أبوالهم

تشكيل
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

مجدي خلاف

       ينفض عن كاهله أعباء ليل طويل مهموم، يتحرك الجسد الواهن في الفراش المتواضع، وخيوط نور واهية متكاسلة تتسلل من قبو صغير. ومن خلال باب قديم متهالك تتحرك ربة البيت الشابة في همة مفتعلة تحاول أن تحرك السكون الذي يغمر البيت، تبدأ طقوسها المعتادة والمكررة كل يوم منذ دخلت هذا البيت عروسا منذ عامين..

  • يافتاح يا عليم.. يا رزاق يا كريم.. أصبح الملك لله..

يتداخل صوت ربة البيت الشابة مع صوت ربة البيت العجوز التي تقترب من باب الحجرة المتهالك..

  • يافتاح يا عليم.. يا رزاق يا كريم، اصحى يا على، أقصد كريم يا إبنى؛ ربنا يرزقك الذرية الصالحة…
  • ربنا موجود، صباح الخير يا أمي…

         هو إذا على، وهي إذا زوجته (سعاد) وهي إذا (أم على)، وهذا إذا بيت ريفي غاية في التواضع بنى من الطوب اللبن، وسقف بخشب السنط والكافور والغاب؛ فيه حجرة أم على وحجرة على ووسط الدار وحجرة الفرن والزريبة والشونة التي تسكنها جاموسة يسمونها (أم الخير)، ودورة المياه أو (بيت الأدب) كما يسميه أهل الدار.. وهذا يوم في حياة هذا البيت مثل بقية الأيام؛ ولكن هناك أمر ما يدور في رؤوس أهل الدار تعبر عنه نظراتهم الحزينة والحائرة..

  • كما اتفقنا يا أمي..

آخر كلمات (على)…قبل أن يغادر البيت..

****

       ينفرج باب الدار عن (على) بجلبابه البلدي ذي الأكمام الواسعة؛ يحمل لفافة من قماش تحوي غذاء (على)؛ وتفصيلا تحوي قطعة جبن قديم وليمون مملح وأربعة أرغفة من (عيش الذرة)؛ بالإضافة (لبصلة أو بصلتين) ….                 تتثاقل قدماه كأنما شدت إلى صخرة كبيرة وهو يخطو أولى خطوات يوم عمل جديد؛ طويلة هي المسافة التي يقطعها إلى حيث يتجمع عمال المزارع ينتظرون سيارة مقاول الأنفار. أحس (على) منذ فترة أن المسافة تطول على طولها؛ ضبط نفسه على الوصول في آخر لحظة حتى تكون السيارة النصف نقل قد تكدست بأكوام آدمية كومت فوق بعضها؛ بالكاد يجد جزء من قضيب حديدي في مؤخرة السيارة يمسك به بيد واليد الأخرى الممسكة بلفافة القماش تمسك بأي جسد فى طريقها..                                        لا يشعر (على) بصعوبة الركوب وشدة الزحام وقفزات المطبات؛ يخرج من هم يفكر فيه إلى هم ينشأ فى التو عندما يتبادل الرجال المكدسون تحية الصباح ونكات ريفية ساذجة..

  • صباح الخير يا أبو أحمد..
  • صباح الخير يا أبو خالد..
  • كيف حالك يا أبو هشام..
  • صباح الفل يا أبو هدى..

تدور سلسلة التحيات الصباحية من (أبو.. إلى أبو) حتى يقترب الدور من (على)، ويتحرك داخله الهم الثقيل الذي يحمله ويطأطئ رأسه كأنما اقترف ذنبا أو أتى بجريمة أنه (على) فقط بدون(أبو)؛ ويقفز إلى أذنيه حوار البارحة مع زوجته (سعاد)…

  • احترت يا سعاد؛ ما بيدي حيلة؛ أسعار الأطباء لا نقدر عليها؛ ليس أمامنا إلا الوصفات البلدي!
  • أعرف أنك تعاني كثيرا يا سعاد في الشارع والجارات جالسات في الطرقات يمضغن سيرتك.. أتخيل حديثهن عنك وعنى وأسئلتهن التي لا تنقطع صباح مساء والحرج الذي تقعين فيه عندما تحاولين الإجابة …
  • كان الله في عونك يا سعاد؛ يشغلني أنا عملي الشاق طوال اليوم؛ أما أنت فأمام المدفع؛ لا أحد يرحمك!

****

             ينفرج مرة ثانية باب الدار لتخرج منه هذه المرة (سعاد)؛ تسحب وراءها جاموستها (أم الخير) التي بدت بدينة أكثر من اللازم، شاركت (سعاد) الجاموسة بزيها الأسود وطرحتها السوداء والشبشب البلاستيكي الأسود، تسرع (سعاد) الخطا رغم تثاقل خطوات جاموستها البدينة؛ تحاول الهروب من نظرات الجيران في هذه الساعة المبكرة، عندما اقتربت من الترعة أرخت الحبل لتشرب (أم الخير)؛ راحت (سعاد) تفكر في الصورة المرسومة فوق سطح الماء حيث (أم الخير) ببطنها الكبير و(سعاد) بدون بطن كبيرة! تطارد سعاد أسئلة الجيران من نوعية

  • (ألم يأت الفرج بعد؟).. (ألم يحدث بعد؟).. (ذهبت للطبيب؟).. (العيب عند من؟).. كأنها سكاكين تقطع أحشائها..

جربت (سعاد) كل الوصفات، زيارة المقابر، زيارة مقام الشيخ فلان، الخطو سبع مرات فوق أشياء معينة!!

*******

        عندما بدأت خيوط الشمس تنسحب من الحقول، اجتمع أهل البيت، ولكن في الحقل، جلس ثلاثتهم حول (أم الخير) كانت عيون الثلاثة تتشارك النظر إليها؛ يربت(على) على ظهر (أم الخير)، وتدعو (أم على)، وتمسح (سعاد) رأس (أم الخير)..

التفت السكينة حول المكان، انتاب الجمبع الرحمة والشفقة والرضا؛ كان قرار ثلاثتهم أن تكون ولادة (أم الخير) في الحقل؛ كان هروبا الى السكينة، والشفقة، والرحمة، والرضا..

مازالت ربة البيت العجوز تبتهل الى الله أن يفك هم (أم الخير)؛ نسى (على) همه وهو يرى اقتراب حدوث معجزة الخلق الجديد..

جرت على خدي (سعاد) دموع ليست كدموع ليلة الأمس؛ دموع الفرحة والرضا..

غشى الجميع خشوع جميل ودعوا في وقت واحد الخالق العظيم أن يعطيهم كما أعطى (أم الخير…)..

دعت سعاد الخالق العظيم ألا يحرمها من هذه التجربة!!

تمنت(سعاد).. أن ترزق صفاء الوجه ونظرات الراحة في عيون (أم الخير) …بعد أن وضعت حملها!!!

 

مقالات من نفس القسم