بين الميتاقص والرمزية قراءة في رواية “بروفة لحياة مؤجلة ” للروائي أحمد عامر

بروفة لحياة مؤجلة
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

د. نجلاء نصير

 تُعد الرواية من أكثر الأجناس الأدبية قدرة على استيعاب مسائل الفلسفة لقدرتها على تصوير تشظي الذات والمجتمع وذلك من خلال اللغة، فالأدب كما يرى محمد غنيمي هلال “يندرج في عداد الفنون الجمالية من تشكيله وتعبيره، وهو يشترك معها في التعبير عن الحلالات النفسية والوجدانيات، على أنه ينفرد دونها بأن أداة التعبير فيه هي اللغة واللغة أصلها وسيلة نفعية في طبيعتها “(1)

وقد عرف وليم غاس (William Gass) الميتاقص بأنه النص “الذي يلفت الانتباه إلى ذاته كصنعة من أجل طرح تساؤلات عن القص والواقع “(2)

ويعرفه مارك كري (Mark Curri) بأنه “نص نقدي داخل سياق قصصي يموضع نفسه على الحد الفاصل بين القص والنقد متخذًا من هذا الحد الفاصل موضوعًا له”(3)

ويطلق عليه إدوارد الخراط (4) عدة مسميات منها: “الرواية الشارحة ” و “ما وراء الرواية” “الميتا رواية”.

وفي رواية “بروفة لحياة مؤجلة” سنلقي الضوء على الجوانب المعرفية والنفسية والرمزية وبمعنى آخر كيف طبق الروائي الأبستمولوجيا التكوينية كما يراها جون بياجيه “تاريخ للأفكار تستند إلى ركائز فلسفية سيكولوجية واجتماعية” فالميتاقص يعد انعكاسًا لفلسفة عالمية ارتبطت بالحداثة وما بعد الحداثة

العتبات “ومن لا ينتبه إلى طبيعة ونوعية العتبات يتعثر بها، ومن لا يحسن التمييز بينها من حيث أنواعها وطبائعها ووظائفها يخطئ أبواب النص فيبقى خارجه “(5)

جاءت الرواية في مائة وأربعة وثلاثين صفحة عن دار ميتا بوك فى طبعتها الثالثة

غلاف الرواية

الغلاف أول ما تقع عليه عين المتلقي، ويعد العتبة الأولى جاء الغلاف بدرجة من درجات اللون الأحمر الذي يرمز في علم النفس اللوني إلى اللون الأحمر الذي يرتبط ارتباطاً وثيقاً بعلم النفس، فهو يُشير إلى العديد من الدلائل والرموز المُختلفة والمتناقضة، حيث أن اللون الأحمر يرتبط بالعاطفة والحب بالإضافة إلى القوة والغضب والشدة.

جاء العنوان باللون الأبيض للفت انتباه المتلقي على يمين الدفة الأولى تخلل العنوان صورة لرجل مقلوب الرأس تتبادل معه السمكة الدور في الصيد فتفتح فنها لتلقمه كما تخللت الخلفية عدة رموز منها القلب واللايك في إشارة إلى الواقع الافتراضي الذي سيأخذنا إليه الروائي لسبر أغواره، بينما جاءت الدفة الثانية باللون البنفسجي الغامق هذه الدرجة تشير إلى الحزن وتخير مقطع من الرواية “الأسئلة ابنة مخلصة للشيطان يمنحها حرية الانطلاق مقا بل أن تمنحه سلطة الأبوية المطلقة ….”

 فالعنوان “بروفة لحياة مؤجلة ” جاء مباغتًا للمتلقي

 ورد معنى بروفة في معجم المعاني الجامع بأنه تجربة مسرحيّة ونحوُها قبل عرضها على الجمهور للتَّحقّق من إجادتها، تدريب وتمرين بهدف الإعداد شاهدت آخر بروفة للمسرحيّة قبل عرضها

-مسوّدة العمل المطبوع قبل إقراره النَّهائيّ للطَّبع راجعت بروفات طبع الكتاب النِّهائيَّة، فهل العنوان يومئ للمتلقي أنه بصدد نص أدبي يسرد حياة تجريبية للبطل أو نحن بصدد رواية ترسل رسالة للمتلقي أن حياتنا في الدنيا ماهي إلا عرض مسرحي تجريبي وكل منا يخط روايته بيده لكنها رواية كاتبها لا يتدخل في مجريات أحداثها أو نهايتها وكأننا أمام عرض يتسم بالعبثية

ومن الإهداء نجد تقنية الميتاقص وذلك في قوله: “إلى هذه الذاكرة الافتراضية التي تحاول أن تتحصن بقلاع الخيال بعيدًا عن أعين القراصنة وتستجيب بصعوبة إلى برامج الإدخال”.

فهذه رسالة للمتلقي من الروائي كن مستعدًا لرحلة في سرد يضفر الواقع والخيال، وفي التصدير ص 4 “ليس لدى الأسير حكايات طريفة أو مسلية ليحيكها لكم، وليس لديه ما يثير دهشتكم ؛فقد تجرد من اسمه قبل أن يتجرأ وينكشف عليكم، لم يتخل عن عزلته، إنما أراد أن يشارككم لتسخروا منه مثلما تسخرون من أنفسكم، فقد عاد إليكم بلا بطولة أو حكاية تستحق أن تبقى “

يحمل هذا التصدير في طياته ملامح الميتاقص فالأسير هو الشخص المكبل بالقيود هنا وليس أسير الحرب، والسؤال الذي يطرح نفسه الآن.

ما الأسباب التي حولته إلى أسير يحيا في عزلة وما وجه السخرية في الأحداث وكيف يتماهى معها المتلقي؟! أليس في هذا التصدير إشارة ضمنية باختلاف روايته عن الرواية التقليدية؟!

ومن الملاحظ ان الروائي قد عنون لوحات روايته بالأعداد السالبة فبدأها _10 حتى وصل إلى الصفر ثم أكمل من +1 حتى وصل إلى +5 في إشارة لاختلاف النسق التقليدي في الرواية الكلاسيكية، والسؤال الذي يطرح نفسه الان ما رمزية الأعداد السالبة في هذه اللوحات  يجيب على المتلقي من خلال السرد في لوحة (-7) ص 34 “يتحسس جيبه حيث تسكن بقايا راتب شهر شاق، يراجع قائمة الطلبات والأعداد مع المشتريات، العدد ناقص .ناقص .ناقص .ناقص .كلمة تتردد داخل راسه دون أن يكتمل هو فيكمل نواقص كثيرة حوله ..” فهنا تتجلى الميتاقصية من العتبات الرقمية والتي تحمل إحالة إلى البطل الصوت الواحد الذي يتحكم في الزمان والمكان والشخصيات وغيرها من ثيمات الميتاقص “فالرواية تعبر عن ضيق الكاتب بالتقليدية، ومن خلال تيار الوعي ليصور حالة الصراع النفسي والتيه الأزلي الذي يحيا فيه البطل الذي يفر من واقعه المرير إلى ذاكرة تجتر كل صنوف الألم تذكره بالسقطة الأولى

الذاكرة التي كانت حاضرة في البنبة السردية وكأنها الجلاد الذي يأبى ترك أسيره. وهذا من آليات الميتا قص أو ما وراء النص، حيث يرصد البطل العلائق المتشابكة بينه وبين الشخصيات، وقد كان الواقع الافتراضي “مملكة الهاربين “بمثابة انزياح عن الواقع وبالولوج إلى عالم الهاربين، يعالج الروائي الازدواجية التي تمثل أزمة حقيقية في المجتمع يمارسها رواد شبكات التواصل الاجتماعي؛ فغرفة مملكة الهاربين ترمز لآفة حالة اللاوعي التي يمارسها بعض رواد شبكات التواصل الاجتماعي .

فالبطل محمد حسين كامل قد أتم عامه الأربعين يصف رحلة حياته ص 67 “أكمل كل الطرق المتاحة المجانية، ليصل مرهقًا إلى بداية الطريق ذاته، كأنه يبدو في دائرة ضمن مجموعة من الدوائر المتجاورة.. “

وفي رمزية لرحلة حياته يقول ص 7 “بنفس اللامبالاة وبأنفاس غير منتظمة وصل إلى سن الأربعين وهاهو جالس على رصيف يتوسط طريقًا مزدحمًا في مدينة يخشى فيها العيون”

ثيمة العيون أو دالة العيون التي تتربص له ذكرت في أكثر من موضع بالرواية وكأنه يحيا كالمطارد فهو الأسير الذي لا يملك إلا الفرار من العيون المحدقة يقول ص 5:”لملم جسده من زوايا العيون المحدقة التي تتحرك بلا كلل ….” ص 7 “قام راسمًا ابتسامة بلا روح فقد لتلتقطها العيون المتربصة ..”وكما تكررت دالة العيون في الرواية تتكرر دوال مثل (السمكة /الصياد /الفراغ/الغياب /الغيبوبة/الطريق / الضباب )

كما اتسمت لغته بالشعرية يقول ص 8 “يتحرك الفراغ محاولأً تجديد الهواء من حوله “

ويتحدث عن السقطة الأولى ص 10 “فشل في تذكر السقطة الأولى …”

وفي ص 69 “بعد افاقته من غيبوبة ظل تحت رحمتها أربعين عامًا …”

وفي ص 103 “الطبيب مازحًا مش تخلي بالك وأنت بتعدي الطريق ..فريدة ..حادثة بسيطة سيارة صدمتك ..الطبيب إنه أفاق من الغيبوبة لكنه سيعاني صعوبة التذكر …نتيجة وجود بقايا دم فوق المخ ..”

(منذ عام توقفت أحلامى، واغتصبتنى الكوابيس) هذه الجملة تحمل دلالات السمات النفسية لشخصية البطل، والسؤال الذي يطرح نفسه الآن

متى يترك الإنسان نفسه فريسة للكوابيس ؟

 فالرواية رصدت عدة شخصيات مثل :مسعد وكمال ومديحة وفريدة ونهى ومحسن ومحمد حسين هيكل ووضعتهم في هذا الحيز النفسي، والصراع بين أن تكون صياداً أو أن تكون فريسة!

كما رصدت للمتلقي تنامي البناء الدرامي والنفسي للشخصية التي كانت تؤمن بقيم الحق والخير والجمال، والتي شاركت في ثورة يناير التي كانت تطالب بالعيش والحرية والعدالة الاجتماعية وانتكاسة شخصيات الرواية ما بين قواد مثل “علي ” وبائعة هوى مثل “نهى”

وكأن الحلم الذي تحول إلى كابوس كان أحد أسباب التحول في حياة شخصيات الرواية الثانوية أو البطل الذي انغمس في الواقع الافتراضي وفي غرفة “مملكة الهاربين ” التي قبل بقوانينها ومارس فيها طقوس الحرية المزعومة حيث فضح ما يدور من شخصيات تقنعت بأسماء مستعارة لتجد لنفسها حياة موازية تتخفى فيها من الواقع يوضح ذلك قوله فص ص 71

” هنا تباع الحكايات بلا ثمن هنا فقط يمكنك أن تقايض حكايتك بحكاية مدهشة يمكنك أن تشترى عمرا جديدا يناسبك، يمكنك أن تشارك فى تتويج ملكة باتت ليلة أمس مضربة عن العشاء لرفض زوجها شراء فستان جديد، هنا يمكنك أن تتذوق حلوى، أو تمنح امرأة هاربة من قسوة زوجها حضنا دافئًا .. يمكنك أن تتزوج لأسبوع أو لشهر، يمكنك أن تتنكر وتمن ح نفسك لقب شهيد ..”

وفي الواقع الافتراضي ص 92 “الحكاية ملك مؤلفها، والمؤلف في الغالب يعاني من أوجاع العالم، مجنون حد الجنون المنظم الذي يجعله لا يندفع خلف مشاعره وحدها ..”

كما ضفر الخرافة في الرواية وتجلى ذلك في المعالج الروحاني ص 27

“الشيخ الذي تزين وجهه الأسود لحية بيضاء المعالج الروحاني الذي تفرغ له كل خميس.. يحضر معه ثلاثة رجال أشداء يقرأ القرآن بصوت ردئ ..ثم يطلب من رجاله أن يقيدوا حركته لأنه الآن تحت سيطرة الشيطان ..:”

وفي ص 28 تؤكد له زوجته “فريدة ” أنها سمعت الشيطان يتحدث بلسانه.. “

والسؤال الذي يطرح نفسه ما المقدمة التي أدت لهذه النتيجة وهذا التحول في حياة البطل الأربعيني؟

في ص 63 نجد الإجابة على سؤالنا يقول : “هو الآن في عالم الغياب .هذا العالم يزدحم بكل المفقودين عالم يعج بضحايا الشعارات الكبرى والأحلام الكبرى ..”

ويقول في ص 125 “يصارحهم في يوما ما… عن أكذوبة الضمير والصدق والخشوع والعدل والحب والمتعة، سيفعل دون أن يدعي أنه زعيم ملهم ….”

وفي ص 126 المشهدية في مقاومته الشيخ المعالج الروحاني ورجاله..”

كما يرصد للمتلقي سقوطه في دائرة الفراغ ص 127 ” أهرب منه.. أتنكر.. أختبئ خلف دموعي ..”

ويلاحظ المتلقي دائرية الصيد والسنارة فكما بدأ الرواية بها يقول في في النهاية ص 129
يتخيل سمكة ملونة تسبح عكس التيار، تقصد سنارته وهي تراقبه.. “

وبمشهدية جاءت الخاتمة مفتوحة وتترك للمتلقي براح التساؤل هل مات البطل بجرعة المهدئات الزائدة ؟، أم قتله قتلته قرع أجراس الفراغ الذي يلتهم كراكيب الذاكرة؟. ص 130

ومجمل القول إن الكاتب استطاع أن يطرح قضية فلسفية من خلال مشاركة القارئ الضمني له في الرواية فيجعله لا يأخذ دور المشاهد بل المشارك في النص من خلال التفكير الذي يعد عملية مركبة معقدة أو حيوية تتخلل البناء السردي للرواية، ومن خلال الميتاقص الفني واللغوي الذي تمثل في اللغة الشعرية وأنسنة الجماد، فاستطاع أن ينسج سرديته بحرفية تجعل القارئ يحبس أنفاسه ويلهث لجمع أشتات الشخصية الرئيسية والسير معها في خطها الدرامي والصراع تشابك الأحداث، كما لعبت الأمكنة المفتوحة والمغلقة في السردية دورها .أما عن الزمان فكان زمن الاسترجاع النفسي إحدى أهم عناصر البناء الفني للرواية.

……………………………….

المراجع

  • محمد غنيمي هلال :في النقد الأدبي والمقارن، نهضة مصر للطباعة والنشر، د.ط، الفجالة، القاهرة د.ت، ص 125
  • انظر محمد حمزة، الميتاقص في الرواية العربية (مرايا السرد النرجسي )مجمع القاسمي للغة العربية وآدابها، الطبعة الأولى 2011م، ص:9
  • نفسه ص 10
  • انظر مقدمة إدوارد الخراط لرواية إلياس فركوخ :أعمدة الغبار، دار أزمنة /عمان، 1996م، ص 11
  • ينظر عبد الحق بلعابد المقدمة التي كتبها سعيد يقطين لكتاب عتبات جيرار جينيت من النص إلى المناص، الدار العربية للعلوم ناشرون، منشورات الاختلاف، بيروت ط1، 2008م، ص: 15

 

مقالات من نفس القسم