صبري الموجي
تُعتبر رواية “أفندينا” للروائي الآسر محسن الغمري حلقة من حلقات سلسلة إبداعه الروائي والقصصي، التي أمتع ويمتع بها القارئ، والتي تتوالي فيكاد سنا برقها يذهب بالأبصار.
“أفندينا” روايةٌ تاريخية بلغة معاصرة، بعدت عن فصحي التراث، والتقعير اللغوي، وجاءت بلغة سلسة مشرقة، مكَّنت القارئ من التغلب علي طول الرواية، فانبري يقلب صفحاتها دون شعور بالرتابة أو الملل.
توافرت في “أفندينا” عناصر الرواية الجيدة من شخصيات برع الغمري في توظيفها فأحدثت بالرواية زخما وحركة، جعلا منها كما لو كانت عملا مسرحيا تشاهده علي خشبة المسرح، أو سينمائيا تتابعه بإحدي دور العرض، وأنت مبهور الأنفاس، إذ يحتدم الصراع بين الأشخاص، وتراك – دون شعور – تنجذبُ للأحداث، وتُعايش هموم أبطالها، وتشعر بآلامهم، وتتعاطف مع آمالهم، وتستشرف طموحاتهم وأمنياتهم كما لو كنتَ واحدا منهم.
ولا يقل أهميةً في الرواية عنصرُ المكان عن عنصر الشخصية، إذ أسهما معا في إخفاء صوت الراوي العليم، وسحبا البساط – كذلك – من تحت أقدام الراوي الخارجي المُتمثل في المخطوطة التاريخية التي عثر عليها السفير وصاحبه، والتي أحاطت بما لم يُحيطا به علما، وجاءتهما من قصر الوالي وحواري القاهرة العَلوية بالنبأ اليقين!
ويعد موضوع ” أفندينا” وهو العنصر الثالث من عناصر العمل الروائي المفاجأةَ الحقيقية، فقد برع الكاتب في أن يُميط لثام الحقيقة عن الوالي عباس حلمي الأول، ويكشف عن مدي قدراته ومميزاته الرفيعة كإداري له مبادئ ونظام في الحكم والاقتصاد، وهو ما جعله يستحقُ عن جدارة أن يكون أحد أهم ولاة أسرة محمد علي.
وبالنسبة لزمن الرواية، فقد مزج الغمري بأسلوبه الساحر بين الماضي والحاضر بانسيابية آسرة لا تشعر معها بالتحول الزمني، الذي يتماوج علي صفحات الرواية بطولها.
تحار وأنت تقرأ “أفندينا” في تصنيفها، أتعتبرها تاريخية، أم واقعية؟ وتنتهي إلي أنها الاثنان معا، فقد استلهم محسن الغمري التاريخ، وأَعْمَلَ فيه الخيال، ومَزجه بالواقع المعيش، فلم يقع في فخ السرد التاريخي الصِرف، بل نجح في منح النصوص التاريخية، وما تنقله من أحداث صفة أدبية بالاعتماد على تقنيات السرد الروائي وعناصرها.
“أفندينا” تُعتبر دراسة تأملية للنسق الأيديولوجي، وتأثيراته علي الحياة المعاصرة، كما أنها مُفعمة بالحراك والحيوية، وقد برزا في أكثر من مشهد علي رأسها حضور عباس حلمي موالد السيدة والحسين، وزاوية الفناجيلي.
وتؤصل “أفندينا” كذلك لفكرة النزعة الدينية، ومقتها بل ومحاربتها للفكر البدعي، ونَمتْ تلك النزعة مع عباس حلمي منذ نعومة أظفاره إثر دفعه لأحد شيوخ الوهابية، الذي تعهده ورباه على عينه، فشب مخلصا لمبادئه وتوجيهاته.
وأخيرا “أفندينا” رواية زاخرة بالخيال والصور، التي برع الكاتب في رسمها علي لسان الشيخ “صفاء الدين” كاتب ديوان الجد محمد علي، والذي استمر في العمل مع عباس باشا، وتولي منصب “باشكاتب” ديوانه حيث يقول : “يجلس الباشا الكبير متصدرا الديوان، مرتديا سروالا من القطيفة المخملية اللامعة بلون ياقوتي، وعليه قميص بلون زيتوني فاتح، وبعده صديري بأكمام طويلة مفتوح عن آخره بلون السروال، ويربط وسطه حزامٌ من الحرير الدمشقي زاهي اللون، وعلي رأسه طربوش عثماني طويل الذؤابة، وكعادته يجلس متربعا علي طريقة السلاطين العثمانيين متكئا بظهره علي حاشية عريضة لينة، يمسك بيده مبسما (من عاج مُطعم بالصدف) …” إلي آخر تصويره البارع.
“أفندينا” رواية محكمة لكاتب يقف على أرض صلبة، يملك أدواته، ويجيد توظيفها، وهو ما يجعله في عالم الرواية واثقَ الخطوة يمشي مَلَكا.
