محمد الفخراني
في إحدى مرّات التسكُّع حصلْت على واحدة من أجمل وأطول قصص الحب، كنت أمشي بخطوات متأنية على رصيف شارع بوسط المدينة، واكتشفْت أني وهي نمشي متجاورَين دون قصد، منذ ثلاث أو أربع خطوات، في بداية الأربعين من عمرها، تمسك بإحدى يديها أكياسًا ورقيّة بها ملابس اشترتها قبل دقائق، وبيدها الأخرى موبايلها تُكلِّم صديقتها وتقول إنها ستصل إليها خلال ثوانٍ، شعرْت أني وهي معًا في حياة كاملة منذ عشرين سنة، وأننا قضينا سهرتنا بوسط المدينة، واشترينا لها ملابس، والآن في طريق عودتنا إلى بيتنا، مشينا عشرين خطوة تقريبًا، عشرين سنة، دون قصد، حتى وصلَت إلى صديقتها فتوقّفَت، وأكملْت أنا تسكُّعي.
“التسكُّع”، واحدة من كلمات يدَّعي الإنس أنهم أول مَن قالها، ويدَّعي الشياطين أنهم أول مَن قالوها، وهناك آخرون يدَّعون، ولا أحد يريد التنازل، طبعًا، ومَن يتنازل عن “التسكُّع”؟
واستوقَفني في الشارع، عمره ثمانون تقريبًا، ومعه علبة بلاستيك صغيرة يضمّها إلى صدره، قال لي إنه يأكل بمفرده منذ مدّة لا يعرفها، ويشعر أنه سيموت لو أكل بمفرده مرّة واحدة إضافيّة، قعدْت معه على حافة الرصيف، بيننا العلبة مفتوحة، نأكل منها معًا، خبزًا مقرمشًا وجبنًا لونه برتقالي وطماطم ومخلّل ليمون، واقتسمْنا برتقالة، وأمُرّ على رصيف مقهى فأرى شيطانًا سبعينيًّا جالسًا إلى طاولة، وتقف أمامه بائعة متجوّلة شابة بضاعتها عطور، تَعْرِضها عليه، فيسألها عن جملة يَدَّعي الإنس أنهم أول مَن قالها، ويدَّعي الشياطين أنهم أول مَن قالوها، تعطيه البائعة جملتَين: “أنا واقع في حبّك، أنا واقعة في حبّك”، تبدوان كأنهما جملة واحدة، لكنهما أيضًا جملتان، توقَّعْت أن يشتري السبعيني منها زجاجتَيْ عطر لأنها أجابته بجملتَين، وأُصادف بنتًا في الثامنة عشرة تمشي بمنتصف الشارع مثل حيوانة رقيقة جامحة، وثدياها يرتفعان وينزلان مع إيقاع خطواتها، هي تعرف ما تفعله، والمزّيكا التي على صدرها، الشارع كله لها، ورائحة سنواتها الثمانيَ عشرة تُسعِد الهواء، وأميل ناحية شجرة لأُسَلِّم عليها، فأُمَرِّر يدي على جسمها، وأقول لها: “كيف حالك اليوم؟”، هكذا يكون سلامي للأشجار في النهار، أمّا بالليل، خاصةً في وقت متأخّر، تكون فرصة لألُفّ ذراعي حولها، وأحضنها خفيفًا دون أن يلاحظني أحد، حتى لو لاحَظني فربما يعتبرني مجنونًا أو شبه مجنون، ولست ببعيدٍ عن هذا بأيّ حال، لا يُهِمّ، وإن لم يلاحظني فكاميرات المحالّ تُسجِّل ما أفعله ولن تضيع منّي فرصةَ أن يراني أحدٌ ما ويعتبرني مجنونًا أو شبه مجنون، ومن الممكن أن أقع في الحب ثلاث أو خمس مرّات في اليوم، أحيانًا أكثر، كلها حب حقيقي بطريقة ما، أعيش قصص حب لمدة يوم واحد أو ساعة أو ليلة أو دقيقة أو نظرة أو عدّة خطوات، ليست القصة بحجمها، المُهمّ أن يكون لها قلب، أنا ماهر جدًّا في تشكيل قصص الحب، وماهر جدًّا في تدميرها، وأدخل شارعًا جانبيًّا، فأجد شابة عشرينيّة تعمل على مطعم متنقِّل، عبارة عن طاولة خشبية مستطيلة بارتفاع متر ونصف المتر، فوقها خبز، وعلب بلاستيك صغيرة بها أنواع من الجبن، ومربَّى، وبيض مسلوق، وبطاطس، وسَلَطة، ومخَلّل، تبيع الشابة سندويتشات بأسعار رخيصة، وأمُدُّ يدي إلى طفلة تقف داخل عربة أطفال تدفعها الأم الشابة بتمهُّل، فتمُدُّ الطفلة يدها إليّ لألمسها وأنا أمرُّ بجوارها، وهناك أشياء لا نحصل عليها إلّا بالتسكُّع، وأشياء لا نحصل عليها إلّا بالتسكُّع أكثر، وتطير ورقة في الهواء، وطفلة تضع قطعة بسكويت في فمها، وتتلامَس يدي مع يدٍ تمُرّ بجواري، وأسمع أربع جُمَل بأربع لغات مختلفة، وثلاث ضحكات معًا، وشتيمة ليست مُوجَّهة لأحد، ولمحة من أغنية، وأشمّ رائحة عصير جوافة، وخبز طازج، وتمشي معي قطة عدّة خطوات وتتوقف، ويظهر متشرِّد من اللا شيء أو من كل شيء، فاتحًا ذراعيه لي وهو يرقص على مزّيكا تتنَطط من محلّ ألعاب قريب، فأفتح ذراعَيّ ونرقص معًا، وتظهر متشرِّدة وترقص معنا، وينضمّ إلينا شاب، وشابة، وتأتي صاحبة كوافير مُلاصِق لمحلّ الألعاب وبيدها مشط شعر برتقالي، وصاحبة محلّ الورد القريب وبيدها قطعة شيكولاتة تأكل منها، وتكبر دائرة الرقص العشوائية بمتشرِّدِين، وشباب وشابات، إنس وشياطين، فوضى رائعة من رقص ومزّيكا وفرح، وأحب أن أُجرِّب كل المشاعر، وأرى كل الأماكن، وأتعرّف إلى كل مَن وما في العالم، وأحب أن أحب كل واحدة في العالم، وتكون لي قصة حب معها، وأحب أن أكتفي بواحدة فقط من العالم، وتكون لي قصة حب واحدة، وأمُرّ بجوار شاب يقول في موبايله إنه رأى نفسه يطير في الحلم الليلة الماضية، حلم شائع عند الإنس، وله تفاسير كثيرة، وأول مَن فسَّر الأحلام هم الشياطين، لكنهم لا يسجِّلون معاني رموز الأحلام في كُتب، الإنس يسجِّلونها، وأفكر أنّ الأرصفة تمنح حياة إضافيّة للشوارع، ونحلة تحوم داخل ڤاترينة محلّ حلويات، حمامة تحطّ على حافة نافذة، لسان عشرينيّة يَلحس العسل من ظَهر ملعقة بلاستيك، روّاد مقهى يُهلّلون لهدَف في مباراة لكرة القدم، شاب وشابة يقفزان الرصيف إلى مطعم مأكولات شعبيّة، جاليري أنتيكات مَدخله على شكل مغارة ورائحته غابة، “بإحساسي” تقولها فتاة في الرابعة عشرة بعدما سألَتها أمها: “كيف عرفْتِ؟”، وأدخل شارعًا قديمًا يتفرّع من منطقة وسط المدينة، طوله عشرون مترًا تقريبًا، وعَرْضه أربعة، بيوته على الجانبين بسيطة ومتلاصقة، كأنها بيت واحد بأبواب عديدة، ولا يزيد ارتفاع أيٍّ منها على ثلاثة طوابق، رائحة الشارع ماء ورد، وأرضه بلاط معَشَّق نبيتي ورمادي، وفيه تيار هواء بارد، ومزيج هَشّ من ظِلٍّ وشمس، وفي نهايته شجرة عادية غير عادية، كبيرة وعتيقة وجديدة، بمجرَّد دخولي شعرْت أني انعزلت عن العالم خلفي، ولم يكن أيّ صوت، كأنما انقطعَت كل الأصوات، وبعد ثلاثة أو أربعة أمتار رأيت شابة ثلاثينيّة تخرج عارية من بيت على اليمين وتجري إلى البيت المقابل، توقّفْت بمكاني، بيني وبينها خمسة أمتار تقريبًا، لم تكن تجري، إنما تهرول على مهلها، لا تهرب من شيء أو إلى شيء، جسمها كبير، وتفاصيله كبيرة، وتَعبر بخطوات كبيرة وهي تنقل كل واحدة من قدميها على شكل قوس خارجي، القدم اليمنى، ثم القدم اليسرى، كعباها نظيفان، وشعرها الكبير يتطوَّح ويضرب البراح الأيمن من ظهرها، ثم ينتقل كله كتلة واحدة في الهواء ويضرب البراح الأيسر، وثدياها الكبيران يتأرجحان بتثاقُل لذيذ مع إيقاع شعرها، وردفاها الهائلان يرتَجّان، وينشقّ الفالق بينهما مرّتين متتاليتين، وأسمع صوت ارتطام الفلقتَين، وألمح بطن وركها، وعانتها المحلوقة لتوّها، وما تزال منطلقة ببطء داخل مزيجٍ هَشّ من ظِلِّ البيوت وضوء الشمس، وأشعر بوقْع خطواتها في بلاط الشارع، ويَسخن الهواء، وأشُمّ رائحتها، طبْخةَ جسمها، وتغوص عيناي في الظِّلّ العميق بطول قناة ظهرها، وتأخذني التماعَة في نهاية الظَّهر العريضة مثل سرْجٍ وثير، وعند لحظة تحجب بجسمها الشجرةَ الكبيرة، وتملأ عينَيّ، مُبهجة وشهيّة ومُشبِعة، ثم تَعبر أخيرًا إلى البيت على اليسار، وأظلّ بمكاني، لا أفكر في شيء غير أني سعيد، وأتمنّى أن تظهر ثانية، لكني على الفور تمنَّيت ألّا تظهر، واستدرت لأخرج من الشارع، وفي الصباحات أرصفة الشوارع مغسولة، شمس دافئة، وظلال الأشجار والبنايات، وأُفُق مفتوح، وتيارات هواء منعشة تخرج من الممرّات الجانبيّة لتلمس وتُكمل طريقها، وأتمهّل أمام فَرْشة كُتب، أُمرِّر عينَيّ على العناوين والأغلفة، وألمح في وسط الشارع ما بدا لي أنها غزالة، تتقافز بخطوات واسعة في الاتجاه العكسي للسيارات، وتتفاداها، ثم تنحرف فجأة إلى مَمَرٍّ ظهر فجأة كأنما لم يكن موجودًا من قبل، وأشكّ إن كنت بالفعل رأيت غزالة قبل لحظات أم لا، وأشمُّ رائحة البُنّ من ثلاثة محالّ، وتتوقّف لِصق الرصيف عربة نقل صغيرة تحمل شتلات ورد، فتأتي شابة عشرينيّة بيدها برتقالة، تعطي نصفها لصاحب الشّتلات، وتدفس أنفها وسط الورد وتسحب نفَسًا عميقًا، وبعد الثانية عشرة ليلًا أجلس على حافة الرصيف عند تقاطُع أربعة شوارع، قدماي على الأسفلت، المحالّ مغلقة، إضاءة خافتة، وحولي مجموعة من شباب وشابات في عمر السابعة عشرة يلعبون أكروبات خفيفة، يدخل أحدهم، أو تدخل إحداهن، إلى منتصف الشارع ويؤدي حركته، تؤدي حركتها، مع تشجيع الزملاء، وحقائبهم وزجاجات المياه متكوّمة في زاوية على الرصيف، وأسأل أحدهم عن رواية يمسك بها، وتفلت بالونة من يد طفلة، كلب يشرب من إناء فخّاري بجوار شجرة، إعلان على زجاج محلّ ملابس يطلب للعمل بائعة ذات خبرة وحسنة المظهر، فطيرة تخرج من فرن، بائع حلوى متجوّل يشتم الجميع مع نفسه لأنّ أحدًا لا يشتري منه، ثلاثينيّة تُرَبِّت رأس كلب مُمَدَّد على الأرض ويتنفّس بصعوبة، سيارة تصطدم بموتوسيكل يخرج فجأة من ممرّ، شاب يُنزِل بنطلونه وسط إشارة المرور ويبول، تسعينيّة تعمل في توصيل الطلبات على درّاجة، ثلاثة بوسترات متجاورة في مَدخل سينما، فيلم رعب، وفيلم رومانسي، وفيلم كوميدي، شابٌ يدفع بهدوء بابَ بار ويدخل، بلكونة تنفتح وتظهر لمحة من أربعينيّة خمريّة، وقُرب وقت الغروب يزدحم الرصيف بخِفّة، شمس برتقاليّة، بعض الشوارع مزدحمة، بعضها أقلّ، وبعضها شِبه خالٍ، أعرف حال كل شارع منها في هذا الوقت، وأتنقّل بينها حسبما أحب، حسبما يحب التسكُّع، وفي ساحة صغيرة أُصادف خمسينيًّا يؤدي عرضًا للتسلية، فيُقلِّد صوت أيّ واحدٍ أو واحدة من جمهوره، يقول أحدهم جملة ما، أو تقول إحداهن، فيُقَلّد الخمسيني الصوت والأداء على الفور، يضحك الجمهور ويُصفّق، يُقلِّد مشياتهم أيضًا، الإنس عباقرة في التقليد، يفعلونها مع الطيور والحيوانات وكل الكائنات، حتى إنهم يُقلِّدونها في الأداء والطِّباع بشكل تلقائي خلال حياتهم اليوميّة، وتقفز أربعينيّة إلى منتصف الشارع، فتتوقف السيارات، وتَخرج رؤوس من نوافذ الأتوبيس، وتقول الأربعينيّة بصوت مرتفع لنفسها والجميع: “في حياة أخرى؟ هذه جملة خَدّاعة، نخدع بها أنفسنا حتى لا نفعل ما نتمنّاه جدًّا ونحبه فعلًا”، تتحرّك بين السيارات والأتوبيسات، تنظر إلى الجميع ولا تنظر إلى أحد: “وماذا يمنعنا عمّا نتمناه؟ كلها أشياء تافهة، تافهة جدًّا”، تضرب على مقدّمة سيارة: “أنا قرَّرت، كل ما أحبه في هذه الحياة سأفعله في هذه الحياة”، تنهّدَت ونظرَت بعيدًا، وقالت: “كل ما أحبه هنا سأفعله هنا”، وعند تقاطُع شارع جانبي مع شارع رئيس يقف شاب يبيع ملابس نصف جديدة، يعلِّقها على ستاند متحرك، وفي الخلفيّة فندق له شرفة دائرية مُزيَّنة بعناقيد ضوء صفراء خافتة، شاب وشابة على الرصيف يرسمان لوحات بالفحم، شمس ونور دافئ، بائعة مناديل، هواء حارّ، ثلاث نجمات وقمر شفاف وسماء بنفسجيّة، زخّة مطر مفاجِئة، مُراهِقة تُصوِّر بموبايلها بولة الآيس كريم التي اشترتها للتوّ، محلّ ملابس مخصَّص للمقاسات الكبيرة، عراك خفيف بين شابٍ وسبعيني، ثلاثة قرود وغول وديناصور يرقصون في افتتاح مطعم، ثلاثينيّة تبتسم مع نفسها بعدما لاحَظَت أني أطلْت النَّظَر إلى مانيكان خمسينيّة تلبس بيچامة، ستّيني يستدير بظهره للشارع ويحضن نفسه وهو يلفّ ذراعيه على صدره، ويربِّت كتفيه بيديه، ويهمس لنفسه: “هوِّن على نفسك”، وأمام شركة طيران تقف متشرِّدة سبعينيّة على حافة الرصيف، حافية، بملابس مهلهلة، سيجارتها في جانب فمها، ويداها حول وسطها، وتنظر فوق الجميع، وتُطلِق دخانها للهواء، وعند لحظة أشعر وكأنّ العالم غير حقيقي، وكل ما حولي غير موجود بالفعل، لكني أعرف أنّ العالم حقيقي، وكل ما حولي موجود فعلًا، لكنها تلك الحالة التي أشعر فيها أني يمكنني المرور من خلال الأشخاص والسيارات والجدران، وأتوقف عند مَدخل مَمَرّ، وأرى في العمق نمرًا يتفرّج على ڤاترينة محلّ لِلعَب الأطفال، ثم يمشي باتجاه باب المحلّ ويتوقف عنده كأنما تذكَّر شيئًا، ويعود ليتفرّج، ومن جديد يتجه إلى الباب، ويتوقف، ويعود ليتفرّج، وبعدها يمشي في عمق المَمرّ، ببطء، حتى يخرج إلى مساحة يملؤها نور الشمس فتحدث هناك التماعة كأنها بركة من ضوء فضّي وبرتقالي، ويختفي النّمر، ولا أكون متأكّدًا ممّا رأيته، وأقرأ أشعارًا عن الحب مكتوبة في قِطَعٍ من قماش ملوّن معلَّقة على جدار، وأشعارًا أخرى عن الحياة مكتوبة في الجدار نفسه، وأربعينيّة تَعبر الشارع جريًا بين السيارات، شاب يدعو المارّة للجلوس في المقهى الذي يعمل به، حمامتان تلتقطان حبّات قمح على جانب الرصيف، ضحكة أنثوية حلوة من داخل مَمَرّ، لوحة خشبية بالأسعار في مَدخل أحد المطاعم، عشرينيّة تتكلّم لغة الإشارة في ﭭيديو موبايلها، كلب يدور حول نفسه كأنما يحاول أن يعضّ ذيله، ضَرطة تفلت من خمسينيّة أنيقة فتضحك وتُطلق العنان لسلسلة ضَرطات مقرقرة وتُواصِل تضحك، فتاة تنظر إلى صورتها في ڤاترينة محلّ ملابس رجالي وتُهندم ملابسها، موسيقا أغنية رومانسيّة قديمة، رائحة ليمون وكمّون وشطّة، عصفور وعصفورة يُجرِّبان السكس على غصن شجرة قريب، ولد وبنت يأكلان معًا قطعة جاتوه من علبة بلاستيك، خفّاش يطير في وضح النهار بشكل متموِّج ويتفادى الأشياء عند آخر لحظة، متشرِّدة تحضن شابًّا من ظهره وتلفُّ ذراعيها حول صدره وتضمّه إليها، فيلتفت إليها ويبتسم، وتربِّت هي قلبه، وتقول له: “هنا حلو، عندك هنا حلو”، وفي لعبةٍ مع نفسي أنظر بامتداد الرصيف وأسجِّل داخل عقلي أماكن الأشجار والأشياء الثابتة التي ستصادفني، ثم أغلق عينَيّ وأمشي عدّة أمتار، وعشرينيّة تقف على الرصيف أمام محلّ عطور تعمل به، وبيدها مجموعة من شرائط اختبار العطر، تُقدّمها للمارّة دون ابتسامة أو تَجَهُّم، لا إلحاح أو رجاء، جسمها صغير أنيق، وقْفَتها أنيقة، تلبس فساتينًا بسيطة، ألوانها لها علاقة بلون القرنفل، بُنّي محْمِرّ، نبيتي فاتح أو غامق، كلّها على بعضها حالةُ أناقة، هادئة، واثقة، ومألوفة مع لمسة غرابة، وأشمّ رائحتها وأنا أمُرّ بجوارها، قرنفل خفيف، وبشرتها بلون عود قرنفل أصيل، وأتوقّع أنّ طعمها به مَسٌّ لذيذ من مرارة القرنفل، والإنس أول مَن صنع العطور، ربما هذا تعويض لهم عن أنّ الشياطين أول مَن نَسَّقَ باقات الورد، وأمشي في شارع جانبي صغير، يتَّسع بعد عدّة خطوات ليكون عرضه خمسة أمتار، على جانبيه بيوت بارتفاعات قريبة، ومحالّ للحِرَف اليدويّة، وأرى فتاة وشابًّا في السابعة عشرة من العمر، يمشيان على خيط ممدود بين سطحَيْ بيتَين متقابلَين، والبعض في مقهى ينظرون إليهما كأنه يحدث كل يوم، وتخرج أُمُّ الفتاة من البيت، أو ربما هي صديقة أمها، وتطلب منها النزول للغداء، وبجوار شجرة على الرصيف أصادِف فتاة في الثامنة عشرة تبكي، وصديقتاها تحضنانها، فأقول مع نفسي “يا صغيرة، كلّه سيمضي”، وبعد خمس دقائق أصادِفها تضحك مع صديقتيها، وأتسكَّع من شارع إلى ممَرّ إلى رصيف إلى زقاق إلى شارع، وما زلت أريد، وأريد أكثر، وأراني داخل كل ما هو حولي وخارِجه في الوقت نفسه، ولا أريد الخروج من هذا العالم، لا أريد الخروج من اللحظة، مع أني أيضًا خارِجها، أنا داخل المكان والوقت وخارِجهما، معهما وحُرٌّ منهما، ولست مهتمًّا مَن قالها أولًا، الإنس أم الشياطين أم غيرهم.. “التسكُّع”….
………………..
*قصة من مجموعة قصصية تصدر قريبًا عن دار “العين” للنشر.