دفء

دفء
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

Normal 0 false false false EN-US X-NONE AR-SA

 

تقف وحيدة مستندة بظهرها الى عامود نور متهالك على وشك السقوط من فرط أنحنائه ، لا يرسل سوى أضاءة خافتة لا تتناسب مع علوه الشاهق ، برودة مفاجئة تسرى بين ثنايات جسدها الهش ، تحكم من وضع الشال على كتفيها لعله يمنع ولو قدرا ً ضئيلا ً من البروة السارية بجنون الساعية لاحتلال جسدها دون أدنى مقاومة منها .

قطرات ضالة تتساقط عليها من السماء ،نظرت لاعلى وعيونها ملؤها الرجاء أن توقف السماء غضبها المكتوم  !

رفعت شالها لتغطى به شعرها المبلل بزخات المطر ، فتناثرت القطرات على ذراعيها وتحول فستانها الاسود اللامع الى قطعة سوداء مهلهلة مبتلة ، اعترتها نوبة حزن مفاجئة سببها ألمها على مظهرها الباعث على الرثاء اكثر من كونه باعث على الاغراء … هكذا تكون ليلتها ضاعت دون مقابل .

للحظة خطر على بالها أن تعود كما جاءت ، لكن نوبة من البرودة مصحوبة بهبة ريح مفاجئة تملكتها جعلتها تقف ساكنة لا هى قادرة على الرجوع ولا قادرة على الاستمرار فقنعت بالوقوف ثابتة كصنم لعل الدفء يأتى من حيث لا تدرى بغتة ، رجفة مفاجئة تستولى على جسدها المنمق تحيط كتفيها بذراعيها لتمنحها دفء مفقود ، رغبة حقيقية هذه المرة تدعوها للعودة على أثرها تحرك قدميها خطوة للامام فتشعر بجوع مفاجئ ، هتفت بحنق ” ليس وقته ” هكذا اكتملت دائرة نحسها … جوع بنهش أحشائها ودفء ضائع … لا يمكنها العودة دون أن تجنى ولو قدر يسير من كلاهما .

ظنت أن بؤس حالها سيطول لولا أن الغوث أتى أخيرا ً ، كان شابا ً يبدو بين أواخر العشرينات وأوائل الثلاثينات ، مرتديا ً معطفاً جلدىاً،  يُلمح من مظهره اضطرابه وخجله البادى على حركات جسده الحائرة ، يُقدم خطوة ويُرجع عشر ، فى النهاية تغلب على قدر ولو يسير من مخاوفه ، ووقف أمامها مادا يده اليمنى ويفط من عينيه تساؤلا ان كانت ترغبه رفيق ليلتها ؟

 باغتها بأدبه المبالغ فيه ، لم يحدث قط أن تقدم أحدهم نحوها بهذا الشكل المغايرعن ما أعتادته من طرق فظة وبالغة القسوة أحيانا ، لم تتخيل أن يتم التعامل معها بأعتبارها أنسانة  لها رأى فى من ترغب ،  ليست مجرد جسد بلا روح  أو وعاء لتفريغ  رغبة مؤقتة حتى و ان كان  مقابل اجر ، لم تخذل يده الممدوة لها ولا عينيه الباحثتين عن رفيق يؤنس وحدته ، سرعان ما أستجابت له ومدت يدها اليسرى لتستقر فى يده اليمنى  وسارا سويا ً.

أضاء نور الصالة ، ودعاها للجلوس فى المقعد المقابل له ، سنحت لها فرصة لتستوعب تفاصيل وجهه بروية وتمهل ، سعت من خلال نظراتها أستكشاف ما وراء نظراته اللاهية ، أستشفت مدى بؤس ما يحيط به من حزن ، لعله أراد أن يغسل همومه بماء صحبتها ، لم يحتمل سطوة نظراتها ، شعر بوخزها المؤلم فأحنى رأسه للارض ، بدورها لم تشأ أن تثقل من همومه ، أندفعت متسألة :

ــ أين غرفة النوم ؟

ــ أول غرفة على اليمين … لم الاستعجال ؟ دعينا أولا نشرب شيئا ً أو نأكل، ألستِ جائعة ؟

بمجرد ذكر لفظ الاكل ثارت شهيتها ، تذكرت أنها جائعة ، لم تشأ أن ترد بالايجاب أو الرفض … أكتفت بهز رأسها بأيماءة لا هى رافضة أو موافقة .

قدم لها صينية الطعام ، ودعاها لتناول عشائها ، رفضت أن تتناول الطعام دون أن يشاركها ، رغم نظراتها الشرهة للاطباق ، لم يجد بُد من مشاركتها رغم أنعدام شهيته ، لاحظ أنها تأكل لقيمات صغيرة لا تتناسب مع نظراتها الجائعة ، أستأذنها أن يأتى بكوب ماء ، قام للمطبخ تاركا ً لها حرية تناول طعامها على سجيتها دون رقابة أو نظرات متلصصة .

بعد تناول العشاء لم ترد أن تضيع وقتها ، أنتظرت أن يتقدم نحوها ، لم يبادر حتى بالاقتراب منها ، خمنت قد يكون خجول أو متردد ، اندفعت نحوه تؤدى واجبهها ، لامست وجهه برقة ، تداعب أناملها وجنتيه ، نظرت لعينيه ، كانتا مليئتين بأسى شفيف ، حاولت أن تبتسم لعل عدوى البسمة تنتقل له ، فشلت محاولتها ، لم تيأس ، أناملها تداعب شفتيه تسعى لفتح شفتيه المزمومتين ، تلك المرة نجحت بنسبة ضئيلة فأحدثت تغرة بين شفتيه المضموتين فأقبلت عليه بشفتيها الرطبتين تلتهم شفتيه ، أستجاب لشفتيها المقبلة نحوه فغرف من شهد رضابها ما لا ينتهى من لذة ، توقعت أن يُقبل عليها ، خاب توقعها عاد مجددا ً لسكونه ، لم تقنع بالسكون المفاجئ بعد الطوفان ، ظلت أناملها تجوس بخفة ورشاقة بين ثنايات جسده محاولة أستكشافه تسعى لاثارته ، لم يبدُر منه أستجابة تذكر سوى رجفة خفيفة أثر لمساتها الحنونة ، أنتابها خيبة أمل سعت لمحوها ، وقفت أمامه بجسدها المتمكن بدأت فى خلع فستانها الاسود اللامع ، لاحظ ارتجاف جسدها وتملك الرعشة منها ، أدرك أن برودة الجو مسيطرة على جسدها  ، فتح ذراعيه فأندفعت اليه ساكنة بين أحضانه مستغيثة بسخونة جسده على البرودة المتمكنة منها .

أدركت أن رفقتها اليوم على غير ما أعتادت ، لم تكن جسدية أو باحثة عن رغبة مستكينة تسعى للانفجار ، لم تعرف أن كانت تملك نوعا ً أخر من الرفقة هى تجهله أم سعى هو اليها عن خطأ ؟ بعد أن فشلت كل حيلها  فى سحبه الى سبيلها أدركت أن مهمتها أعسر مما توقعت فرفيقها هذه الليلة مختلف عن مما رافقوها فى السابق ، رفيق اليوم باحث عن ملجأ يودع فيه أحزانه ينسى فيه همومه غير جسدها .

ظلا متجاورين ملتصقين ، يستلهم كل منهما السكينة من الاخر ، لم تسع لفض مغاليق عزلته ، كل منهما يُكمل ما نقص من الاخر ، ،  خرجت من صدره تنهيدة ، حاول أن يستجمع شتات كلماته لعل جبل سكوته ينزاح ، هم بالكلام، كانت أناملها أسبق منه ، وضعت اصبعها على فمه هامسة له : بالسكون يكون البوح أعمق ، بالصمت تصل لمدى تعجز الكلمات عن بلوغه ، خضع لرغبتها فى قنص وحدتهما المستكينة ، لملم بعثرة كلماته وأبتلعها مجددا ً.

تسرب اليه قبس من بهجتهها ، أضاء ظُلمة روحه ، تحلل من ضيق خانق يمسك بتلابيبه ، تصاعد الحزن بزفرة حارة منه خرجت منفلتة ، شعرت بصداها يتردد حولها ، أيقنت أن مهمتها تمت بنجاح ، أنسلتت بخفة من جواره ، فوجئ بها واقفة تُعدل من فستانها ، بَهت لم يتخيل أن الوقت مر سريعا ً فى صحبتها .

رفضت أن تستجيب ليده الممدودة لها بالنقود متعللة  بأنه لم يفعل شيئا ً تستحق عليه أجر فجسدها كما هو لم يُمس لم تعبث فيه  يده ، أستغرب تبريرها وأزاء رفضها الحاسم لم يجد مفر سوى التسليم بما فعلت .

عند فتحها الباب هبت كتلة هوائية أنتفض لها جسدها ، أمسك بيدها أن تنتظر، خلع معطفه الجلدى ووضعه على كتفها ، نظرت اليه وعيونها تفيض بالامتتنان ، أبتسم لها ، وأومأ برأسه ناحية اليسار أن تسرع قبل أن تهطل الامطار مجددا ً، فى لمح البصر أختفت من امامه ، أتجه للشرفه أزاح الستارة ، أكتشف أن السماء تُمطر، وجدها تركض تحت المطر بفرحة طفولية ، محتفية بالدفء المنبعث من المعطف الجلدى .

 

خاص الكتابة

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون