«أيام الشمس المشرقة».. أحلام الهامش قرب المحيط

أبناء الجبلاوي ..عن الفوضى التي أفرزها عقم الخيال
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

محمود عبد الشكور

على جدارية ضخمة، ترسم ميرال الطحاوى فى روايتها «أيام الشمس المشرقة»، الصادرة عن دار العين، ملامح بورتريهات إنسانية عميقة المعنى والدلالة، تعبر عن مأزق المهمشين المغتربين، تستقصى حكاياتهم، من الوطن إلى الغربة، وكأنها تعوض تهميشهم، بحفر صورهم فى كتاب، يشهد على المكان والزمان والبشر.
تترك الرواية تأثيرها بقوة نحت شخصياتها، وبحضور الجغرافيا والتاريخ الشخصى، وبازدواجية قراءة المأزق الإنسانى، تهميشا واغترابا، وباندماج كل ذلك فى بناء فنى، يعادل إحكام دائرة الجغرافيا، بين هضبة وعرة، ومحيط متسع، فى الجنوب الغربى الأمريكى، فلا تجد الشخصيات مفرا من اللجوء إلى الحلم، والتاريخ الكاذب المتوهم، أو الهروب والاختفاء، ولا تجد إلا الموت، قتلا أو انتحارا.
ورغم كثرة الشخصيات، فإن حضور حكاياتها قوى ومميز، وبينما تبرز أسماء مثل نعم الخباز، وزوجها أحمد الوكيل، وصديقها سليم النجار، وصديقتها نجوى، وغريمتها ميمى دونج، فإنه يصعب الحديث هنا عن شخصية رئيسة، وأخرى ثانوية، فكل الشخصيات تقريبا، تلعب أدوارا محورية وعميقة، وامتداد التأريخ للشخصيات من الوطن إلى المنفى، يجعل المأزق بحجم مكانين، وبطول عدة أزمنة، ويجعل الهروب مأزقا جديدا، فالمهمش هنا مهمش هناك، ومن تاه فى مدينته، يتوه أيضا فى مدن الآخرين.
يتعمق منهج التأريخ للشخصيات، وقراءة فكرة الاغتراب عبر نماذج إنسانية، من الوطن إلى أمريكا، بعد أن قدمته ميرال فى روايتها «بروكلين هايتس»، ولكنها تنتقل فى روايتها الجديدة من الشرق الأمريكى إلى الغرب الأمريكى، ومنطقة الشمس المشرقة، ليست مجرد منطقة عادية لتجمع المهاجرين، ولكن تشكيلها الجغرافى يوظف فنيا ببراعة: يقبع تجمع كبير وفقير فى السفح، وفى القلب منه «سرة الأرض»، حيث أكثر المناطق تهميشا، وفى قمة الجبل ما يطلق عليه «الجنة الأبدية»، حيث منتجعات الأثرياء، وبينهما «هضبة سنام الجمل»، حيث يعيش عشاق الطبيعة، وبين الجبل والساحل، يوجد «الكوارتر»، بعالمه الخاص، وبانفتاحه على المحيط الواسع.
تحدد الجغرافيا الفوارق الطبقية والمعيشية أيضا، وتختار كل منطقة شخصياتها، الحركة من السفح إلى الجبل محسوبة، والموقع على الحدود يجعل المنطقة منفذا لتسلل المهاجرين، برا وبحرا، وبينما تبدو الحياة صعبة فى السفح، فإن المحيط على اتساعه لا يعد بالكثير، وتظل ذورة الجبل حلما بعيدا تعيش عليه شخصيات مثل سليم النجار، جنة أبدية لن تسكنها سوى امرأة عربية واحدة، هى العراقية الثرية اللاجئة علياء الدورى.
الجغرافيا فى النص قوية ومسيطرة حتى فى الوطن: نعم القروية البائسة فى بلدها، لن تعرف مدينة البحر إلا كخادمة، وسليم يتشتت بين فلسطين ولبنان والعراق وسوريا، وأحمد الوكيل يأخذ المقابر معه إلى أمريكا، وكأن الموت يسكنه هو، ولا يسكن المقابر، الجغرافيا جزء من قدر الشخصيات الثقيل، ولا يخفف من هذا القدر سوى تلك الأسماء الساخرة التى تتناقض مع الواقع، فليست هناك نعم ولا شمس مشرقة، و«سنام الجمل» و«سرة الأرض» عبارات براقة لا تكشف عن الظروف والأحوال، وحدها الجنة الأبدية هى الحلم، ولا تمتلك نعم إلا أن تقوم بتنظيف الجنة من فضلاتها، لا أن تعيش فيها.
من نجاحات الرواية ذلك الجمع السلس بين خصوصية ومحلية ظروف كل شخصية، وبين ظروفها الإنسانية، بل إن تلك الظروف العامة سرعان ما تجعلنا نكف عن السؤال عن جنسية كل شخصية، رغم أن كل هوية واضحة ومذكورة.
هذا نجاح فنى مهم، لأن الخريطة ليست محدودة بمكان الغربة، ولكنها خريطة بحجم عالم الشخصيات، وتاريخهم، وإحباطاتهم، ومن هنا يتشكل مجتمع إنسانى، وحلم عام، وتتقاطع أحزان مشتركة، ويبدو التاريخ الوهمى بأهمية التاريخ الحقيقى، مرويات نعم عن حياتها تتقاطع مع مرويات سليم النجار المختلقة، وانتحار جمال ابن نعم، يتقاطع مع غرق ميمى دونج، وأزمة نجوى المبعوثة المصرية فى آشفيل، تتقاطع مع ضجر جون العجوز الأمريكى، وهروب أحمد الوكيل وابنه عمر، يتقاطع مع كل هروب واختفاء، بما فى ذلك اختفاء القطة لوسى.
كل التفاصيل تلعب دورها المحدد فى الجدارية، حتى أصوات كلب البحر المزعجة، فى موسم التزاوج، وعند مولد الأطفال وفطامها، تجعل الألم قرينا للحياة فى كل مراحلها، أما «حديقة الأرواح» فليست سوى مقابر بائسة تجمع عشرات المجهولين، وتتقاطع مع حكاية سليم النجار عن مهمته فى الحرب الأهلية اللبنانية، عندما أوكلوا إليه تسليم جثث القتلى لذويهم، لم يصل إلى العناوين، بعد أن غيرت الحرب معالم الشوارع، فألقى الجثث فى أماكن النفايات، وعاد قبل أن ينفد وقود سيارته.
هى إذن جدارية الهامش فى كل مكان، الغربة تبلورها فقط وتكثفها وتلونها بألوان الجنسيات، والحكاية التى تبدأ بانتحار ابن نعم المتمرد والمدمن، تنتهى بسفينة جديدة لا يُسمح لها بالدخول، ولا يستطيع مهاجروها النزول إلى الشمس المشرقة، فتلجأ الأمهات إلى أغرب تصرف مع أطفالهن، مما يعنى أن الحكاية بلا نهاية، وأن ثنائية التهميش والاغتراب لن تتوقف، وأن معاناة الوطن، ستنتقل مع الشخصيات إلى العالم الجديد.
ربما كان هناك استطراد فى بعض حكايات أحمد الوكيل ونجوى فى الوطن، وربما أدى إغراء الشخصيات وظروفها إلى تفاصيل وتفريعات، كان يمكن تضفيرها فنيا بشكل أفضل فى النص، ولكن ميرال الطحاوى كانت تعرف دوما كيف تعيد الشخصيات إلى عالمها الجديد، وكيف تدفع الأحداث إلى الأمام بقدرٍ معلوم: نعم مثلا تتجاوز الموت، وتحلم بزوج جديد، وتصبح لديها شاحنة، ومشروع للتنظيف، وميمى ينكشف عالمها، وتظهر أسرارها تدريجيا، ونجوى تنتقل من الشمال فى آشفيل إلى الجنوب الغربى، ولكن لا يحدث أبدا تغيير جذرى، وكأن الشخصيات تدور فى دائرة مغلقة، لا يمكن أن تتجاوزها.
«أيام الشمس المشرقة» شهادة لامعة عن مرارة الخبز فى المنافى، وفى الأوطان على حد سواء، بين جبل الفقر الراسخ، وأحلام هائلة لا تتحقق، بحجم المحيط.

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم