فلسفة التفاصيل البسيطة في بنية الحكاية .. مجموعة “سوء تفاهم ” نموذجا

سوء تفاهم
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

محمد الكفراوي

عادة ما تعتمد الحكاية على دراما المواقف المتتابعة باعتبارها تمثل حالة الذروة التخييلية في ذهن القارئ، لكن هناك وجهة نظر أخرى ترى في الإبداع القصصي الذي يعتمد على التفاصيل البسيطة والثانوية عالما سحريا يتوغل في عمق البشر ليستشف أكثر المناطق عتمة أو بهاء في أرواحهم .

هذا ما يلفت الانتباه في المجموعة القصصية “سوء تفاهم” للمبدع والناقد الدكتور فهمي عبد السلام، الذي يحشد هذه التفاصيل البسيطة الصغيرة الوصفية في معظمها ليصنع منها دراما ذات إيقاع خاص، إيقاع داخلي على الأرجح ، فالوصف الذي يقدمه ببراعة لشخصية المخرج فخري حسن في أولى القصص ” من أجل صورة خلابة ”  ، بداية من وصف سيارته ثم ثيابه ثم عطره ثم طريقته في الإلحاح لاصطياد المرأة التي صادفته في الطريق وطاردها بسيارته، كل هذا يخلق هالة تضخيمية لبطل القصة، الذي يقرر أن يلعب دور البطولة للنهاية أمام المرأة في بيتها بأن يحملها من المطبخ إلى السرير كأنه فارس احلامها، لكن تتفتت قوته تحت ضغط وزنها الزائد ويتفصد عرقا، و يسقط شبه صريع في غرفة النوم .

المجموعة القصصية تتضمن 13 قصة قصيرة تموج بهذه التفاصيل التي تقوم بدور خاص في رسم الشخصيات، وهو ما يعطي بنية الحكي بعدا فلسفيا عميقا يرتبط بمكونات الإنسان النفسية المتعلقة بشخصيته من ملابسه وعطره وحتى طريقة تصفيف شعره.

الوصف هنا لا يقتصر على الأشخاص، بل يمتد إلى الجو النفسي العام للقصة وما يتضمنه من ملامح تعبر عن الفئات الموجودة في هذا المكان من غيره، وهو ما يتضح جليا في قصة “في السباق” فهو وإن كان يشير إلى بطلي القصة بالرجل الوثير والرجل الهزيل، في لفتة تشير في ظني إلى التعميم الوصفي، فنماذجهما كثيرة وموجودة باستمرار في هذا المكان، وكأن مأساة الرجل الهزيل تتكرر كل يوم بسبب إدمان الرهان على سباق الخيل ، وحين يصف الراوي جمهور السباق يقول “لم أر في حياتي من هو أتعس من جمهور سباق الخيل ، فهم من وقعوا من قعر القفة ، خليط بائس من باعة سريحة على باب الله ، قهوجية في مقاه شعبية أقرب إلى الغرز … حتى المتسولين المحترفين اكتشفت بعضهم هناك” وكأن القصة تشير إلى طبقة بعينها  تدمن الرهانات. وهي طبقة تبدو بالنسبة لي وأعتقد بالنسبة لعدد كبير من الناس مستحدثة وجديدة على هذا المضمار التي اعتدنا على رؤيتها في أفلام الأبيض والأسود، حيث يتسابق البشوات والبهوات والأفندية على الرهانات. المأساة التي يتعرض لها البطل في النهاية بأن يخسر الرهان على مال الرجل الوثير رغم أن الأول راهن على الأوراق الرابحة، يشير إلى مدى البؤس والتعاسة وسوء الطالع الذي قد يرتبط بالمصائر البشرية من  أصغر إلى اكبر تفاصيلها.

يستمر الإيقاع الوصفي والاعتماد على تقديم التفاصيل الدقيقة للشخصيات كدوال على شخصيتها في قصة سوء تفاهم التي ترصد ” خناقة ” بين رجل مسن وسيدة أربعينية ، تبدأ بهجوم عاصف من السيدة وتنتهي بسقوطها غارقة في دمائها ، وفي الختام يمشي الإثنان الرجل المسن والسيدة يتوكآن على بعضهما البعض وكأن شيئا لم يحدث ، وكأنه مجرد سوء تفاهم بسيط وتم حله . وكأن الكاتب في هذه القصة يستعيد مسرح العبث، ما يمكن ان يظهرر من العنوان الذي يذكرنا بمسرحية بهذا العنوان للكاتب الفرنسي الجزائي الشهير ألبير كامو  ففي مسرحيته” سوء تفاهم”  يقدم قصة عبثية تتمثل في سيدة وابنتها يمتلكان فندقا ويقتلان النزلاء لسرقة أموالهم .

في قصة حجرة الفئران تظهر أجواء نفسية مختلفة ، تتلخص في صراع معملي مرير بين طبيب أو باحث وبين فأر يتمتع بالمراوغة والبسالة، يمتد الصراع كاشفا عن طبقات من الغضب والعنف والجبن والإصرار والكثير من الصفات التي تحيط ببطل القصة ومعاونيه .

تمتاز المجموعات بطبقات من الدفقات الإنسانية التي تتسرب من قصة لأخرى ، ففي قصة ” في جوف الليل ” تتحول المشاعر الأليمة التعسة المتعلقة بالوحدة وهي مشاعر باطنية داخلية إلى صراخ ومناجاة محمومة في جوف الليل من سيدة تعيش وحدها هجرها أبناؤها ومعارفها فتستوقف أحد زوار العمارة وتدخله منزلها لتحكي له عن آلامها ، بعد ذلك تهدأ تماما وتستكين وتسمح له بالإنصراف وتشكره على الإنصات لها ، وفي هذه القصة يبدأ وصف أجواء وسط البلد بكل ما تحمله من سحر غامش يتجلي في عمق الليل ، وللمفارقة أن هذا السحر يمكن أن يحمل في طياته آلام الوحدة ومواجع العزلة بكل ما فيها من بؤس وتعاسة .

وفي قصة ” فروة أرنب ” تدور العلاقة بين الطبيب ومريضته على نحو مزعج بعض الشئ للطبيب الذي يعاني من مشاكل كثيرة في عمله وفي علاقته بأخوته بسبب الميراث وما إلى ذلك من مفردات ، وبعد انتهاء العلاقة الأولى مع مريضته يتركز بصره على السويتر الذي كانت ترتديه المريضة وهو من الفراء الرخيص ليكتشف في النهاية أنه فروة أرنب ، وكأن في ذلك إسقاط على حاله وتعاسته الشخصية وضعفه وجبنه عن مواجهة واقعة المعقد.

أما قصة الامتحان ففيها الكثير من الفلسفة الإنسانية والملامح الشخصية التي تشير إلى الفروقات الجوهرية بين التيار الليبرالي والعلماني والتيار الديني في مصر، يتنمر الدكتور على طلبة الماجستير الملتحين ويعطيهم أسئلة تعجيزية ، يستعيد وهما أمامه في الامتحان الشفاهي كل المناورات والجرائم التي ارتكبها التيار الإسلامي في ثورة 25 يناير ، وكيف استباح هذا التيار البلد وحاول تغيير تركيبتها الثقافية وفرض سطوته عليها، لكن مقاومة التيارات الليبرالية واليسارية والقومية المصرية كانت لهم بالمرصاد ، وكان الدكتور من أكبر المقاومين لهذا التيار الإسلامي ويعرف تاريخه وميوله السلطوية والاعيبه ومخاطره على الشخصية المصرية الأصيلة ، رغم تنمر الدكتور على الطالبين إلا انه بعد خروجهما ورغم أنهما لم ينجحا في الإجابة على أي سؤال من الأسئلة التعجيزية التي طرحها الدكتور عليهما، إلا انه قرر ان يعطيهما درجة النجاح حتى لا يتجنى عليهما. ويذكر الراوي في نهاية القصة أنها من نسج الخيال، وأنها وقعت أثناء حكم الإخوان. هي إذن وقعت أو ربما كانت محتملة الوقوع خلال حكم الإخوان . فليس الخيال هنا ـ في تصوري ـ سوى مبرر للتملص من الوقوع في مخالفة أخلاقية أو الإعلان عن مساوئ قد تحيق بالروح الليبرالية وتلوثها في موقف أو حادث بعينه، كرد فعل على أحداث مسبقة . 

بعد ذلك تتوغل القصص في عالم وسط البلد بشوارعه ومقاهيه ومنتدياته الأدبية والأماكن المعروفة كتجمعات للمثقفين أو للطبقة النخبوية مثل نادي الجاكس في الهيلتون ، أو كافتيريا لاباس أو ريش او الحرية او الندوة الثقافية وغيها من الأماكن التي تدور فيها الأحداث سواء بين شخصيات متشابهة او متناقضة ، ليظهر مدى التوع الشديد في الشخصيات بين اليساري والناصري والليبرالي والمدعي والفنان الفج ، وهو ما يتضح في في قصة في الجاكس، وكذلك في لقاء تاريخي في الشيراتون تبدو شخصية لص الأفكار الانتهازي الذي يسرق كل أفكار زميله ويتفاخر بها أمامه وكأنها من بنات أفكاره ، ويصعد بقوة في سماء الفن ثم يهبط هبوطا مدويا . وفي قصة الندوة يطرح الراوي نموذجا لافتا ومهما للندوات الثقافية التي تشبه ندوة فاروق عبد القادر أو حتى جلسة نجيب محفوظ ، والتنمر بين المبدعين او أنصافهم ضد فتاة حديثة العهد بالقصة القصيرة ، وطريقة صاحب الندوة الأستاذ ” رحيم حافظ ” في التعامل مع الفتاة بطريقة إنسانية وإرشاده لها بكل لطف عن طريقة صقل موهبتها .

ويقتحم الكاتب عالم الشواذ والخرتية في وسط البلد من خلال شخصيات تبدو نمطية ، الشاذ ابن الذوات الذي تركه والداه في عهدة الخدم فتحول إلى شاذ ، فرغم مواهبه وثقافته الواسعة وعمق كتاباته إلا انه يلهث في البحث عن حبيب طوال الوقت، ويتحول أحد عشاقه إلى خرتي ـ وهو نموذج يصاحب الأجانب أو يرافقهم ويوفر لهم كل شئ يريدونه ويعرف الكلام بالانجليزية ولكن لا يكتبها، كما يتحول هذا الخرتي إلى بلطجي ويتعرض لنهاية مأساوية .

المجموعة في مجملها تشير إلى تركيبات معقدة من الشخصيات سواء العادية من البسطاء، او الشخصيات المركبة التي تحمل ملمحا ثقافيا ، وتظل وسط البلد هي المكان الأثر احتشادا بأحداث المجموعة. وهو أمر يشير إلى ثراء هذا المكان وإلى التنوع الذي يتميز به ، كما أن له دلالة أيضا على ارتباط الكاتب ـ الرواي في معظم الأحيان بهذه الأماكن وبوسط البلد عموما .  

 

 

 

 

مقالات من نفس القسم