فصل من رواية “سماء أقرب”

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 4
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

محمد خير

وجد عدة سيارات تاكسي تتدافع لتقف أمامهما فأدخلها برفق في أول سيارة وركب بجوارها وأملى السائق  العنوان.

ارتاحا في الكنبة الخلفية وكان الزجاج مغلقًا ففتحه مازن  رغم البرد، لم تعترض وإنما التصقت به وشعر بأن السائق ينظر لهما في المرآة وقال لنفسه دون اهتمام  لابد أن رائحتهما قوية، وتوغلت السيارة في الليل وكانت رأس لمى في كتفه وشعرها هائشًا أمام عينه الوحيدة فلم يعد  يرى شيئًا من الشارع إلا أنوار متفرقة، ثم نظر أمامه وبدت كشافات قوية وحركة عمال وتمتم السائق بشيء وانحرف من طريق أخرى، مرّ من شارع خلفي ضيّق ووراءه وأمامه عدة سيارات أخرى، وانحرف مجددًا من طريق خلفية ثم هدأ السرعة وسمع السائق يقول "كمين ".

قال مازن ” معك رخصة؟”

 وضحك “خذ رخصتي”.

 لم يرد السائق وإنما استمر في تخفيض السرعة حتى توقف بين حاجزين معدنيين يسدّان الطريق إلا بما يسمح بسيارة واحدة، وبدا أفراد في زي الشرطة الغامق متناثرين حول الحاجزين، واقترب شاب  بثياب مدنية من نافذة السائق، وسأله من أين أحضر ركابه، أجابه السائق فالتف الشاب حول السيارة واقترب من شباك مازن : “البطاقة “.

 مد  مازن يده نحو محفظته و أشار الشاب إلى لمى “والمدام؟ “، مدّ له مازن يده ببطاقته الشخصية وبحثت لمى في حقيبتها ثم أخرجت بطاقة هويتها، تناول الشاب البطاقتين ولم ينظر فيهما بل طلب من السائق التوقف جانبًا وابتعد إلى حيث ضابط يقف محاطًا بشرطيين آخرين، ثم مالبث أن عاد مكلمًا مازن ” كلّم الضابط “.

 كان مازن قد فتح باب التاكسي بالفعل فنزل منه، لمى التي كانت مثله لازالت محكومة ببطء الكحول لم تفهم ما المشكلة، اقترب  مازن  من الضابط الذي كان يقف مستندًا بظهره إلى حاجز معدني آخر محاذ للرصيف، أمسك ببطاقتي مازن ولمى، وفي يده الأخرى زجاجة مياه غازية، الشرطيون الآخرون حدّقوا في مازن، والضابط تحدث بنصف ابتسامة مشيرًا نحو لمى في السيارة ” ها، خطيبتك؟! “.

حاول مازن الوقوف متزنًا وتكلم ببطء ” آه “.

 أجاب الضابط ” يا رجل؟! “

 وأمسك ببطاقة لمى وقرأ منها ” تعرف..؟.. ونطق اسمًا طويلاً ثقب سمع لمى الجالسة في التاكسي، اسم زوجها الأخير الذي لم تحذفه بعد من بطاقة هويتها.

 ارتجّ على مازن فسكت وسأله الضابط عن عنوانه، كاد “مازن ” أن يرد بأن عنوانه مكتوب في البطاقة ثم تريث، ذكر له عنوانه القريب من الجامعة المعروفة، خرج صوته ضعيفًا وقد طارت معظم الحروف فلم يتضح منها سوى اسم الجامعة، أجاب الضابط ” والله، ساكن في الجامعة؟!”

 كرر مازن  عنوانه فسأله الضابط ” ذاهب إلى هناك؟ “

 أجاب مازن بالإيجاب، تابع الضابط ” وخطيبتك توصلّك؟

 ضحك الآخرون، ثم حدق الضابط في وجه مازن وسأله ” مالِ عينك يا مازن؟ “

صمت مازن ثم أجاب باقتضاب ” حادثة”.

 نظر الضابط في البطاقة ” عينك هنا سليمة “، لم يرد مازن، تابع الضابط ” ربما هذه ليست صورتك، ربما البطاقة مزورة؟ ” قال ذلك وهو يرفعها أمام زملاءه فنظروا فيها ووافقوه “لا تشبهك “.

 اندفع الدم ساخنًا في وجه مازن، وسمع لمى فجأة من وراءه ” أنتم تتسلون بنا”، حدّق فيها الضابط بعنف ” نحن لا نتسلى يا.. مدام “، وقال شرطي ” لماذا نزلتِ من التاكسي؟ “، ورفعت لمى هاتفها وبدأت تجري اتصالاً بمسئول تعرفه فقال أحد الشرطيين ” ستكلمي وزير الداخلية؟”

 قال الآخر “ستكلم زوجها!”، فضحك الضابط.

 اتصال لمى – في الرابعة صباحًا – لم يمنحها سوى جرس طويل عند الجانب الآخر، لم يرد نصيرها  فقررت استخدام اسمه للتهديد، أصرّ الضابط ” صورته لا تشبهه، نحن نؤدي عملنا”، كان تاكسي آخر يتوقف عند الحاجز في نفس اللحظة فأشار له الضابط، وأمر سائقه بالنزول، نزل منه سائق أربعيني نحيف، وضع الضابط بطاقة مازن أمام عيني السائق وقال ” صورة من هذه؟ “

 نظر السائق في الصورة الباهتة بالأبيض والأسود بينما الضابط يتابع بلهجة صارمة “هل هذه صورة هذا؟”، لم يعرف السائق ماذا عليه أن يقول كي يتجنب غضب الضابط، نقّل عينيه بين الصورة ومازن ثم قال ” لا أعرف يا باشا”.

 ضحك الضابط فجأة مشيرا إلى مازن ” لا تعرف؟ صاحبها أمامك يا اعمى”.

 صمت السائق، وأعاد الضابط البطاقتين إلى لمى قائلاً ” نحن نؤدي واجبنا يا مدام، مع السلامة”.

 حارس العقار انتفض  من مكانه واستوقف سيارة التاكسي ثم فوجيء بنزول مازن ولمى منها، جرى أمامهما وطلب المصعد، هبط المصعد الرحب مضاءً وبلا صوت، دلفا إليه، صعدا، دخلا الشقة، اتجهت لمى إلى الحمام، صب مازن كأسًا من البار، ارتاح على الأريكة البيضاء، أغمض العين الوحيدة، شاهد نفسه بين الضباط مرة تلو أخرى، عادت إليه الكلمات التي كان ينبغي أن يقولها، كيف كان ينبغي أن  يناقشهم، أن يخرسهم، تذكّر أصدقاء ومعارف أقوياء، حاول الانسحاب من الألم الطازج، انتبه على لمى تجلس إلى جواره فتهبط الأريكة بقدر وزنها الخافت، ترتاح في حضنه، نظر إليها، مسحت كحلها، دست يديها تحت قميصه وأحاطت بجذعه، يداكِ باردتان كالعادة، حضنك مرتجف، شفاهك رطبة، جذبها فوقه وأمال ظهره للخلف، أحاطت فخذيه بساقيها، رفع بلوزتها فانسلت منها، وضعت ركبتيها فوق فخذيه فالتقم نهدها وأيقظه بلسانه فارتفع صوتها، احتضنها وهبط بها على الأريكة وجذب تنورتها بقوة فاصطدمت رأسها بمسند الأريكة الناعمة  وتأوهت لكن  نزوله كتم تأوهها، وهبط فوقها وقد استيقظت فيه أشياء وأشياء ومنها ليلتهما الأخيرة  قبل الحادثة، ورغمًا عنه وجد نفسه ذاهبًا إلى الحادثة وإلى الإصابة في ظهره وفي رأسه، وعاد منها إلى لمى ثم رغمًا عنه ذهب إلى نفسه واقفًا بين ضباط الكمين، وعاد إليها وهي تقول “ماذا بك؟ “.

الإضاءة خافتة قادمة من الممر والأريكة لم تشرب العرق بعد  لكن جسدك بارد يا لمى، ونظر فيها من يسراه ورأى التجاعيد الصغيرة جدا حول العينين، نظرت فيه فرفع عينه إلى ما وراءها ومدت يدها إلى بين ساقيه وأمسكت شيئًا مترددًا، ضغطت عليه فتمدد وارتفع وتحركت توسّع بين ساقيها مجددًا ودخل مازن لكنه تخاذل في المدخل مرة أخرى، وكان ذلك جديدًا على كليهما فسكتت وغضب ثم شعر أنه في حلم أو كذبة لأن كل ذلك لا يمكن أن يحدث معًا، قام عنها وتناول ماء من الثلاجة وشرب، وتوجه إلى الحمام ورأى نفسه غريبًا في المرآة، وعاد وكانت هي في نفس وضعها لم تتحرك ولا تنظر إليه، مد يده إلى جيب البنطلون فلم يجد السجائر وزاد غضبه، ثم وجدها حجة، فقال لها أنه سينزل لشراء علبة سجائر فهزت رأسها وحاولت أن تبتسم فكرهها.

هذه المرة لم يشعر بالبرد وإنما كانت سخونة أذنيه تكاد تدفئه، مشي في الشارع المعتم شبه تائه وفوّت أول ناصية ثم انحرف يمينًا عند الأخرى وقد كاد ينسى سبب نزوله، ومن بعيد شاهد صيدلية مضيئة اقترب منها وفاجئه أنها شبه مزدحمة في ذلك التوقيت المتأخر فابتعد، مشي أكثر وأكثر بحثًا عن أخرى حتى وجدها، توقف قبالتها مترددًا إذ لم يضطر من قبل لشراء ما سيشتريه، الضوء في الداخل مريح وثمة شاب بقميص أبيض وادع الملامح استند إلى حافة الفاترينة  ناظرًا إلى أعلى محدقًا فيما يبدو أنها شاشة تلفاز، عندما دخل اكتشف شابًا آخر أصغر وأقصر جلس خلف  الفاترينة اليسري ونهض واقفًا عندما دخل، رحب به الشاب الوادع وسأله عن طلبه، وجد يده تمتد إلى زجاجة مزيل عرق، ثم سأل عن معجون حلاقة، بدأ الشاب القصير يحضر ما يطلب، وأحس بعرق خفيف يرشح من جبهته، ثم وجد أمامه علبًا لنوع معروف من العوازل الطبية فتناول واحدة رغم أن لمى كانت تستخدم عوازلها الخاصة، تناول الشاب منه العلبة ووضعها في الكيس ” شيء آخر؟ ” سأله فتشجع وطلب حبوب الدعم الشهيرة، وسأله الشاب مجددا فاكتشف أن منها عدة أنواع وماركات فحدد أحدها اعتباطيًا، جلبها الشاب القصير فأمسك مازن العلبة وقد تذكر فجأة أشياء مشوشة واحتمالات مخيفة  سمجعها عن تلك الحبوب التي لم يجربها قبلاً، ثم نظر في العلبة ورأى تاريخًا قديمًا على العلبة فسأل عن الصلاحية وهو يرفع عينه في الشاب الذي بدا واجمًا، ولاحظ لأول مرة أن له ذقنًا نابتة تشبه لحية خفيفة، تناول الشاب العلبة وهو يؤكد له أنها مازالت في الصلاحية، فهز “مازن” رأسه إيجابًا وقد بدأ يهدأ ويشعر أن المسألة ليس محرجة كما تصوّر، لكن الشاب أمسك العلبة والكيس وبدا كمن يفكر، ثم فاجأه ” آسف، لن أبِيع لك “.

فوجيء مازن “لماذا؟”

هز الشاب كتفه “هكذا، لن أبيع لك، اشتر من مكان آخر”

 نقل مازن عينه إلى الشاب الآخر القصير الذي أشاح بوجهه نحو التلفاز، احتقن صوت مازن “ليس من حقك”.

 هز الشاب كتفه مرة أخرى ” اشتكيني “.

وجد مازن نفسه يكرر “ليس من حقك”، لم يرد الشاب، احتفظ بالكيس في يده ونظر للتلفاز مثل زميله، صرخ فيه مازن مجددًا، فرد الشاب بصوت بارد وهو يشير بيده للخارج “تفضل يا أستاذ لو سمحت”، ثم كلّم الشاب القصير “هات البخور، المكان رائحته انقلبت”.

وجم مازن لحظة ثم أدرك أن الشاب يشير إلى رائحة الكحول التي لابد وأنها تنبعث منه، احتبس صوته للحظة وهو يراقب الشاب القصير يشعل عود بخور ويثبّته في ثقب على طرف حافة الفاترينة، عاد ينظر للبائع “اعطني ما طلبت”.

 قال الشاب “هات روشتة اعطك ما تطلب”، قبل أن يرد مازن دخل زبون آخر، رجل عجوز، فالتفت إليه البائع، كرر مازن بلا وعي تقريبًا “اعطني ما طلبت”، نظر الزبون لمازن بحذر، فقال مازن “لا أطلب شيئًا ممنوعًا، ليس من حقك”، قال الشاب بنفاد صبر ” خلصنا يا أستاذ”!، وبدا بعض توتر على الزبون العجوز فسأله الشاب ” أؤمر يا حاج”.

 خبط مازن بيد عصبية على زجاج الفاترينة، وانتبه إلى يد تجذب يده الأخرى، التفت ووجد الشاب القصير يبتسم له ” تعال معي”، خرجا من باب الصيدلية ” خلاص يا كابتن”، قال الشاب، “دعك منه، سأجلب لك ما تريد”.

 شعر “مازن” وكأنه يشتري مخدرات، قال للشاب ” سأشتري من هنا”، ” كرر الشاب “خلاص يا كابتن، لن يبيع لك، خلاص “.

كلمات الشاب الأخيرة سمعها مازن وهو يغادر بالفعل، تحرك في الشارع وبدا أن الليلة لن تنتهي، مشي بسرعة حتى سمع الهواء يصفر من أذنيه اللتين عادتا تسخنان مجددًا، ومن أسفل بدت له البنايات أكثر علوًّا، ولم يعد غاضبًا ولا مهانًا بل عاد منفصلاً عن كل ذلك، توغل في الظلمة أكثر دون أن يعي شيئًا ثم وجد نفسه بالقرب من البيت، تردد لحظة ثم صعد، فتح الباب بمفتاحه ودخل ولم يجد لمى في الصالة، سمع صوتًا غريبًا في الحمام فاقترب وشاهدها تميل برأسها على قاعدة المرحاض وتتقيأ، اقترب منها فشعرت به، رفعت عينين حمراوين، “جئت؟”

 جلس جوارها واحتضنها، “يبدو أن الهواء لفحني”، لم يرد، قالت ” تأخرت، أأحضرت سجائر؟ “، تذكر السجائر وهز رأسه نفيًا.

 تابعت ” اتصلت بك فدقّ هاتفك هنا في الصالة “.

 أومأ برأسه ثم قام ونهض بها، كانت عارية فاتجه بها نحو غرفته، تمددت ثم تكورت في الأغطية، جلس جوارها حتى انتظم تنفسها، قام من مكانه ففوجيء بصوتها “إلى أين؟”، التفت إليها ” ألا تنامين أبدًا؟”، قالت “تعال “.

 تمدد جوارها “احتضنّي فقط”، فانفجر شيء في صدره، ضمّها، ونظر للشباك واستغرب أن الظلمة لازالت مخيمة، أمال رقبته ليحدق في لمى، قال لها ” بكيت مرة واحدة منذ الحادثة، بعدها بأسبوع في بيت أخي”، نظرت له بصمت، تابع “اكتشفتُ شيئًا غريبًا”، سألته “ماذا اكتشفت؟ ”

 أجاب : عيني العمياء تدمع كالأخرى .

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون