“أساطير الأولين”.. الحكي الذي لو لم نجده لاخترعناه

أبناء الجبلاوي ..عن الفوضى التي أفرزها عقم الخيال
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

ربما يكون أجمل ما في مجموعة هانى عبد المريد القصصية "أساطير الأولين"، الفائزة بالمركز الثاني لجائزة ساويرس، أنها لا تقدم فقط إلى قارئها مجموعة لامعة من الأقاصيص والنماذج الإنسانية واللحظات العميقة، ولكنها أيضًا وبالأساس توجه التحية إلى فن الحكي نفسه، وتراه جزءًا لازمًا ومتعلقًا بالإنسان، لا يوجد شخص بلا حكاية، ولا توجد حكاية بلا خيال، ولا توجد حكاية بلا معنى.

عالم الحكايات ليس هو الواقع، ولكنه واقع موازٍ له قوانينه وعالمه وبهجته وحضوره وواقعه الخاص. “أساطير الأولين” تكتسب سحرها من هذا الانحياز الذي يبدأ من العنوان. يريد صاحب المجموعة أن يبعده عن ضبابية الاستهجان الديني، ليدخل تلك الحكايات إلى قدسية محراب الفن. ينجح القاص البارع في ذلك نجاحًا مبهرًا، وينجح أيضًا في أن يحقق إهداءه الذي يتصدر المجموعة المكثفة (نحو 90 صفحة فقط) بعذه العبارة: “إلى كل الحكايات والبشر الذين مروا دون أن يلتفت إليهم أحد”.

تتكون المجموعة من 25 قصة، بعضها لا يزيد عن صفحة واحدة، ولكن هذه المتتالية القصصية تنطلق في إطار بناء متماسك موضوع بين قوسين. القوس الأول هو أصل هذه الحكاية، ولماذا انهمر هذا الطوفان من الحواديت، والقوس الأخير يجمع معظم الأبطال الذين عرفنا حكاياتهم في قصة واحدة أخيرة.

أصل القصة أن بناية كانت تنقطع عن العالم من خلال وصلة واحدة للإنترنيت، انقطع عنها البث، كان السكان يعتمدون على الاشتراك من الباطن مع مشترك أصلي، فشلوا في إصلاح الخلل، فارتدوا من جديد إلى عالم الحكي القديم، تعطل الحكاء الجديد الذي جعلهم أكثر اغترابًا عن بعضهم، وربما عن أنفسهم، فغادروا ليؤدوا أدوار شهرزاد، أو كأنهم أولئك الذين حبسهم الطاعون في الدير القديم، فقرروا أن يقتلوا الوقت بأن يروى كل واحد منهم قصة، هكذا فعل بوكاشيو في “ديكاميرون”، وهكذا قرر سكان بناية هانى عبد المريد أن يحكوا كما يليق بغرباء: “كما ييليق بالخوف وتوقع الغدر، فكانت الحكاية تنبت شيطانيًا.. بلا نسب، فلا يعرف هل تخص الحاكي أم عن أحد الحاضرين، أم أنها مجرد حكاية حدثت في وقت ومكان ما، هكذا انطلق الحكي بلا قيود، وبدأت الحكايات تتوالد واحدة تلو الأخرى، لتملأ فضاء المكان”.

الإنسان إذن حيوان حكاء، لو لم يجد الحكاية لاخترعها، ليس فقط جلبًا للونس، وقتلًا للوقت، ولكن ترجمة لدافع الفضفضة والبوح، واستلهامًا لمعنى الحياة والأحياء، تتوالى القصص معنونة في كل مرة بكلمة حكاية: “حكاية الولد الذي انتظم في الصف، حكاية الرجل الذي حاول امتلاك اليقين، حكاية رجل الحكايات، حكاية روب الخال، حكاية الرجل الذي ظل يضحك، حكاية القديس، حكاية الرجل الذي كلما وجد في جيوبه قطعة حلوى أكلها”.. إلخ، وفي القوس الأخير يعود القاص المعاصر الذي استعار بناء أمهات كتب الحكي بصورة مصغرة “ألف ليلة وليلة، وحكايات كانتريري، وديكاميرون”، لكي يجمع معظم أبطاله في حكاية واحدة، وكأنهم صنعوا بناية موازية تعادل البناية التي تعطلت فيها شبكة العالم، فعوضتها شبكة الحكايات، محور الحكاية الأخيرة هو موت رجل الحكايات، ولكن قصصه السعيدة والحزينة تبقى أطول عمرًا منه.

نكتشف وقد انتهينا من القراءة، أن الإنسان ما هو إلا حكاية، وأن فن الحكي ليس فقط مستودع الخيال والتسلية، ولكنه يمنح الحياة معناها، ويصطنع ما شاء من الحكايات، وما شاء من العلاقات، لن تعرف أبدًا حدود الواقع والخيال، ولن تكتشف أيضًا هل تسكن بناية أجهزة الكمبيوتر في بناية الحكايات، أم ان بناية الحكايات ليست إلا المعادل القصصي لشخوصبناية الكمبيوتر. هذا التلاعب الذي يقوم به القاص في صميم سحر الفن، وفي صميم غموضه الملتبس، حكاية رجل الحكايات هى واسطة العقد الملضوم بخيط الفضفضة، إنها تعادل ما يطلقون عليه في الشعر “بيت القصيد”، بطلها رجل المعاش، لم يحصل على يوم إجازة من عمله طوال ثلاثين عامًا، يقول له الناس: “انت اللي زيك، لو كان عايش برة كان عملوا له تمثال”، لم يُرد تمثالًا، كل ما أراده هو ان يسمع الحكايات على المقهى، يجلس طوال اليوم اليانسون والحلبة، وآكلًا الترمس، ومجمعًا نفرًا ممن التفوا حوله، استمتاعًا بخفة ظله، أو التماسًا للمشاريب المجانية، كان يصرف معاشه تقريبًا على جلسات المقهى، التي منحته حياة إضافية، كان “يعرف أن كل ما حوله لزوال، هو أيضا زائل يدرك ذلك، ويدرك أيضا أن الحكايات هي التى ستبقى، كان يدفع بسخاء لكل من يحكى، لا حرمان اليوم، ولا جوع لمن حكى..”.

فلما تآكلت فلوس معاشه ومكافآته، قرر رجل الحكايات أن ينفذ الفكرة التي ربما كان يخطط لها منذ البداية، دون أن يبوح بها لأحد: “جمع كل حكاياته، فرزها لنوعين، الحكايات المبهجة الفرحة نسج بها سجادة الحكايات السعيدة، أما الحكايات البائسة، نسج بها سجادة الحكايات الحزينة.. فوق سريره دومًا سجادة، إما فرش- فى أيام الصيف -، أو غطاء – في أيام الشتاء -، الرجل يلجأ فى أوقات حزنه لسجادة السعادة، تمسه الفرحة بأناملها، فلا يتمكن منه الحزن بشدة، يستعمل فى أوقات سعادته، سجادة الحزن ليتذكر دوما أن في العالم بؤساء، فلا يكتمل شعور الفرحة لديه، الرجل بكل صراحة لم يكن يخشى في حياته خشيته الاكتمال، يرى دومًا النقص في الاكتمال..

الرجل يتصنع كل يوم النوم ليرى الحكايات الشقية تنسل من نسيج سجادته ليلًا، تتجول في حنايا الغرفة، يشعر بالرضا فقط كلما وجد الألفة تدب بين حكاياته المختلفة، ويشعر بمتانة نسيج سجادتيه، وإنه وسط الزيف الكثير.. قدم للعالم شيئا حقيقيًا”.

في “حكاية الحكايات” الأخيرة، سيعود رجل الحكايات إلى الظهور وسط مجموعة من أبطال القصص التي قرأناها، وسيتحقق حرفيًا ما تنبأ به من أن كل ما حوله إلى زوال إلا الحكايات التي ستبقى، عندما دفنه سكان العمارة في التراب: “انفرطت حكاياته من السجادتين مرة أخرى، ممتزجة ببعضها البعض، الحكايات الحزينة على الحكايات الفرحة، وكان سكان العمارة فى كل يوم يسمعون تهامسهم وشجاراتهم ليلا، حتى بدأت الحكايات تهاجمهم فى أحلامهم وصحوهم، وكأنها حيوات حقيقية يعيشونها، فلم يعد الواحد منهم يعرف حياته الحقيقية وسط عشرات الحكايات التى تتلبسه يوميا، حتى تجمعوا، فتحوا كل أبواب ونوافذ شقة رجل الحكايات المغلقة، لتنتشر من جديد الحكايات فى فضاء العالم”.

من حكاية وغلى حكاية نعود، قد نتصور عالمًا بلا شبكة كمبيوتر، ولكننا لا نستطيع أن نتخيل عالمًا بلا حكايات، في كل قصة قصيرة يفضل هانى عبد المريد أن يبدأ السطر بالفاعل (الولد، البنت، الرجل)، الإنسان هو الهدف، والسرد يكاد يجعل منه اسطورة (في حكاية القديس مثلًا يمتزج ولد بحياة وأفكار كل من ناموا في تابوت الموتى فيعرف دون ان يدري أنه يعرف، ويصل دون أن يدري أنه وصل، ويعيش كقديس دون أن يدري أنه قديس).

لا توجد كلمة زائدة، أو ثرثرة سردية، وإنما لحظات مكثفة أسبح لها معنى عندما صارت حكايات كتبت فصارت أكثر بقاء من أجسادها الفانية. أعدك بمتعة حقيقية واكتشاف أفضل للإنسان، لا يعكر صفو قراءة “أساطير الأولين” سوى الكثير من الأخطاء اللغوية المزعجة، ولكنك ستهتف حتمًا عندما تنتهي منها في جلسة واحدة: “طوبى للحكائين لأنهم أبدًا لا يموتون”.

……………………….

جريدة التحرير بتاريخ 18فبراير2014

عودة إلى الملف

 

 

مقالات من نفس القسم