تانجو النوم

حسام
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

حسام المقدم 

  تقف “ريم” على الباب:

“ادخُلي”.

 “لأ”!

  رَدُّها المُفاجئ جعلني أرتبك، محاولًا الهروب من عينيها الضّيقتين ونظرتها الثابتة على وجهي.

  أقرأ على ملامحها المزمومة أنها تكرهني مع مرتبة العشق، كراهية تعني الرعب المتواصل من لحظة أن تلتفت أو تسهو؛ فتجدني هناك، مع جسدها، أُمارِس طُقوسي المُتجدّدة: أُمرّغ وجهي في شعرها القصير، لا أترك شفتيها الممتلئتين إلا عندما تسيلان بالعسل. أهبط إلى أسفل، وأروح أُمصمص أصابع قدميها الصغيرتين بمزاج عالٍ يُقسّم الحِصص بالعَدل، أتحوّل إلى كعبها المُحمَرّ، يتَلقَّاه لساني السّارح وأسناني القاضمة. أمضي في فَركِ حَلَمتيها، حتى تُصبحا في حجم فَصَّي تُوت جاهِزيْن للقَطف بالشَّفتين فقط. أُمعن النظر في وجهها المُغوي. يصلني صوتها التائه، فحيحُها المنبعث من شُقوق أرضها. أُصمّم على عضّ أنفها، فتحاول الإفلات دون فائدة، أضحك لأثر أسناني في الأنف المُتباهي الشامخ.

  “ريم” واقفة على بابي، حول رأسها طرحة سوداء، وفي عينيها حزن ممتزج بملامح وجهها الأبيض. آه، حزينة وجميلة بنت الذين، حزنها يغويني أكثر من فرحها، لماذا لا أشدها وأعصرها؟ ما الذي يجعلني أصبر عليها كل ذلك؟ الذي لا أفهمه.. لماذا تُعافر ولا تعترف أنها تحتاجني في حزنها أضعاف ما أحتاجها؟

  “في إيه، ادخُلي”.

  “قُلت لأ”.

  هي تعرف أن “لا” بالنسبة لي زيتونة “حادقة” تُناديني لأَكْلها، نضالي الطويل حتى تنقلب إلى “نعم”، “لا” تعني عدم النوم والنار في البدن.. حتى أطلب رقمها وأقول لها كل الكلمات القبيحة في العالم، استماتتي في نزع آخر قطعة ملابس على جسدها في مقابل إصرارها على الاحتفاظ بها، تعني الصبر والمناورة مع الثقة الكاملة أن ساقيها ستكونان، بعد دقائق، مشبوكتين حول ظهري، على نفس السرير، بذات الملاءة غير النظيفة والمُوشِكة على الانزلاق فوق السيراميك الباهت، في شَقّتي الصغيرة الموجودة في الدور الرابع بعِمارة المساكن. هذه تفاصيل تعرفها أكثر من كفّ يدها، وبعدد مرات حضورها إلى هنا، ماشية في نفس الشوارع الرئيسة والفرعية بمدينتنا، ناظرة دوما إلى واجهات الملابس المعروضة وإعلانات الموبايلات الجديدة. تَمرُّ أيضا في طريقها بالإدارة الحكومية التي أعمل بها، لا تنظر إلى سُورها ولا إلى أدوارها الخمسة الكالحة. تقول إنها تفقد الرغبة في الدنيا كلها عندما ترى ذلك المكان. تضحك عندما أردُّ عليها: فما بالك بِمَنْ يعمل هناك كل يوم! تصل إلى الشارع الصغير، أراها من مكاني في البلكونة تتنحَّى عن الزّبالة الموجودة بجوار المدخل، تنظر إلى الأعلى نظرة خاطفة، وتبدأ في الطلوع.     

 “طيب وبعدين، هَتفضَلِي واقفة؟ ادخُلي بقَى”.

“برضُه لَأ”.

  أكاد أرى في عينيها المُنطفئتين ما معناه أنّني عديم الإحساس ولا أُقدّر ظُروفها، أمسك نفسي عن الانفجار فيها: لستِ أوّل إنسانة يموت أبوها، ثم إنّ الوفاة فات عليها أكثر من سنة، ولماذا لا تُقدّرين أنني، بعد غيابكِ الطويل، سأموت إن لم أقتلكِ على السرير؟! آهِ من رأسها الناشف الذي يستحق الكسر، كيف ترمي تسع سنوات في التراب؟ ساعات أشُكُّ في فهمي لهذه الإنسانة طوال تلك السنوات. هي الآن في السادسة والثلاثين، مُطلّقة بعد زواج فاشل بلا أولاد، وأنا في الثانية والأربعين أتمسّك بِعُزوبيتي الأبدية. بدأتُ أفكر أنها كبرت، أو على الأقل تُحسّ بذلك، وتريد أن تنفلت من سطوتي، هي التي كانت تتوه حين تراني، ترتبك ولا تعرف كيف تنطق جملة مفيدة.. كبرت وتقف الآن مُتسمّرة، رافضةً كل نداءاتي.

“انتَ عاوز مِنّي إيه؟”

  لَوَيتُ شفتيّ، لم يكن ينقصني إلا أحمق سؤال يُمكن أن تسأله امرأة. أمسكتُ نفسي عن الانفجار بكلمات ليس وقتها الآن. لم أجد رَدًّا، مع أنني أعرف وهي تعرف وأنتم جميعا تعرفون ماذا يريد أي رجل في العالم من امرأة لها رائحة تُشَغِّل جميع مراكز إحساسه! لكنني مع ذلك قلتُ:

“التانجو الأخير في باريس”.

  أدارتْ رأسها، تغيرت ملامحها إلى مزيد من القرف. لا أظن أنها نسيت فيلمنا المفضل، وبطله “مارلون براندو”، في أغرب علاقة بين اثنين تقابلا صدفة، وبقيا يمارسان الجنس دون الكشف عن اسميهما أو أي شيء آخر مزعج خارج لحظات اللقاء في الشّقّة: “لا اسم لكِ، ولا اسم لي، لا أسماء هنا”. أنا مُوقن أنها تذكر كل تفصيلة في الفيلم، وكل المشاهد العارية فيه، لدرجة أنها كانت ترمي نفسها في حضني بمجرد أن أهمس في أذنها بما كانت تقوله البطلة وهي تتلمّس جسد حبيبها حتى تصل إلى الأصابع: “لماذا أصابعك طويلة؟” فيرد وهو شِبه غائب: “كي تصل إلى مؤخرتك”! لماذا كذا وكذا، ويكون الجواب دائما بما لذ وطاب من فواكه جسدها.

 “ريم، بقولك مارلون براندو والتانجو الأخير في باريس”!

  نظرتْ بطرف عينها، رفعتْ أنفها وهَزَّته باستخفاف. ابتسمتُ، أدركتُ أخيرا أنها لانَتْ، وبدأتْ في الارتخاء. ستفقد صلابتها بعد ثوان.

“انتَ أناني”

“عارف، قُلتيها مِيت مَرَّة، وإيه كمان؟”

“كُل يومين مع واحدة”

“ومِش قادر أتغَيَّر، بعترف قُدّامك يا قِدّيسة!”

“أيوا قِدّيسة غَصب عنك، كفاية إنّي معاك بَس”.

“ماشي اهدِي، خُشّي بَقَى واعقلي، في ناس فوقنا وتحتنا، لو حَد شافك واقفة كدا مينفَعش”..

  تقدّمَتْ خطوة واحدة.

  رددتُ الباب وراءها بهدوء.

  أصبحنا وحدنا، أخيرا وحدنا، وهي بين يديّ بعد أكثر من عام. آآآه، تنهدتُ من أعماقي، وهي لا تزال مزروعة في مكانها، عاقدة ذراعيها حول صدرها.

  عندما نظرتْ في وجهي لم أر إلا خطوط جبهتها، واحمرار عينيها. مرة أخرى لا تريد أن تمنح شيئا، تتركني كي أبدأ.. وكيف أبدأ في جو الغَمّ الذي تفرضه بوقفتها الفقريّة، وبهذه الملامح المقفولة؟ ملامح لن تنفتح لا الآن ولا عمّا قريب. ما الحل ورغبتي تستعر في كل سنتيمتر من جسدها؟ هناك قوة مهولة تسوقني لأشدها غصبًا، وأُمزق ملابسها، قوة تُوسوِس لي وتُطَمئِنُني أنها لن تعترض كما أتصور، وحتى لو اعترضت، فإلى متى؟ يكفي أن أهجم أولا على ساقها، أرفع البنطلون اللاصق لتسطع أمامي سمّانة زُبديّة ملفوفة، لدانة بيضاء دَسِمة ألتهِمُها بعينيّ بعد حرمان شهور وشهور. أُؤجل باقي طقوسي إلى ما بعد وقوفي المفاجئ، دافعًا إياها للحائط، ومُلتصقًا بها من الخلف. أعرف أنها ستكون راحتْ في دنيا ثانية وأُغمي عليها!

  أتراجع عن خيالاتي الحارقة أمام وقفتها الصَّنَميَّة. طافت بي النهاية المُخيفة لفيلم “التانجو الأخير..”، حين قتلتْ البطلة حبيبها اللحوح في مُطاردتها. رغم ذلك عادت وساوس النار: تقَدَّم واهجم، لا تضع أشياء مثل هذه في بالك، ما الذي يحُوشُكَ؟ لا هي جديدة عليكَ ولا أنتَ جديد على جسدها، ابدأ وستصعد بها إلى الأعالي وتنزل، ثم تطلع وتنزل حتى مطلع الفجر..

“أنا تعبانة”

“مالِك؟”  

  لم ترد. رأيتُها تتخلَّى عن وقفتها وتجلس على الأرض، فارِدة ساقيها فوق السجادة. وجهها غابَ أكثر، عيناها مقلوبتان نحو السقف.

“تعالَى”. 

    قالتها بِهُمود. لم ينبش منها عضو واحد. رحتُ إليها، تربعتُ بجانبها، عدلتُ وجهها ناحيتي وأحطتُه بكفيّ. اقتربتْ ومالت على كتفي، انسابت يدي على ظهرها في طبطبة حنون، طبطبة بإيقاع هادئ مُتمايل استمرّتْ حتى فوجِئتُ بالصوت العجيب..

  أنفاسها!

  أَمَلتُ أُذني: أنفاسها تتهادى، شهيق سريع ينساب بعده زفير طويل. رأسها يخفقُ في تجاوب حميم، مُستقرًّا فوق كتفي، مُستندًا على جانب رأسي.

  لم أتحرك، ولم أنبس بكلمة، رغم دهشتي وذُهولي من نومها بهذه السرعة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 روائي وقاص مصري                

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون