ترجمة وتقديم: رفيده جمال ثابت
نبذة عن الشاعرة
آنا مارجولِن (1887-1952) اسمها الحقيقي روزا هارنينج ليبنزبويم، كاتبة وصحافية وشاعرة أمريكية ذات أصول روسية يهودية. ولدت في مدينة برست، في بيلاروسيا، والتي كانت آنذاك شطراً من الامبراطورية الروسية. أتمت تعليمها حتى المرحلة الثانوية. ثم سافرت إلى نيويورك في عام 1906، واستقرت بها عام 1913. وانضمت إلى جماعة من الأدباء والمفكرين من اليهود المهاجرين.
التحقت آنا بهيئة تحرير صحيفة (اليوم)، وهي صحيفة ليبرالية ناطقة باللغة اليديشية تأسست عام 1914. عملت محررة بقسم (عالم المرأة)، وكتبت العديد من المقالات الصحفية تحت أسماء مستعارة، من بينها (صوفيا براندت) و(كلارا ليفن). كما نشرت العديد من المقالات التي تدعم حق المرأة في التصويت الانتخابي.
نشرت آنا مارجولِن خلال حياتها مجلداً شعرياً واحداً بعنوان (قصائد) عام 1929، تناول مشاعر العزلة والوحدة لكونها امرأة وأجنبية. بعد وفاتها نُشر لها ديوان بعنوان (ثملاً من الحقيقة المرة)، والذي احتوى على ترجمات إنجليزية لقصائدها. وقد وصف أحد النقاد قصائدها بأنها “حسية، وعنيفة، وواضحة، وصعبة، إنها سجل روح لامست مدينة نيويورك في عشرينيات القرن العشرين”. تتميز قصائد آنا بالطزاجة والمعاصرة رُغم نشرها منذ عدة عقود؛ إذ أنها تستقصي موضوعات الوحدة, والقلق, والبحث عن الهوية والمعنى, وهي موضوعات صالحة لكل زمان ومكان. في بعض القصائد تستخدم آنا صوراً مفضلة لعرض رؤيتها أو ملاحظاتها, بينما في قصائد أخرى تتعمق باحثة عما يضفي على أعمالها قيمة وجدارة. وفي خضم ذلك تبدع قصائد تأملية قوية بلغة مبتكرة ممتزجة بلمسة شخصية. في إحدى القصائد تصف آنا مارجولِن مهمتها الشعرية:
ردد معي: حتى مماتها
صانت بإخلاص
بيديها العاريتين
الشعلة التي اؤتمنت عليها
وبنفس النيران
احترقت.
مضت بنا الأيام
مضت بنا الأيام كأنما نطوف حديقة عاصفة.
نزهر وننضج ونتقن لعبة الحياة والموت.
ملأت الغيوم والرحابة والأحلام كلماتنا.
بين أشجار جامحات في حديقة الصيف الهامسة
التحمنا في شجرة واحدة.
اكتست الأمسيات بالأزرق الصافي الغامض،
وعبر الرغبة الموجعة للرياح والنجوم الساقطة،
والألق اللطيف المتحول للأوراق والأعشاب المرتعشة،
اتحدنا بالريح، والتحمنا بالزرقة
كأننا مخلوقات جذلة وآلهة ذكية لعوب.
طال بي التجوال
طال بي التجوال يا حبيبي
في حيوات غريبة وقاتمة
عبر قلوب قاحلة-
فكن عطوفاً
عرفت آلاف المنايا يا حبيبي.
دمي الفاسد،
صولجان الرغبة الحديدي،
طاردني طيلة عمري.
أيها الرجل المصنوع من المُخْمَل والفولاذ،
هادئ الصوت،
رفرف حولي،
احمني من العالم
ومن دمي أيضاً.
كن عطوفاً
انعس يا حبيبي
انعس يا حبيبي، انعس.
فأنت كأرض غابة سمراء جديدة.
عيناك حافلتان بالسماء
أنا سلامك وأنا سيفك
احرس الآن السماء والأرض.
كل نجم يسترق السمع مندهشاً
إلى ما أهمس به في منامك.
الأشياء الخرساء كلها تنطق اليوم
الأشياء الخرساء كلها تنطق اليوم.
الهمهمة الزرقاء لغيمة هشة
تسقط كالندى.
حِكم الحالمين العظام القدماء
تهمس في قمم الأشجار
وتسقط على قلبي كل ورقة وكل نجم.
هل تسمع
كيف يرتجف الرمل
تحت خطو الليل الوئيد الوحيد؟
بجلال وعظمة
أنشودة قوية
تجلجل
من الحجر الرمادي المطوق.
وأنت
أيها الحبيب، أيها الغالي،
أنت صامت.
سمعت خطوك وفزعت
سمعت خطوك وفزعت
لم أتعرف على صوتي.
يا محبوبي الذي اشتقت إليه،
لماذا تلتقي الأعين
في الحزن الهائل
كالأعداء؟
والكلمات كالسيوف؟
في الليالي العابسة
البعيدة عنك،
يصرخ قلبي
كأنه قرع أجراس محموم
يخاف الموت
في مدينة محترقة.
كلا، ما من شيء يُقال
كلا، ما من شيء يُقال،
سوى الاستسلام ببهاء وسعادة
إلى الحزن والذنب في عينيك،
وأقول لك…
كلا، ما من شيء يُقال.
حينما أمشي مع حبيبي
حينما أمشي مع حبيبي في ضباب المساء الربيعي،
لا تتكلف الابتسام أيها الغريب، كأنك تعرف
أن حبيبي لا يحبني.
لأن الليل يتدلى ثقيلاً على عيني المعتمتين.
والطريق الحجري يمتد
كحرير رقيق نحو الليل.
مترعاً بالشفقة والحب،
يقبلني بشفتين مريرتين،
تحوم التعاسة
حولي.
صديق مر بنا
صديق مر بنا في شارع خاوٍ،
اشتد وميض عيناي الرماديتان.
تندرت على حظنا السيئ
وأرخيت حجابي.
صارت الشوارع أكثر قتامة وعمقاً وحزناً.
كلماتي اللافحة أحرقت أذنيك.
حبي ممتلئ بكراهية،
وكراهيتي مترعة بالفرح والأسى.
لا تعتقد أني تغيرت
لا تعتقد أني تغيرت.
لا تصدق هذه الابتسامة الوديعة
أنا نمر بنظرة يمامة،
خنجر بين الزهور
فاحذر!
الوقت يأتي وينطوي سريعاً
بابتسامة، سكين، وردة.
شفتاي ستكونان عذبتين وقرمزيتين.
يدي سترقص، ستحلق
وتحط برقة
على موتنا المخجل.
الطريق ساكن
الطريق ساكن،
مرصع بالبرودة والرمادي،
والشمس تنشر في الأعالي
جسوراً من الورد والدخان.
القلب خامد.
نظرتك الولهة،
ذلك النعيم الثمل
لا أريده.
القلب صامت،
منكمش في هواجسه القاتمة
يرتعش ويعاني
من فيض المشاعر والأفكار.
لم أعرف يا حبيبي
لم أعرف يا حبيبي
أن أصابعي المتلهفة البطيئة
نقشتك في قصائدي.
والآن صار لها بريق
عينيك الحادتين، وصرامة خطوط فمك
ويدك الجامحة.
المعجزة:
أن كلماتي
تحركني مع يديك.
حينما تقترب، تنبثق
من نوتات موسيقية جافة.
المعجزة…
الشياطين تصفر لحناً حزيناً
دخلت الحديقة كأنما أدلف إلى غيمة جافة.
الشياطين تصفر لحناً حزيناً.
والنجوم تتفتح بشراسة ونضج.
حشد من الأعين الزائفة يمر بي.
أصوات زلقة، افعوانية، تعريني.
فم صغير متوهج ينحني نحوي، ويقترب ببطء.
الشياطين تصفر لحناً حزيناً.
من ظلمتي
1
أتلعثم
في القلق المميت
أصارع نفسي
ابحث عن كلمة،
رغم تشابكها وشحوبها
تنضح بكراهيتي الواسعة المبهجة
2
مخالب اليوم الحادة تحرر ضحاياها.
في الظلمة، متكورة على نفسي،
سخيفة وضئيلة،
أرقد مصغية إلى
صرخة نقية وساكنة
عميقة وهادئة
بلا دموع
تصاعد مني
وتنتشر كجسر عريض حتى الفجر
3
مثلما يخرج الخمر الشهي
من العنب الأحمر الذي تدوسه الأقدام،
اقتطفت فرحتي
من العذاب،
وبيدين محتضرتين رفعتها
إلى سنا عيني الرب
أمشي وراء حجاب
أمشي وراء حجاب،
خطوي يمتزج بخطو
أسفاركم الخفية،
دماء وزهور
ربيع عمري المسعور.
أحمل بحرص
أصواتكم، وابتساماتكم، وتقطيبكم
عبر شوارع قاسية مندفعة
مثلما يحمل المرء أغنية على شفتيه،
أو خاتماً ثميناً في إصبعه.
متعبة
أنا متعبة اليوم.
تجرحني الأصوات الحادة
لنظرة متجاوزة لأحدهم.
لكني أسمع كلمة
تتقد داخلي أكثر وأكثر.
متعبة للغاية.
تسود الظلمة الغرفة،
ظلال الليل
على مساء أحمر متلاشٍ
اليوم، فكرت كثيراً
في الموت.
الصمت في غرفتي
كلمسة مُخمل اسود.
لمعان المياه الثقيلة للمرآة
كتألق سواد القطيفة.
يقولون من السهل الموت في المياه.
متعبة للغاية.
أعزائي الوحوش
أعزائي الوحوش، تحلوا بالصبر
إنه يوم هادئ، والعالم مترع
بالضوء والصوت حتى سواحله المشرقة النائية.
أمشي بين الناس، على طرق أليفة
ممتنة لأنها تخلو منك.
أنت بعيد،
مثل جيوش تجول الشوارع
تدوي خطواتها في المنزل الخيالي الصامت،
شيء في لفتاتي ومشيتي يشبه
ظلالا تظهر
عبر الغشاوة الذهبية لضوء المصباح
في الطرق البعيدة
لكنها مألوفة لك بشكل غريب.
أعزائي الوحوش، تحلوا بالصبر.
لأن الليل يأتي، والقلب العليل بذنب قديم،
يسمع الخطوات المقتربة
أعزل ووحيد،
يسمع وينتظر ويقاوم.
الآن أنتم هنا! والغرفة تتلاشى.
أغوص بينكم، سَبّاحة غريرة،
شُوهت ووطأتني الأقدام.
أنتم مفزعون وغامضون.
تلوحون حولي كالجبال، ككلاب الصيد العملاقة،
تعوون معي،
تزأرون معي بتبلد متذمر
قصة ذنب موغل في القدم.
… يبكي القلب كشاة ضالة،
ينتحب حتى يغلبه نوم سقيم.
جاء الليل إلى بيتي
جاء الليل إلى بيتي
ومعه هدير النجوم والطوفان والريح
ومعه وهج المستنقعات، والطرق المتربة، والضباب
أرقد قلقة بائسة.
جاءت الأشجار إلى بيتي
تلوح عملاقة بجذور وجذوع
ونظرات عميقة عتيقة من الأوراق.
وغيم عجيب ضخم
جاء بالرعد والضحك،
كرؤوس قاتمة لآلهة وثنية.
وجميعها تتموج، بقسوة وجموح وكآبة.
تصرخ: “أنتِ، أنتِ، أنتِ”.
وأنا أرقد في جزع وبؤس.
فوق سقوف بنية
اللون القرمزي يتألق على السقوف البنية.
الألواح الزجاجية الداكنة تتلألأ كالنبيذ.
الهدوء يرفرف على الشوارع المعتمة.
يا بعيدي.
السكينة تلف عتمة الشوارع.
النيران تخبو، تحرق كالدموع.
أغنية تنساب في أعمدة التلغراف:
أنت، أنت…
خريف
أسى المرور
يا عزيزي…
حينما نتجول في
الجادات الفارغة الطويلة
ويدك، سمراء وخريفية،
خريفية ومتعبة،
تستريح في يدي،
دمي لا يزهر،
دمي لا يتذكرك…
عزيزي،
سر المرور…
أعتقد
أن الأرض
في رغبتها في الدوران
حولتنا إلى حجرين، إلى
تمثالين ضخمين داكنين
يطوفان بأناة وبخطو حجري
الجادات المنطفئة.
في المقهى
1
وحيدة في المقهى الآن،
والأصوات تهدأ وتخفت،
والمصابيح تبعث بوهج متلألئ
وتطفو من المقهى
وعلى الشوارع-
كبجع مضيء.
أيها النادل، فنجان صغير من القهوة السادة-
وحيدة في المقهى الآن،
مع لحظات حريرية هامسة،
أرفع نبيذي القاتم الفواح
في نخب الشوارع، في نخب البُعد.
وكأغنية هي الفكرة
أطلق نحو العتمة
ضوء ابيض.
2.
كل الوجوه في الدخان كالأقنعة.
نكتة، هزة كتفين، نظرة كئيبة،
وكلمات جوفاء تتقد، تجعلك تشحب.
هل أهنتك يا عزيزي؟
هنا، جميعنا نرتدي أقنعة باردة هازئة.
نواري الحمى بالسخرية اللاذعة
وآلاف الابتسامات، والصيحات، والتقطيبات.
هل أهنتك يا عزيزي؟
3.
في الوهج البارد للمصابيح
في النظرات، في الأصوات
يطفو صمتي نحوك-
علامة سرية براقة.
يندفع كنسيم الصيف حولك،
يتلعثم في كلامه
عنك وعني.
كلمات هادئة
عنك وعني.
ويغدو صامتاً
يهدهدك بيدين متلهفتين.
يضمك بيدين بيضاوين مرتعشتين.
عبر نوافذ ملونة
عبر نوافذ ملونة ضيقة طويلة
تندفع نحوي الحياة.
كل شخص هو نار خفيفة،
غيمة، برج، حلم طازج.
كل إنسان يسافر في طرق ذهبية قرمزية،
شاسعة وصامتة، نحو الموت.
والأرض كلها شمس آفلة
زهرة عملاقة متأججة محتضرة
ترسل بقوس قزح يرفرف
نحوي عبر نوافذ ملونة طويلة.
أنشودة فخور
على العروش الذهبية
في قصور باسقة
تجلس ملكات الحياة.
عيونهن ماس صلب.
شفاهن رمان ناضج.
بأيدي بيضاء رقيقة
يوزعن على البشر
كؤوس من السم وكؤوس من الغبطة.
في الطابق الخامس
على عرش مكسور
أجلس أنا ملكة الكلمات.
وبيدين بيضاوين رقيقتين
أخلق جنسا من الرجال
والنساء والأطفال الشاردين
وأوزع عليهم
كؤوسا من السم وكؤوسا من الغبطة.
انتهت الحفلة التنكرية
أنا أيضاً رأيت جبابرة في السحب.
جِنة يتجولون على الإسفلت.
نجوم تزهر على صناديق حديدية
صوت يصدح
من خلف شجيرة معتمة.
الليلة، شاب أسمر ممسك بوردة
انحنى عليّ ضاحكاً.
الآن أنا عجوز-
انتهت الحفلة التنكرية.
أكمن في جذور الأشياء.
نبضاتها تندفع ثقيلة في قلبي المتحير.
إنها تخمر، نمو، عشية ليلة عيد صاخبة،
صعود موجع إلى النور عبر الحجر والطين.
تدور الأرض بجلال بكل موتاها،
ومرضاها، ومدنها الحالمة،
وجبالها وغاباتها
وحزم المياه الوامضة الشاحبة.
يعلوها العلامات المهيبة الخفية
للنجوم، والمغيب، والفجر.
تمتد الليالي مشوهة لا يضاهيها شيء.
الخوف من الموت يزعق من الأعماق،
يضع فوقها برفق ذهب القصائد، أساطير براقة.
كل الأحياء مترعون بالحزن، ومتشابهون،
وكل شيء هائل ومبهم.
موتى سئموا من وطأة الحلم
نقشنا على الرمل،
“عالم” و”إله”.
وموتى سئموا من وطأة الحلم،
وببعض السخرية
عميقاً في الرمل كتبنا:
“الخلود”.
تحركت أيدينا بثقل وعشوائية
كأنما تتخبط وسط عاصفة.
لابد وأن يبقى أثر على الأرض:
ألق خفي،
كلمة غير مسموعة
قصيدة واحدة فحسب
لدي قصيدة واحدة فحسب-
من اليأس والكبرياء.
سوداء وبراقة
كالفولاذ والبرونز.
نغمة نشاز
صمت جم، ظلال كثيرة.
أشكّل العالم
بنفسي الأخير.
مرة تلو المرة
بذكريات ثقيلة
امضي عبر القصائد
كالسيف.
إلى فرانز فيرفل
“طوبى لمن
يعيشون في أشكال”.
فرانز فيرفل.
كان الأمر دوماً هكذا:
الترعرع بين أعمدة الشعر.
لم يكن ممتعاً، كلا، أيها الأخ الأكبر.
سمت بي أجنحتي عالياً
فوق الناس، فوق الحياة.
أنا تمثال حداد أقف في فراغ،
حجر مغرد
من نجم مُعادٍ.
تطفو لأعلى أصوات، وضحكات، ونحيب.
إلهي، أنا وحيد أكثر من اللازم.
…
*فرانز فيرفل (1890- 1945) روائي وشاعر وكاتب مسرحي نمساوي.
أغنية فتاة
سأتذكر ذلك الوقت ، وتلك المتعة دوماً
كأغنية بلا كلمات، كقصيدة كتبها فيرلن.
أخاف لو كففت عن الاشتياق،
أين ستكون إذن؟
ترفرف الوجوه كزهرات في الريح،
بشفاه مرتعشة كجروح متأججة.
وتصدح كمنجات، مثل شعراء حالمين،
بالحب والموت.
ظلالنا في المرايا العملاقة
تبادلنا الابتسام، متصلبة ومميزة،
وحول قدميك يلتف
قطاري الحريري.
أيها الوسيم، أريد أن أغدقك بالكثير الآن.
حب؟ موت؟ لا اعرف
لكن هذا الاشتياق يحنيني، يؤرجحني كعاصفة.
تعال واحترق.
جذور أيامي تضرب في الأحجار
جذور أيامي تضرب في الأحجار.
تنمو بألم بالغ
لكن الزرقة فوقها
أكثر صفاءً ورقة.
مثل فروع نحيلة متشابكة
تبقى حيناً ثم تختفي
تجدل سماء
فوقي، وعلى صمتي.
أريد شخصاً غاضباً ورقيقاً
أريد شخصاً غاضباً ورقيقاً،
حياتي برمتها
كانت ترقباً وانتظاراً.
من أجل الحب؟ كلا. ليس من أجل الحب.
من أجل إشارة، معجزة، صوت-
قريب كالأنفاس، وبعيد كالنجوم،
من أجل النداء الجذل الذي لا يُسمع
إلا بأعين مغمضة.
لكني أحب الأرض، رحابة الحياة العادية
وسحرها، وخطاياها المحببة، وواقعها القاسي.
ومع ذلك، حياتي برمتها
كانت ترقباً وانتظاراً.
مثلما تمتلئ نظرتي بالدموع
مثلما تمتلئ نظرتي بالدموع
الليل حميم وازرق.
قل كلماتك الموجعة
لكن بصوت وديع.
وهنا وهناك، في صوتك
سيزهر فجأة
مرج في ضوء القمر
ووجه في نور القمر.
وتلاعب الأسى
بضمير سقيم مجدداً:
اعلم الكثير، أيها المتعب،
لا أود معرفة المزيد.
لكن أصغ، هكذا، حتى وقت متأخر
لمجيء ظل الحب،
حزين كأعشاب النهر
رقيق كأسماء الزهر.
أمشي في ظل حياتك
أمشي في ظل حياتك
بخطى خافتة خانعة
سري محجوب ودفين
في نظرتي المنكمشة.
وأمام عينيك، اللامعتين الهادئتين،
أذعن، كزوجة وطفلة،
وألبي رغبتك الحكيمة الواضحة،
وكل ليلة تنادي الريح،
وترتعش في النهار بابتسامة ورعة،
وترفرف في الكلمة والخطيئة.
سامحني، أيها المخلص،
حين أهيم مع الريح.
بأناة وبهاء
بأناة وبهاء
تحني جبينك الثقيل على جبيني،
تغوص بنارك السوداء
في ناري الزرقاء.
تصير غرفتي مفعمة بالصيف،
تصير غرفتي مفعمة بالليل.
أغمض عينيّ المشرقتين الدامعتين،
وأبكي بصمت في دفء الصيف.
خريف
يخيم الخريف على المدينة ويهبط عليّ
أيها القلب المعتم، اهدأ وتعجب:
انظر، فرع عار بورقة واحدة
يزهر في الإسفلت، غض كزنبقة.
خريف ثقيل، خطوات متثاقلة. أنا عجوز.
لا تلعن يا قلبي المعتم، آمِن بالمعجزات:
في مكان بالعالم
في مدينة ما
أزهر الآن كزنبقة.
بيتي
بيوت رمادية تسبح وتدور
بجانب الأسوار الرطبة، شوارع فضية شاحبة،
والناس عند المداخل
ينحنون، يبتسمون، يتلاشون
يظهرون ويختفون،
عبر قوس قزح من الدموع.
فتاة تجلس بجانب نافذتها
ينساب شعرها في ضوء القمر كمطر أسود
تبحث بعينين عازمتين لامعتين،
كأنها تفتش في غابة،
عن بعيدها.
يا طفلتي لماذا ترتعشين
حينما أقترب؟
الفتيات في حديقة كروتونا
تحيك الفتيات أنفسهن
في المساء الخريفي
كأنهن صورة باهتة.
عيونهن باردة، ابتسامتهن رقيقة وجامحة.
ثيابهن أرجوانية، وخضراء فاتحة، ووردية رمادية.
عروقهن تنضح بالندى.
يتبادلن الثرثرة بمرح.
وفي الأحلام يقع بوتيتشيلي في غرامهن.
من رسالة
الطريق المغبر
الخطوات الثملة…
حبي الأول والأخير،
لا أتذكره.
حينما كان يجيء
يستحيل الشفق حقل أزاهير،
كغابة أكتوبر.
الطريق المغبر
الحقل المحروث
الخطوات المترنحة…
بلا حد، بلا انتهاء
الفرح كان ينمو…
حبي المشرق
لا أتذكره.
الشمس
أعلم أن الشمس هي قناع الرب الذهبي.
أصير هادئة وطيبة،
حينما يسابق دمي الجنون والنفور
يبتسم الرب لي من خلف قناعه.
ويحدث،
أن تعلق الشمس،
في الحديقة الغنّاء ذات الخضرة اللامعة،
كثمرة على شجرة.
ذقتها مرة هناك
في ساعة مشرقة
عصارتها مازالت في فمي.
وأحياناً، في المساء،
عند البحر،
تكون بجعة نارية،
امتطيت مرة ظهرها
ببوق فضي بين شفاهي.