حديقة الأرامل

ضياء الجبيلي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

 

ضياء جبيلي

" كتبك تلك أبصق عليها, فليس كل ما هو موجود, موجود في كتبك. "

( زوربا – نيكوس كازنتزاكي )

 

كان آدم ذو الأعوام الأربعة عشر وحيد أمه الأرملة. كان يحب القراءة. يدّخر مصروفه، وأحياناً يسرق، ليوفّر ثمن الكتب التي تكرهها أمه وتعتبرها مصدر المجون. ولا تفرق بينها وبين المجلات الخليعة، تلك التي يتعاطاها الأولاد بعمره. وبالإضافة إلى ذلك، كانت تتمتع بحاسة شم كلبية، طالما مكنتها من العثور على الكتب التي يخفيها ابنها، فتسارع إلى إحراقها.

بدأ اهتمام آدم بالكتب منذ فترة مبكرة، عندما كان في الصف الخامس الابتدائي، فقد عثر في مكتبة المدرسة الصغيرة التي أنشأها معلم اللغة العربية، في وقت تكاد أن تنقرض ظاهرة المكتبات المدرسية في العراق، على كتاب صغير بغلاف رُسم عليه صرصار عملاق يجلس على سرير وينظر إلى ظله الآدمي بنظرة ذاهلة ومذعورة. وكان الكتاب عبارة عن رواية حملت عنواناً لافتاً أثار فضول الفتى الصغير : المسخ !

كان وجود تلك الرواية في المكتبة، بين قصص الصبيان والناشئة، غريباً وشاذاً. مثل خروف بين الأرانب. عندما أراد آدم استعارتها، رفض المشرف على المكتبة ذلك، متذرعاً أن مثل هذه الكتب كالسموم، يجب أن تُحفظ بعيداً عن متناول الأطفال.

” لكني لست طفلاً ! ”

قال آدم بجسارة لم يعهدها المشرف من قبل. اعتبرها وقاحة منه، فدمغه على رأسه هازئاً :

” وماذا تحسب نفسك يا ولد ! أن بلوغك العاشرة من عمرك يجعلك مؤهلاً لقراءة مثل هذه الأشياء المخيفة ؟! ”

كاد آدم أن يسأل المشرف عما يعنيه بـ ” الأشياء المخيفة ” لكنه فوجئ به وهو يخطف الكتاب من بين يديه، وينصحه بقراءة ألف ليلة وليلة :

” ستجد فيها من الفساء ما يملأ مؤخرتك أيها الشيطان الصغير ! ” 

إلا أن آدم لم ييأس. استطاع أن يعثر على الكتاب، ويهربه إلى البيت خلسة. فبدأ القراءة في ساعة متأخرة من الليل. أذهله الاستهلال، فراح يتابع القراءة حتى أكمل الكتاب، وأعاد الكرة مرة ثانية وثالثة. بل أنه قضى الليل وهو مستلق على ظهره، يقرأ ويعيد القراءة، حتى كاد أن يحفظ الرواية عن ظهر قلب. لم يستطع النوم خلال ساعتين متبقيتين على موعد الذهاب إلى المدرسة، فراح يعد الصراصير بدلاً من الخراف. وعندما أراد النهوض لم يستطع.

في صباح اليوم التالي، حملت الأم الأرملة رواية كافكا وذهبت إلى مدرسة سامر. كانت غاضبة، وقد عزمت أمرها على صفع المشرف. لكنها لم تفعل ذلك، إنما راحت توبخه بشدة، لأنه سمح لابنها باقتناء مثل هذا الكتاب. وكان المشرف يقف أمامها، مرتعداً، خائفاً بينما هو يسألها :

” هل تحول ابنك إلى صرصار ؟! “

” ليس تماماً ” ردت الأم الغاضبة الموشحة بالسواد، وقالت للمشرف بعد أن قذفت الرواية بوجهه : ” لكنه كان بحاجة إلى من يقلبه على بطنه ! ”

منذ ذلك اليوم والأم الأرملة تمنع ابنها من إدخال الكتب، أيّاً كان محتواها، إلى البيت. فاضطر آدم إلى الاحتيال عليها وذلك بتهريب ما يحصل عليه من كتب إلى الداخل، وقراءتها خلسة، قبل أن تتناهى رائحة الورق والأفكار إلى خياشم تلك الأم الفطنة، وتبدأ حملتها بالبحث عن مصدر تلك الرائحة، فقد كانت تكافح وجود الكتب في بيتها كما تفعل ذلك مع الفئران والجرذان والوزغ، حتى تعثر عليها وتحرقها، لكي لا يعود آدم إلى اقتنائها مرة أخرى. لكن الولد كان عنيداً ولم يستسلم. استمر في حربه مع أمه ولم ييأس بسهولة. راح يبتدع ألاعيب جديدة من أجل تهريب الكتب البيت وتأسيس مكتبة خاصة به.

في أحد الأيام، ابتاع آدم رواية واستطاع أن يدخلها إلى البيت، بعد أن استبدل غلافها بغلاف كتاب دينيّ. لهذا، عندما رأته الأم لم تعترض. قالت له :

” هذا أفضل من قراءة كتب المهرطقين ! ”

وما أن بدأ بقراءتها ليلاً حتى شعر بالخوف. لكنه هذه المرة لم يخف من نيران الأم الكارهة للكتب، بقدر ما خشي على أمه نفسها من ذلك الكتاب. أحس بالذعر وهو يتخيلها في أوضاع شاذة بين ذراعي رجل غريب، أُمّيٍ، لا يعترف مثلها بالكتب ويسخر منها. لم يحتمل فكرة وجود مثل هذا الشخص في البيت نفسه، وقد أشعرته تلك التخيلات المعيبة والكئيبة بالغثيان، فقرر التخلص من الرواية. لكنه رأى أن يخبئها أولاً، لكي لا تعثر أمه عليها فتحدث الكارثة، وإلى أن يحين الصباح سيودعها في مكتبة عامة أو ربما يعيرها إلى صديق. فكّر بأكثر الأماكن التي لا تثير ريبة المرأة الأرملة، فلم يجد سوى طريقة واحدة هي الدفن.

هرع إلى الحديقة، تناول رفشاً وحفر بين أوراق الريحان المزروعة حفرة صغيرة لكنها عميقة، وضع الرواية فيها وأهال عليها التراب. سوّى التربة جيداً وغرس سيقان الريحان فوقها من أجل التظليل. وهكذا، اطمأن آدم أن أحداً لن يعثر على الرواية أبداً. لكنه لم يستطع إخراجها من مخبئها في اليوم التالي، خشية أن يُكتشف الأمر من قبل الأم التي لم تخرج من البيت في ذلك اليوم ولا في الأيام التي تلته. كان يتفقد الموضع الذي دفن فيه الرواية فحسب، يفعل ذلك بذريعة الاهتمام بالحديقة، الأمر الذي كاد أن يثير شكوك الأم، لولا أنه كف عنه في النهاية، وقرر أن يتخلى عن الرواية ويتركها في قبرها، فالكتب هي الأخرى تتعفن وتنخرها الأرضة وتُسوى مع التراب.

بعد مضي ثلاثة أسابيع، تذكّر آدم تلك الرواية. كان على وشك الخروج من البيت عندما خطر له إلقاء نظرة على الحديقة. عندئذ، لاحظ أن ثمة فطر غريب أشبه بإبهام مقطوع قد نما في المكان الذي دفنها فيه. اقترب منه، انحنى لكي يتفقده عن قرب، وما أن امتدت يده إليه لتقتله حتى جاء صوت الأم من نافذة المطبخ المطلة على الحديقة مجلجلاً في أذنيه :

” ابتعد عن فطري يا ولد ! ”

” فطر ! ” قفز آدم مفزوعاً، متسائلاً عما يفعله مثل هذا الفطر الطفيلي القبيح في حديقة بيتهم، ومنذ متى تهتم أمه به، وتبدو مستميتة بالدفاع عنه إلى الحد الذي خيّل إليه أنها قالت، حين أمرته بالابتعاد عنه، رَجُلي بدلاً من فطري.

كان نمو ذلك الفطر يزداد يوماً إثر يوم، ويزداد معه اهتمام الأم الأرملة التي أبدت حرصاً غريباً ومفرطاً في سبيل رعايته وحمايته والحفاظ عليه، حتى بدأ يكبر ويعلو وتصبح له قامة. نمت له يدان وقدمان، وتشكّل رأسه، ونبت شعره، وظهرت ملامح وجهه على نحو سحري لا يتوفر إلا في القصص. بدأت الحياة تدب فيه، وصار يحرك أطرافه بمرور الوقت، ويلتفت برأسه يميناً وشمالاً مردداً كلمات باليونانية لم يفهمها آدم الذي اقترب منه، ومدّ يده إليه ليلمسه بأصابعه، ثم جرّب أن يعضّه ليتأكد إن كان من لحمٍ أو فطر، لكن ذلك الكائن الغريب منعه من فعل ذلك قائلاً :

” عندما يصبح الإنسان بلا أسنان يسهل عليه أن يقول : من العار أن تعضّوا أيها الرفاق* ”

ذُهل آدم بينما هو يسمع ذلك، قبل أن يُفاجئه صوت أمه الغاضبة :

” ابتعد عن رَجُلي يا ولد ! ”

” حسناً.. الآن صار رجلها وليس فطرها ! ” قال آدم في نفسه والتفت وراءه، حيث أمه الأرملة تحمل مِنشّة، وكانت تهدده بها وتتوعد بسحقه مثل ذبابة إن لم يبتعد عن الرجل الذي، كما لو أنه وقع من السماء على إيقاع آلة السانتوري التي يحملها، راح يرقص رقصة غريبة، قافزاً إلى الأعلى، ناشراً ذراعيه مثل نورس على وشك الطيران.

انصرف الرجل ذو الإبهام المقطوع، عازف السانتوري، مع المرأة الأرملة إلى مخدعها في داخل البيت، وكل واحد منهما يتأبط ذراع الآخر. في حين ظلّ آدم يغلي بغيضه، لا يعرف ماذا يفعل، فقد وقع المحذور، وعلى ما يبدو أن أمه صارت مستعدة لأن تقتل وتريق الدماء في سبيل رجلها الجديد، الذي انبثق من أحد الكتب الملعونة، تلك الرواية التي جلبت له العار، فصار في إثرها يعضّ أصابع الندم.

وها هو الآن يفكر بطريقة تساعده على التخلص من زوربا اليوناني، الذي يكره الكتب ولا يروقه سوى النوم مع النساء الأرامل. فكّر باقتحام مخدع أمه وطعنه بسكين، لكنه كان أجبن من أن يفعل شيء كهذا، فزوربا هذا داهية، ومقاتل عتيد، خاض الحروب الشرسة وعرك الحياة بأضراسه، ولا يظن أن صبياً هزيلاً مثله سيكون قادراً على التغلب عليه، حتى وإن حاول أن يفعل ذلك غيلة وهو نائم، فلا بد أنه سيظفر به، ويعامله كطفل مغفل، وذلك بضربه على مؤخرته بعصا، قبل أن يركله إلى خارج البيت.

كذلك، خاف آدم من الفضيحة، إذ سرعان ما سينتشر الخبر ويُصبح اسم أمه علكة تلوك بها الأسنان في كل مكان، فكبح غيضه، ولعق جرحه، وكتم السرّ.

السرّ الذي لم تحافظ عليه الأم الأرملة. فالنساء الثرثارات مثلها كالطيور عندما تزن على خراب أعشاشها. فقد وشوشت به لإحدى صديقاتها، وكانت أرملة أيضاً. فوشت هذه السر لباقي النساء الأرامل في الحي، وما أكثرهنّ في ظل الحروب المتعاقبة.

وفي غضون أيام، تحولت حديقة البيت إلى مساحة تغص بالنساء الأرامل المتجلببات بالسواد.

حين رأى آدم هذا المشهد تأفف متذمراً :

” يا إلهي !

كم زوربا نحتاج لحديقة سوداء من الأرامل ؟!”

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون