من أرشيفى الصحفى: حوارى الطويل مع فتحى غانم عن رواية كانت فيلما!

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

قصة هذا الحوار الطويل، الذى أجريته مع الروائى الراحل الكبير فتحى غانم (24 مارس 1924 - 24 فبراير 1999)، ونشر فى مجلة "اليوم السابع" الباريسية الفلسطينية فى يوم الإثنين 31 تموز/ يوليو من العام  1989 ، تستحق أن تروى. 

 

كان الرجل مقلا فى إجراء الحوارات الصحفية، رغم أنه صحفى كبير، وكنت أراه كثيرا فى مصعد مؤسسة روز اليوس ، أثناء زياراتى المتكررة لمجموعة من الأصدقاء (عبد الله كمال وإبراهيم عيسى و حمدى رزق ووائل الإبراشى وعمرو خفاجى وأسامة سلامة وإبراهيم خليل ومحمد جمال)، كلهم كانوا من  نجوم المؤسسة العريقة ومطبوعاتها.

تصادف أن نشرت رواية جديدة لفتحى غانم بعنوان “أحمد وداود”، وكانت وقائعها تدور فى فلسطين. انتهزتً الفرصة واقترحت على الأستاذ حسين شعلان، الصحفى بجريدة “الأهرام، ومسؤول مكتب القاهرة فى الصحيفة الباريسية،  أن أجرى حوارا مع فتحى غانم حول الرواية الفريدة بين أعماله عن فلسطين. كان يرأس تحرير”اليوم السابع” هانى الحسن، ويرأس القسم الثقافى فيها الصحفى اللبنانى المعروف بيار أبى صعب.

تحمس الجميع للفكرة، توجست خيفة من رفض غانم متأثرا بما أعرفه عن قلة حواراته، وتحفظه الإنسانى الذى سمعت عنه كثيرا. لدهشتى وافق بحماس كبير، ربما لأن المجلة فلسطينية، ولأن روايته أبطالها من الفلسطينيين. أسعدنى كثيرا أن اكتشف  خلال الحوار الإنسان فتحى غانم، ليس صحيحا أنه شخص جاف، على العكس كان الرجل دافئا وحميما، ولكنه خجول بشكل واضح، لا يرد سريعا على السؤال، يفكر بعمق، ثم يجيب دون أن يتلجلج أو يضطرب، شخص لديه رؤية حاضرة، وكلما أعجبته الأسئلة، انطلق بلا تحفظ.

أهمية الحوار، الذى مر عليه أكثر من ربع القرن، فى دلالته على ثقافة وعمق فهم فتحى غانم لفن الرواية: متطلباته، وأدواته، مادة الواقع، وإضافات الخيال، وهو ما انعكس بالطبع على إنجازه الروائى كما فى “الرجل الذى فقد ظله” و”الجبل” و”الأفيال” و”زينب والعرش“.

قد لا تكون “أحمد وداود” من أعماله الهامة ، ولكنها تجربة لها خصوصيتها، حيث كتبت أولا  كمعالجة سينمائية ، كما أن حديثى معه،  الذى استمتعتُ به على المستوى الشخصى، كان مدخلا لاكتشاف أفكار فتحى غانم عموما عن الفن والحياة، وعن الرواية كمعادل مستقل للحياة ، وعن الصحافة وعلاقتها بالأدب.  والآن الى النص الكامل للحوار.

………………………………..

فتحى غانم ” فى حوار صريح مع “اليوم السابع”:

أطفال الحجارة أجبرونى على تغيير نهاية روايتى الأخيرة

حاوره فى القاهرة: محمود عبد الشكور

الروائى المصرى فتحى غانم أصدر رواية جديدة بعنوان “أحمد وداود”، وقد لقيت هذه الرواية اهتماما كبيرا، أولا لأن فتحى غانم روائى مقلّ، وثانيا لأن أحداث الرواية تدور فى فلسطين.  هذه هى المرة الأولى التى يقوم فيها فتحى غانم بإدارة أحداث قصة شخوصها من فلسطين، وتجرى أحداثها فى القدس . أولى روايات فتحى غانم كانت  بعنوان “الجبل” ، واستمرفى كتابتها من 1947 الى 1957 ، ثم توالت روياته الهامة التى تركت بصماتها على الرواية العربية مثل: “الرجل الذى فقد ظله” و”زينب والعرش” و”الأفيال” و”حكاية تو”.

رواية “أحمد وداود” تتناول علاقة إنسانية بين أسرة عربية مسلمة وأخرى يهودية منذ عشرينات القرن العشرين وحتى  العام 1948. “أحمد سالم” يعيش فى ضيعة الأنصارى بالقدس، ويرتبط بصديق صباه “داود” اليهودى ، كما يرتبط بقصة حب مع أخت صديقه ” سارة” . مع تطور الأحداث السياسية، وظهور العصابات الصهيونية، تتفرق السبل بالأصدقاء، حتى تقتل عصابات الأرغون الإرهابية أحمد امام عينى صديقه داود، الذى وقف صامتا لا يبدى حراكا، وتنتهى الرواية بظهور أحمد سالم جديد ، أكثر فهما لقواعد اللعبة،  وأكثر تصميما على تحقيق النصر، حتى لو كان سلاحه الحجارة وحدها.

حول أحداث هذه الرواية وشخوصها، وحول النقد والصحافة والرواية العربية عموما، تحدث فتحى غانم الى “اليوم السابع“.

……

ـ القارىء لروايتك “أحمد وداود” يلمس تأثير الإنتفاضة على مجرى أحداثها ، ما ظروف كتابة هذه الرواية؟

ـ فى الحقيقة أننى كنت أرفض كتابة رواية عن فلسطين فى الوقت الحاضر، لأنى كنت أعتقد أن الأحداث تفرض على الكاتب الروائى الذى يكتب الفن أن يستوعب الأحداث ، وأن يتمهل حتى يعبّر عن أعماقها، ومعروف دائما أن الرواية التى تصوّر أحداثا سياسية،  تأتى بعد فترة من هذه الأحداث، بينما الصراع العربى الإسرائيلى ما زال يفرض نفسه وأحداثه على أى كتابة وبشكل يومى، والدم الذى يسيل لايمكن مقارنته  بالتأكيد بالمداد، وكنت أتصور أن الكتابة لابد أن تكون متأنية، وموجهة لتعبئة الجماهير العربية، وبالتالى فإن أفضل صياغة فى هذه الظروف هى صياغة الشعر، لأنه أفضل فى  فى تأدية الدور المطلوب فى الكفاح الوطنى، ولكن حدث فى العام 1981، أن طلب منى المخرج السينمائى المرموق سعيد  مرزوق ، وبتكليف من منظمة التحرير الفلسطينية، كتابة علاج سينمائى لفيلم يقوم بتعريف العالم بالقضية الفلسطينية، وذكر لى أن هذه القضية تواجه سيلا من الدعايات  الفنية المضادة فى صورة أفلام يقدمها الغرب،  مثل فيلم “عملية عنتيبى” و فيلم ” يوم الأحد الأسود” ، فوافقت على الفكرة، وفى ذهنى كتابة علاج سينمائى إنسانى فى المقام الأول، يخاطب الرأى العام الغربى، حتى لا نتهم باللاسامية،  وغيرها من الإتهامات التى تطلقها الدعاية الصهيونية. ولكن حدث بعد أن كتبت العلاج السينمائى ، وتعاقدت على إنتاج الفيلم إنتاجا عربيا مشتركا على مستوى ضخم، أن جاء الغزو الإسرائيلى لبيروت فى حزيران (يونيو) من العام 1982، وتوقف مشروع الفيلم بعد أن انشغلت المنظمة فى مواجهة مباشرة لإسرائيل، وذلك فى الوقت الذى طلب منى بعض الأصدقاء، ومنهم مكرم محمد أحمد،  نشر العلاج السينمائى فى صحفهم، ولأننى روائى ولست كاتبا سينمائيا، فقد قررت تحويل العلاج السينمائى الى رواية، واستغرق منى هذا الأمر خمس سنوات كاملة.

                                            من السينما الى الرواية

لابد أنك وجدت صعوبة فى تحويل نص سينمائى الى رواية؟

ـ بالطبع، ففى العادة تحوّل الرواية الى نص سينمائى، ولكنى فعلت العكس، ورغم أن الأحداث كانت واضحة ومعروفة فى ذهنى، إلا أن الرواية تختلف تماما فى كتابتها عن العلاج السينمائى، فهى لابد أن تتضمن خطا شاعريا من الإحساس المتدفق الذى يربط بين الأحداث، وهذا التصورالشاعرى يوجد فى السينما من خلال الصورة والألوان والإضاءة والموسيقى، أما فى الرواية فالكلمة وحدها هى التى تصوّرالموقف، لذلك مزّقت العلاج السينمائى، واحتفظتُ بالأحداث، حتى أتممت الكتابة النهائية فى العام 1987,.

ـ لماذا تأخر إذن نشر الرواية حتى 1989؟

. هنا يظهر فضل الإنتفاضة على الصياغة النهائية للرواية، فقد سافرتُ الى الكويت، واتفقتُ بالفعل على نشر الرواية فى إحدى الصحف هناك، وفجأة حدثت الإنتفاضة فانقلبت كل الموازين، ووجدت انه من المستحيل نشر الرواية بدون رصد هذا المنعطف الهام فى تاريخ القضية الفلسطينية، فأمضيت عاما أخر فى كتابة النهاية بظهور أحمد سالم الجديد الذى يواصل الكفاح بالحجارة، هذه الفقرات لم أكتبها، ولكن كتبها شباب الإنتفاضة ثوار الحجارة، بل لقد أجبرونى على كتابتها.

ـ وهل كانت النهاية الأصلية موت أحمد غدرا بالرصاص؟

ـ نعم..  وإن تركتُ لدى القارىء الإحساس بأن كل شىء مفتوح، وأن هناك جولات اخرى، ولكن هذه النغمة القوية المفعمة بالتفاؤل والفرح بظهور أحمد سالم الجديد، كل ذلك كان من تأثير الإنتفاضة علىّ، ولذلك فلست وحدى مؤلف هذه الرواية، الذين صنعوا الإنتفاضة هم الذين أملوا علىّ السطور والفصول الأخيرة فيها.

ـ المدهش أن دقة وصفك لمنازل ضيعة شوكت الأنصارى فى الرواية توحى للقارىء بأنك ربما زرت هذه الأماكن؟

ـ أبدا لم يحدث، وصدق الوصف فى الرواية يؤكد فى المقام الأول صدق الأدب الفلسطينى الذى قمتُ بقراءته وتمثّله، فلو لم يكن صادقا لما نقل الىّ أجواء فلسطين بهذه الدرجة من الوضوح، لأقوم بدورى بنقلها الى القارىء، كما ساعدنى على كتابة الرواية قراءتى لقصتين إسرائيليتين أشار إليهما غسان كنفانى ، إحداهما قصة  بعنوان “إنتزاع شجرة زيتون”، ومنها استقيت وصفى  لطابور إعدام اليهود فى المعسكرات النازية، ولكنى جعلت داود، وهو اليهودى العربى،  يذكّر القائد النازى أنه عربى فلسطينى وليس يهوديا، فيكون ذلك سببا فى إنقاذ حياته. فى التصور الإسرائيلى لم يُنظر أبدا  الى الأمور بهذا الشكل، ولكنى طوّعت كل ما قرأت لخدمة فكرتى.

……

                                 انضمام  الى فلسطين

ـ ولمن قرأت من الأدباء الفلسطينيين لكى تعيش هذا الجو الذى لم تكتب عنه من قبل؟ وكيف بدأت بذور الفكرة فى ذهنك ؟

ـ كان لدى دافع قوى يدفعنى الى الإنضمام الى الأسرة الفلسطينية التى تعبر عن الكفاح الفلسطينى، فبدأت بمتابعة كل ما يقع فى يدى من الأدب الفلسطينى شعره ونثره، قرأت لغسان كنفانى ويحى يخلُف مرورا بالقصص القصيرة لسميرة عزام مثلا، بالإضافة بالطبع الى محمود درويش فى الشعر، كما أننى استفدت كثيرا من مجموعة الدراسات التى قام بها مركز الأبحاث الفلسطينى ، والتى تتناول المجتمع الإسرائيلى والصهيونية، والعمليات التى تقوم بها داخل فلسطين، كل هذ أحدث فى ذهنى نوعا من التصور للإقتراب من القضية الفلسطينية بشكل إنسانى من خلال أسرتين عربيتين فلسطينيتين إحداهما مسلمة والأخرى يهودية، وتتبعت العلاقة بين أفراد تلك الأسرتين ، والتى بدأت علاقة طبيعية، تقوم على التبادل التجارى، والعلاقات الإجتماعية الطيبة ، حتى تتحول الى علاقة عداء، تصل الى حد قضاء طرف على الطرف الآخر.

ـ اعتمادك على أعمال أخرى فى كتابة روايتك، ألا يثير قضية اعتماد الأديب على استعارة التجربة من أعمال ادبية بعينها لخلق رؤيته الخاصة؟

ـ لقد تأثرت بالخبرات التى تضمنتها هذه الروايات، ولكنى اعتمدت على  خلق شخصياتى وأحداثى الخاصة بروايتى، وقد سألتُ الناقد  صبرى حافظ : هل أشير عند نشر الرواية الى أننى رجعت الى روايات كذا وكذا، فقال لى إن هذا غير ضرورى، لأن ظاهرة الرجوع الى روايات سابقة ، والتأثر بها،  أمر معترف به فى مسألة الحداثة والأدب الجديد، وسمّاها عملية “التناص” ،  أى تقارب النصوص الأدبية. ولكنى أقول عموما لمن ينقد هذا العمل إننى إذا كنت قد نجحت فى كتابته، فليس ذلك بجهد فردى، ولكن بجهد كاتب يؤمن بأنه متورط فى الكفاح، وأنه عضو فى العائلة العربية اتتى تعبّر.

…………..

                                أدب فلسطين والتحرر الوطنى

ـ إذا كنت من هواة التصنيفات الأدبية فهل يمكن تصنيف هذه الرواية على أنها تنتمى الى أدب التحرر الوطنى؟

ـ أنا ضد التصنيفات الأدبية ، ولكن كل ما أستطيع قوله إنه إذا كانت هذه الرواية قد أعطت رأيا إنسانيا فى الصراع العربى الإسرائيلى، بحيث تخاطب الرأى العام العالمى على اختلاف فئاته ومستوياته، فقد أدت مهمتها تماما.

ـ استكمالا للسؤال: كيف يمكن عرض قضايانا بعيدا عن الخطابة والحماسة مع إيماننا بأن الحق فى جانبنا والعدل نصير قضيتنا؟

ـ فى أثناء المعارك من الصعب الحصول على صياغة فنية كاملة، لأن صوت المعركة يكون هو الأقوى، وما ينشر من كتابة و أدبيات عموما، يُستخدم كسلاح فى المعركة، فيتحول الأدب، دون وعى من الأديب، الى شعارات أو خطب، وأذكر أننى فى الفترة التى كنت فيها عضوا فى التنظيم الطليعى فى عهد عبد الناصر، وكذلك فى الفترة من 1967 الى 1973، لم أكتب حرفا واحدا فى الأدب، فقد كنت أشعر من الناحية العملية والنفسية أننى غير مهيأ تماما لأجد هذه الراحة التى يتطلبها الفنان لخلق رؤية متكاملة، لأن المعارك السياسية، ومعارك الكفاح الوطنى، تحوّل الكاتب الى جزء من المعركة، مما يقلل من كتابته من الناحية الفنية، ولكن يشفع له أنه شارك فى المعركة بما يملك وهو الكلمة.

ـ هل هذا ينطبق أيضا على الأدب الفلسطينى الذى قرأت؟

ـ الأدب الفلسطينى فيه أدب عالى النبرة والخطابية، وفيه أدب على درجة عالية من الفن والتقنية، ولكن أهم ما يميّز الأدب الفلسطينى عموما الوعى بطبيعة المعركة، والتسجيل الفنى العالى والراقى للشحصيات والأماكن، ولكن التكوين الروائى الضخم، كما فى الكلاسيكيات العالمية ، فسيأتى بعد انتهاء الحدث الوطنى بفترة كافية.

ـ أنت ترى إذن أن المعاصرة حجاب يخفى جوانب الصورة، فهل نستطيع القول مثلا  أن رواية “الحرب والسلام” لتولستوى قد حلت هذه المشكلة على نحو ما؟

ـ لا على العكس، فهى تؤيد وجهة نظرى، فقد كتبها تولستوى بعد انتهاء الحرب بفترة كافية، وهذا ما حاولت أن أفعله، إذ أبعدت أحداث روايتى عن الفترة الحالية، أو جيل ما بعد ظهور إسرائيل، حتى أستطيع أن أكتب فنا، فمثلا لا تنتظر منى أن أكون هادئا وأنا اكتب عن هزيمة العرب فى 1967، يمكننى مثلا أن أنظم بيتين من الشعر عن وقوع الحدث ، ولكن من المستحيل أن أكتب رواية ، بل وحتى استحضار فترة مضت كما فى “أحمد وداود” كان أمرا قاسيا جدا.

ـ منْ تعتقد من الروائيين الفلسطينيين استطاع التوفيق بين الفن والمبدأ أو الفن والفكرة؟

ـ كثيرون، اذكر مثلا غسان كنفانى ويحى يخلُف ، ومن غير الفلسطينيين أذكر عبد الرحمن منيف ، هؤلاء جميعا تعرضوا للقضية الفلسطينية بأسلوب أدبى راق دون الإخلال بالفكرة التى يدافعون عنها، و من دون أن يغفلوا عن دور أدب التحرر الوطنى فى التعبئة للثورة.

ـ ولماذا تعتقد أن الشعر الفلسطينى كان أعلى  صوتا فى التعبير عن النضال من الرواية الفلسطينية؟

ـ هذا شىء طبيعى لأن فى الشعر إثارة ومجال أوسع للبوح والألم، كما أن العاطفة فيه غير مقيّدة بعكس الرواية، أنا مثلا أعتقد أن بيتين من شعر محمود درويش أو سميح القاسم لهما تأثير ضخم ربما يفوق عدة روايات.

ـ هل اختلف نموذج الفلسطينى الآن عن الفلسطينى ما قبل 1948 كما رسمته فى روايتك؟

ـ الفلسطينى ما قبل 1948 يمثّله فى الرواية أحمد سالم القديم الذى يقول إن أحدا لم يعدّه للقتال، ولم يخبره بأنه سيضطر يوما ما الى صنع الديناميت، ولكن هذا النموذج اختلف تماما بظهور أحمد سالم الجديد الذى يطلب فى نهاية الرواية من أحمد سالم القديم أن يستريح بعد أن أدى دوره، والذى ينظر الى اليهود على أنهم أشخاص عاديون، وليسوا مردة، حتى أنه يقذفهم بالحجارة “كما تُقذف الزانية. هذا هو جيل ما بعد 1948، أو بالتحديد جيل الإنتفاضة.

ـ هانز أولافسون ممثل الصليب الأحمر فى الرواية ..  فى تصورى أنه يمثل الأمم المتحدة عموما: يدين ويتأثر ولكنه لايغيّر من الأمر شيئا. هل اختلف دور الأمم المتحدة اليوم  فى الصراع العربى الإسرائيلى عن دورها فى 1948؟

ـ مع الأسف لم يختلف. ويمكن أن يواجه هانز الجديد/ مبعوث الصليب الأحمر بنفس الكلام الذى ووجه به هانز القديم فى 1948، وذلك على لسان شامير نفسه ، حيث ما زال الإسرائيليون يسخرون من اتفاقية جنيف لمعاملة الأسرى، وما زالوا لايهتمون بالمجتمع الدولى ، وشعارهم الدائم هو: “افعلوا ما شئتم فلن نتراجع”، وربما كان ذلك أيضا شعار الفيتو الأمريكى .

…………..

                          أنا والنقاد وأبطال رواياتى

ـ بمناسبة ما قد تثيره روايتك الجديدة من نقد ، كيف تقيم نظرة النقاد الى أدبك طوال السنوات الماضية؟

ـ لمستُ فى الفترة الأخيرة إهتماما كبيرا بأدبى على مستوى الجامعات، حيث تعد رسائل علمية عن رواياتى فى الجامعة الأمريكية بالقاهرة، وفى جامعة تورينو، وفى السويد أيضا، كما أعتز كثيرا بآراء مجموعة من النقاد الذين لايكتبون إلا قليلا، وخاصة النقد الذى كتبه “د على الراعى” عن روايتى “حكاية تو”، حيث ذكر أن بعض فصولها ترقى الى الأدب العالمى، وكذلك النقد الذى كتبه صبرى حافظ عن “زينب والعرش”، أو تحليل د يحى الرخاوى لشخوص رواية “الأفيال“.

ـ ولكن هل حدث نوع من التجاهل النقدى لأعمالك فى البداية؟

ـ نعم حدث، ولكنى أرى أن عملى الصحفى هو الذى شغل النقاد عن أعمالى الأدبية ، بالإضافة الى أننى لا أجيد فن العلاقات العامة، فالأديب كما يقول ألبرتو مورافيا لابد أن “يسوّق” روايته بعد أن يكتبها، ولكنى أعترف لك بأنى فاشل تماما فى أداء هذه المهمة.

ـ وماذا عن رأى النقاد بأنك تأثرت فى كتابتك السردية بالأدباء الروس وخاصة ديستوفيسكى؟

ـ أعتبر ديستوفيسكى أستاذى بالفعل فى كتابة الرواية، وبعد فترة التوقف عن الكتابة من 1967 الى 1973، أخبرتُ توفيق الحكيم أننى سأكتب رواية بعنوان “زينب والعرش” على سجيتى حتى وصلت الى ألف صفحة كما كان يفعل ديستوفيسكى، فقد كنت أريد كتابة رواية على نمط روايات القرن التاسع عشر، وأعترف أننى كتبت “زينب والعرش” وفى ذهنى ديستوفيسكى، وما كان يفعله. ويمكنك أن تلاحظ تأثيره مثلا فى التشابه الواضح بين طريقة العرض فى “زينب والعرش” و”الإخوة كرامازوف“.

هل يرجع هذا التأثر أيضا أيضا الى التشابه النسبى بين الظروف المجتمعية التى كتب عنها ديستوفيسكى وبين الظروف التى تعرضت لها فى رواياتك؟ 

  _ربما كان ذلك صحيحا خاصة من حيث الإحساس باختلاف القيم وتغيرها والإختلالات الإجتماعية القائمة، لكننى أخذت من ديستوفيسكى بالذات قدرته على الإستفاضة فى سرد الأحداث، وهى قدرة كنت متشككا فى أننى قادر على الوصول إليها.

ـ يرى النقاد أيضا أنك بعد “زينب والعرش” لم تستطع خلق نماذج  أو شخوص أدبية لها نفس رسوخ شخصية مثل يوسف عبد الحميد السويفى فى “الرجل الذى فقد ظله”؟

ـ مسألة تراجع دور الشخصيات وعدم رسوخها ظاهرة موجودة فى المجتمع وليست فى رواياتى، فالشخصيات بدأت عموما تضعف، وبدأت القضايا فى البروز بدلا منها، فلم يعد العصر الذى نعيشه عصر زعامات فردية مثل ناصر أو ماو أو تيتو أو نهرو، فقد حلّت المؤسسات محل الشخصيات، ولذلك قمت فى روايتى “الأفيال” بتفتيت شخصية البطل الى ثلاث شخصيات: من الجد ثم الأب الى الحفيد، حتى أعرض قضايا معينة، أهم من الشخصيات نفسها، ولذلك أيضا اختفت سطوة الشخصية فى رواياتى ، فلم يظهر “عبد الهادى النجار” آخر مثلا (أحد أبطال رواية زينب والعرش).

ـ هل بعض شخصيات رواياتك خاصة عبد الهادى النجار شخصيات حقيقية كما يخمن البعض؟

ـ هذه الشخصيات موجودة فى المجتمع المصرى، ولكن ليس بكل حذافيرها أو تصرفاتها، فمثلا لو طبقت وقائع حياة عبد الهادى النجار على وقائع حياة مصطفى أمين كما قيل مثلا ستجد أنها مختلفة تماما، والطريف أننى سمعت أن مصطفى أمين نفسه قد قال :” أنا عبد الهادى النجار”، وقد قال البعض الآخر أننى أقصد هيكل، لاننى اتحدث عن أكبر صحفى فى مصر فى تلك الفترة ، والواقع أننى لا يعنينى هيكل أو مصطفى أمين بالذات، ولكن الذى يعنيى هو رصد الآليات الموجودة، والتى تمثل الصحافة والسللطة فى هذه الفترة، أى أريد أن أقول  أنه فى وجود هذه الظروف وهذه السلطة تنشأ علاقة من نوع معين بين السلطة وبين الجهاز الإعلامى والصحفى، أريد أيضا أن أشرح كيف ينجح الإنسان فى الوصول الى قمة الهرم الصحفى، وكيف تكون علاقته مع السلطة، هل هى علاقة قائمة على مبادىء أم هى مغامرة إنتهازية؟ عبد الهادى النجار إذن نموذج لصحفيين كثيرين فى تلك الفترة كانوا يسيرون مع التيار، ولكنه ليس تمثلا إطلاقا لشخص بعينه.

…………………….

                                  بين الصحافة والأدب

ـ إذا كان هذا هو سلوك عبد الهادى النجار الإنتهازى، فأين يمكن أن يقف الصحفى عموما من السلطة؟

ـ على الصحفى أن يتحرر تماما من أى تبعية للسلطة ، لأنه شاهد على  عصره، أى يدلى بشهادته يوميا أمام محكمة القراء، وبذلك يساهم فى صنع رأى عام مستنير، بما ينقله للقارىء من أخبار ومعلومات صادقة وكاملة، فإذا ما شارك الصحفى فى صياغة الرأى العام، فإنه يقدم السلطة للشعب، إذ أن السلطة فى نهاية الأمر هى أن يكون لديك معلومات صحيحة، فالذى لديه معلومات يستطيع أن يصدر القرار ، ولذلك فإن حرية الصحافة والصحفى عموما هى حرية معلومات، وليست حرية رأى، ولن يحدد الشعب قراره، إلا فى ضوء معلومات صحيحة، أحد مصدرها الصحفى أو الصحافة.

ـ كيف ترى تجربة  كتابة فصول الرواية أولا بأول لكى تلحق بمواعيد الطبع دون أن تكتب كاملة لتطبع فى كتاب؟

ـ ديستوفيسكى كان يكتب بهذه الطريقة، فقد كانوا يحملونه من مائدة القمار الى المطبعة ليستكمل فصول رواياته، وتشارلز ديكنز أيضا كان يكتب مسلسلات يومية فى الصحف، بل ولعدة صحف فى نفس الوقت، حتى أن بعض أصول رواياته، يوجد فيها خلط بين اسم بطل الرواية وأسماء أبطال روياته الأخرى، هذه الطريقة فى الكتابة شكل مألوف منذ فترة طويلة.

ـ ألا ترى أن ذلك قد يؤثر على أسلوب الكاتب فيلجأ فى مخاطبته لقارئ الصحيفة العادى الى الإثارة أو الى اختصار الأحداث أو ربما تفجير الأزمات لزيادة التوزيع؟!

ـ ما تقوله عن تأثير الكتابة الروائية للصحيفة مباشرة أمر ممكن، ولكنى فى تجربتى فى هذا المجال لم أتعرض لذلك، فمنذ 1950 وأنا اكتب مجموعات قصصية قصيرة ، قال عنها النقاد إنها  بداية ثورة أدبية فى القصة، إذ استخدمت فيها أساليب جديدة مثل تعدد وجهات النظر وتيار الوعى والمونولوج الداخلى. كان لى إذن اسلوبى الأدبى السابق على الإشتغال بالصحافة، بل إننى عندما عملت بالصحافة قيل لى إن أسلوبى أكثر رصانة مما تطلبه الكتابة الصحفية، ولذلك جعلتنى الصحافة أتخلص من التشبيهات والأساليب البلاغية التى تؤدى الى الترهل فى المعانى، والنموذج الهام الذى أذكره هنا للتوفيق بين الأسلوب الصحفى والأسلوب الأدبى هو الأديب الأمريكى أرنست هيمنجواى ، فقد كان مراسلا حربيا يغطى الحرب اليونانية التركية ، فنصحه الناقد إزرا باوند بكتابة الرواية لأن أسلوبه ملىء بالصراع، والذى هو عماد الرواية، ولذلك استطاع هيمنجواى أن يكتب بلغة صحفية بسيطة حتى يصل الى قرائه، وهى فى نفس الوقت لغة أدبية راقية ومعبرة، وأفضل مثال على نجاحه فى هذه التجربة هو روايته  “العجوز والبحر“.

……………………

                                الرواية الجديدة دليل أزمة

ـ ما رأيك كروائى فى التجارب الجديدة لبعض الكتاب العرب تأثرا بالرواية الجديدة التى ظهرت فى أوربا؟

أنا لا أسمى ذلك رواية. وإنما أسميها عملا أدبيا ، لأن فيها عزلة عن المجتمع، ومحاولة الإعتماد على الذات، باستخدام  ألفاظ خاصة جدا، وبخلق تصور ذاتى . يكون فى النهاية عمل فنى بلا شك ، ولكنه مثل أى لوحة من الرسم التجريدى ، تحتاج الى وقت لتذوقها، لأنها تنقل جوا خاصا جدا. أنا لا أنكر أن من حق أى أديب أن يقوم بذلك، وأن يقول :”أنا” ، وأن يتكلم من خلال هذه الأنا، وأن يكون له قاموسه وألفاظه، و أن يقول إننى ضائع فى هذا العالم، وأريد إثبات وجودى بهذ الطريقة، هذا حقه، ولكنى أعتقد أن هذه الظاهرة تدل على أزمة، حيث يبرز الإنسان ذاتيته بشكل مبالغ فيه،. إذا كان هناك بقاء أو استمرار، فلن يكون فى الذات،  وإنما خارجها.

ـ وماذا عن استخدامك للرمز فى بعض رواياتك؟

ـ كنت أهرب دائما من استخدام الرمز، لذلك تعجبت كثيرا عندما قيل إن شخصية زينب فى “زينب والعرش” هى رمز لمصر. أنا أعتقد أن الأديب يلجأ الى الرمز عندما تكون لديه فكرة واضحة جدا ومسيطرة ، هنا يستطيع الأديب أن يرقى بفكرته الى مرتبة الرمز، أما بالنسبة لى فعندما تتغلب الفكرة أكتبها فى مقال . الأدب الروائى مرتبط بالحياة، وليست فى الحياة أفكار محددة، وإنما  هناك جدل فكرى ، لذلك إذا صوّر الأديب الشخصية على أنها والمبدأ الذى تدافع عنه شىء واحد، تحوّلت هذه الشخصية الى رمز، كما فعل نجيب محفوظ فى “أولاد حارتنا” مثلا.

ـ ألم تلجأ حتى الى نوع من الإسقاط السياسى فى رواياتك؟

ـ عندما كنت أكتب رواية، كنت أجعل شخصيات الرواية هى التى تتحدث، فمثلا يقول ناجى أحد أبطال “الرجل الذى فقد ظله” : “هؤلاء الضباط الأغبياء الذين أمموا قناة السويس”، هذه العبارة تنقل الى القارىء دون إسقاط أن بعض أصحاب المصالح كانوا يعارضون تأميم القناة، فلست محتاجا إذن الى الإسقاط لأننى أستطيع أن أقول كل ما أريد على لسان شخصياتى، بل لقد تحدث عبد الهادى النجار فى “زينب والعرش” عن الثورة والمخابرات ، بشكل لم يجرؤ أحد على التحدث به من قبل.

………………..

                         الرواية العربية في ازدهار

ـ لمن تقرأ من الروائيين العرب؟ وهل تعتقد أن الرواية العربية فى فترة ازدهار أم انحسار؟

ـ اقرأ دائما أعمال محفوظ وحقى من الأدباء المصريين، كما قرأت لعبد الرحمن منيف رواياته الهامة مثل “الأشجار واغتيال مرزوق”، وقرأت أعمال جبرا إبراهيم جبرا مثل “السفينة” ، وأتابع روايات السورى حنا مينا والسودانى الطيب صالح. أعتقد أن الرواية العربية بالفعل فى مرحلة ازدهار، وخصوصا بالنسبة للأجيال الجديدة، وقد أعجبت كثيرة برواية جمال الغيطانى الأخيرة “رسالة البصائر فى المصائر”، كما أتابع دائما تجارب يوسف القعيد.

وما رأيك فى رواية الأدباء العرب المكتوبة بلغات غير عربية مثل الفرنسية ؟ النقد الذى يوجه لها  فى الغالب هو أنها تظهر وجها واحدا للشرق يفضله الغرب وهو عالم أقرب الى” ألف  وليلة وليلة”؟

لم يسعدنى الحظ بقراءة روايات الطاهر بن جلّون ورفاقه، ولكنى أريد أن أقول عن النقد الذى يوجه إليه هو ورفاقه إن المهم  فى الرواية الصدق فى التعبير عن الواقع، وهذا الأمر نسبى وليس مطلقا, وأذكر هنا أننى قرأت مقالا فى “الصنداى تايمز” يعقد فيه كاتبه مقارنة بين “الرجل الذى فقد ظله: بأجزائها الأربعة، وسمّاها “رباعية القاهرة”، وبين “رباعية الإسكندرية” لداريل، وقد ذكر كاتب المقال إن ما صوّره داريل عن الشرق وسحره وغموضه قد صوّره فتحى غانم بشكل أبسط وأوضح وأصدق. هذا يؤكد أن معيار الحكم  لابد أن يكون هو الصدق الفنى.

ـ أخيرا .. ماذا فى جعبة فتحى غانم بعد “احمد وداود”؟

ـ أحاول  الآن كتابة رواية يدور محورها عن السلطة عموما، وعن سلطة الجمال بوجه خاص، فقد وجدت تشابها عجيبا بين الآليات التى تستخدمها المرأة الجميلة فى الإستبداد بالرجل، وبين الآليات  التى يستخدمها الحاكم المتسلط فى الإستبداد بشعبه، وبعد محاولات فى كتابة الفكرة، أحسست أن المعالجة مباشرة أكثر من اللازم، وأنا الآن فى انتظار نضج الفكرة، حتى أكتبها بالشكل الذى يرضينى .

مقالات من نفس القسم