عمود رخامي في منتصف الحلبة: عالم يتشكل في انتظار الحبيبة

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 102
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

في روايته (عمود رخامي في منتصف الحلبة) تمكن (هانى عبد المريد) من خلق عالم روائي متعدد الأبعاد مستندًا على تكئة بسيطة: محب في انتظار مجيئ محبوبته. المحب (الراوي) تحت وطأة لحظة الانتظار أخذه جرس خاص وانتابته حمى الحكي، حكي موجه للحبيبة الغائبة والمتوقعة بين لحظة وأخرى وكأنه بروفة لما يريد أن يقصه عليها عند وصولها. يبدو كأن غيابها قد جعله أكثر حرية في الخوض في أمور متعددة ويبدو كأن تأخرها قد أعطاه الفرصة ليكون أكثر استفاضة فحكى كأنه يحكي لأول وأخر مرة.

جرى الحكي في ثلاثة تتابعات سردية متوازية: التتابع السردي الأول كان محوره (مجاهد) المخلص للوطن، محب الزعيم جمال عبد الناصر، الذي شارك في كل الحروب. قدمه (حنفي) على أنه بطل ليس له مثيل، وانتهى الحال بهذا البطل كشخص مشوش يعيش تحت رعاية صديقه حنفي صاحب المقهى التي ينتظر عليها الرواي. أما التتابع السردي الثاني فكان محوره (هاشم)، حيث فشله في الزواج من حبيبته المخلصة لأنهما من أسرتين متنافرتين من نفس قرية الراوي، ليهرب هاشم ويعيش مشردًا في القاهرة، لينتهي به الحال في الفنادق الكبرى ولكن كقواد يساوم على أتعاب فتياته. التتابع السردي الثالث كان يخص الراوي نفسه من حيث وصف حبه وتأملاته علاوةً على فصول من سيرته الذاتية، فبرغم أسرته المعدمة وانفصال والديه إلا أنه متفوق ويحلم بأن يصبح كاتبًا كبيرًا مثل مصطفى أمين! فيتخرج من كلية الإعلام ويصطدم بالفساد من كل جانب ويعزف عن المشاركة حتى يدفع إلى أقصى الركن، منغلقًا على ذاته يعمل كامين مكتبة حتى يجد نفسه طرفًا في علاقة متوهجة مع زميلته الجديدة في العمل، وتعيد له هذه العلاقة بعضًا من البهجة والثقة في الذات، ويبدأ في الحكي.

من خلال اللعب على هذه الوتار الثلاثة معًا والانتقال المفاجئ فيما بينها تحقق الإيقاع السريع والجذاب لهذا العمل، فما أن يندمج المتلقي مع تتابع سردي معين حتى يتم دفعه إلى تتابع آخر بدون إنذار “خيانة الأصدقاء.. التفاف البشر.. صدمات متتالية.. خبطات.. خبطات بالفرشاة.. خبطات فوق الصندوق… – تلمع يا أستاذ؟” وهكذا تم الانتقال من سياق تأمل شخصي إلى سياق تفصيلة حياتية. وفي انتقال من سياق المحبوبة إلى سياق مغاير تمامًا يخص مجاهد “باردة كانت حياتي حتى أتت بجواب التعيين؛ فذاب الجليد.. سطعت الشمس.. صبت نارها في عينيه.. أشاح بكرسيه عنها” كذلك شاركت الطريقة التي تم بها تقديم تطور الأحداث داخل كل تتابع سرديفي تحقيق عنصر التشويق، فقبل أن يقدم لنا تفاصيل حادثة ضبط هاشم في بيت “تحية” حبيبته بعد زواجها، نجد الراوي يخاطب هاشم “مغامر أنت يا هاشم، لكن ان تذهب إليها أثناء إجازة زوجها السنوية، الا تحتمل أسبوعين أخرين… ميت القلب أنت والله” تلك الأحداث التي انتهت بهروب هاشم وقتل تحية.

تمتع المؤلف في (عمود رخامي) بقدرة عالية على الوصف الدقيق وكذلك استطاع التقاط بعض التفاصيل بكفاءة يحسد عليها فمثلًا يقول عن مجاهد “له أسلوب ممتع.. يتحدث فيجسد ما يقول بيديه وتعبيرات وجهه، لكن هنات مزعجة في كلامه، تغاضيت عنها.. كثرت.. كبرت.. تضخمت…” على أن الأسلوب نحا في بعض الأحيان نحو المبالغة الشديدة فترتب على ذلك نتائج أراها غير محمودة، فمثلًا في وصف حبه “ربما قبل أن يكون للسماء طبقات سبع، وأنت بداخلي” أعتقد أن النزوع للمبالغة والغنائية قد أوقعه في شرك الإستريوتايب الشهير في الإنشاء العربي، حيث موضوعات مثل وصف المحبوبة ورقتها ووصف شدة الحب وكثرة الحب وألم الحب وعنف الحب ومعاناة المحب وذوبانه شوقًا، موضوعات قد قتلت بحثًا، حيث وصلت القدرة الإنشائية في تاريخ الأدب العربي في هذا المكان إلى أخر مدى. لقد أصبح هذا المضمار على أيدي السالفين وبعض من اللاحقين. في المقابل يقترح علينا الأدب الحديث أن لكل تجربة حب فرديتها وخصوصيتها وتناقضاتها بما تحتويه من مشاعر متضاربة حتى تكاد أن تكون محاولات انتاج نموذج معمم محاولات يائسة. كان الحكي هنا موجهًا لطرف غائب، لا يتداخل ولا يتقاطع، فكان أقرب للمنولوج الداخلي. والموقع الذي اتخذه الراوي هو موقع تبرير الذات، وهذا الموقع يتداخل بالضرورة مع مواقع مثل رثاء الذات من حيث تميزها ونقائها في مواجهة الزمن الفاسد الذي لم يعد يقدر الثمين والأصيل، ودائمًا ما يختلط هذا الموقع مع إدانة معممة للآخرين لمشاركتهم في الفساد وعدم المقاومة “لا شيء صحيح.. الكل صامتون، مكبتون.. فوق المقاعد من لا يستحق، تحتها من لا يشعر بكارثة.. الوحيد الذي يشعر.. الوحيد الذي يتألم ، فأنادي ولا مجيب.. أصرخ”. أرى أن المؤلف قد انزلق هنا أيضًا إلى أرض قديمة، أرض مغرية في الحقيقة لسهولتها، مرة اخرى هى وضعية البطل المهزوم المتعالي الذي يتصور أن ذاته في حالة اكتمال نهائي، ويحتفظ بتصور عن الواقع في حالة من الثبات وكأنه أطلال، ودائمًا ما يغذي ذلك تبريرات أخلاقية قاصرة من ناحية ومن ناحية أخرى غير دقيقة “الرضا الذي افتقدناه فلبست الأشياء مذاقًا مختلفًا”، تجاوز المؤلف كثيرًا عندما أسقط هذه الروح على مفردات عالمه فالحبيبة أصبحت كصدى للمحب وكأنها وهمية وغير موجودة أصلًا، فهى أيضًا تتعالى على الآخرين “في الجامعة وجدتهم مسطحين”. أما في حالة هاشم فتسرع المؤلف كثيرًا في ممارسة النقد الاجتماعي باعتبار هاشم ضحية، وفاته أن يعالج عناصر في غاية الثراء في شخصية هاشم وطبيعته الإنسانية، حيث تطرفه في الحب، وتطرفه في التخلي عن مبادئ الجماعة، وتطرفه في الأنانية والرعونة التي أدت إلى قتل الحبيبة.

امتدت هذه الروح لتشمل الرواية، حتى إذا كانت أخر صفحة سنجد صورة رمزية لحصان يجر حملًا أثقل من قدرته فيتعصر ويكرر المحاولة، طبعًا دلالة هذا الرمز مفهومة تمامًا ضمن منظومة الأغراض القديمة التي تماس معها الكاتب تماسًا واضحًا.

………………….

جريدة أخبار الأدب بتاريخ 18 يوليو 2004

عودة إلى الملف

 

مقالات من نفس القسم