد، تقرأ هى كتابه وتكتب جملته كقول مأثور على جدار الشارع، ليقفز الرجل بسعادة عندما يرى مقولته، عليها إمضاء اسمه أمام عينيه، هى لحظة أخرى تهديها الحياة لأصحاب الهموم، قد تكون للبعض حدثا غير مؤثر، ولكن لمن يفتقدونه، فهي سبب لبهجات تعطى للحياة ألوانا مبهجة، ربما كانت خضراء أوحمراء، وهكذا تهديها أميــلى لغيرها.

خليط من الشخصيات، لا تجمعها إلا الوحدة والانعزال بسبب قسوة الحياة، تأخذهم أميلى إلى لحظات البهجة بلا انتظار لمقابل، يملأها دائما الحب كحافز لتقديم المساعدة للبشرية، وهل للبشر من آفة إلا إختفاء السعادة التى يبحثون عنها !

من مِن البشر يحيا حياة كاملة، لا يعكرها منقوص يطرق باب القلب فيحيي به الأشجان!… من مِن البشر يرى العالم منصفا!… الكل فى لهث وبحث عن السعادة والبهجة، والكل لايعلم كيف يحصل عليها ليتشبث بها

أميلى إكتشفت السر، أرسلت ببطاقات اليهجة للآخرين بالقول والفعل والحيلة واللعب الطفولى خفيف الروح، أرسلتها بلا مقابل، أرسلتها بحافز إسعاد البشرية، ربما أميلى ستجد العالم منصفا بالرغم مما عانته، ربما كل باعث للبهجة سيراه منصفا، فربما  هذا هوالعدل.

الكل يحارب ويقتنص من الآخر كما يفعل أهل الغابات، يعتقدون أنهم هم المنتصرون، ويندهشون عندما يملأ جفونهم الأرق وينفلت الأحبة من حولهم، لكن يبدو أن أميلى فهمت اللعبة جيدا، فصنعت البهجة، اقنتصتها من بساطة الحياة ولعب الأطفال والحيل الخفية، خفيفة الظل كقلبها، أرسلتها للمحبوبين والغرباء، ورأت السعادة فى أعينهم.

فهل جزاء البهجة إلا البهجة !… الإنصاف هوالمردود الذى يشبه النسيم، يتنزل على صانعى البهجة فيملأ قلوبهم رغبة فى الحياة، وروعة فى رؤية ألوانها وشخوصها.

كان من الطبيعى أن يأتى العالم منصفا لها بعد تقديمها للحب، فجاءها الحب إلى باب بيتها، تحتضنه ممثلا فى الحبيب، على دراجة بخارية يجوبان بها شوارع باريس، جائتها البهجة تقبل عيناها وخديها، وهى التى عاشت بعيدة عنها عمر طويل

أميلى كان  – منذ عشرين عاما –  ومازال، دعوة لصنع البهجة واستشعارها، تفتح أميلى العالم على بعضه البعض، ترتب مباريات الحب، وتبعث رسائل تربت بها على أكتاف الآخرين.

لوحات بصرية خلابة، وانتصار للخيال الذى يكسر نفسه كونه خيالا، ليعطى لمحة أمل للواقعيين، وليعلن الفيلم فلسفته الخفية، خلف خفة معلنة… أن تسعى لإبهاج الآخرين، فتسعى إليك بهجة الحب..

………………..

أميلى ( 2001 )

سيناريووحوار

جيوم لوران

جان بيير جانيت

إخراج: جان بيير جانيت

 

مقالات من نفس القسم